يبدو أنه لا مفر من مجاراة لغة العصر ومستحدثاتها شئنا أم أبينا!
ففي كل صباحٍ جديد، يخرج علينا أهل الفكر والسياسة والأدب بمصطلحات تجعلنا نعيد النظر في مضامين ومسارات حياتنا، ليكون لنا شرف المحاولة في العلم بها وتفهم أغراضها.. ثم يأتي التطبيق الذي يتواءم ومتطلبات الحياة داخل المجتمع .
واليوم يظهر على سطح الأحداث السياسية والاجتماعية الموَّارة في جنبات العالم مصطلح "القوة الناعمة"! فهل هناك على الجانب الآخر- ككفتيْ الميزان- مصطلحٌ آخر يسمَّى بالقوة الخشنة؟ وحتى لا نقوم بالتشويش على فكر المتلقي المتابع باهتمام، دعونا نقم بالتعرف إلى ماهي القوة الناعمة في الأساس، وسيكون التعريف بالجانب الآخر- بالتأكيد- سهل المنال والوصول إليه.
يقول علماء الاجتماع إن القوة الناعمة هي استطاعة النخبة والصفوة من رجالات الفكر والقادة الضالعين في معترك السياسة؛ وهي القادرة بعناصرها على الحصول على ما تريد الوصول إليه سياسيًا وفكريًا وعقائديًا؛ عن طريق الإقناع والجاذبية في عرض الأفكار دون ضغط أو إجبار الغير على اعتناقها أو عن طريق الإغراء بالأموال -كما يحدث في بعض الانتخابات- وهي ما نسميه في العُرف الاجتماعي بسياسة تزوير الإرادة، وهي أشد وأعنف وأخطر من تزوير الأصوات عن طريق الاقتراع بالصناديق، إذ يكون ساعتها الولاء للمال، وليس للمبدأ والفكرة.
وتعتمد "القوة الناعمة" في الأغلب الأعم على قوة الجذب للمضامين الثقافية في المجتمع وسياساته العامة المعلنة فكرًا، ويدعمها التطبيق الفعلي على أرض الواقع. ففي حالة التوافق بين الفكرة والنظرية والتطبيق، يكون الانتصار للمصداقية في قوة الجذب أكثر فاعلية، ويتبعها التزام مؤكد من قبل المنضمين الجُدد في طابور المؤيدين واتساع دائرتهم باكتساب عناصر فاعلة قوية.
وهذه القوى الناعمة- المفترض إخلاصها لصالح الوطن- عليها العبء الأكبر في اتساع "مغناطيس الجذب" للطاقات الخلاَّقة لقوى الشباب عن طريق شن الحرب الثقافية العقلانية لتغيير المناهج التعليمية وتشذيبها من كل ما يخالف المنطق والعرف في التراث الديني بالذاتـ- خاصة نظريات عدم قبول الآخر سياسيًا وعقائديًا- وهي "اللعبة التاريخية" التي ينتهجها الغرب منذ طرد الاحتلال العسكري من الشرق الأوسط، فكان الالتفاف عن طريق إثارة النعرات القبلية والطائفية والمذهبية بين الدول العربية والعالم الثالث بوجهٍ عام، وهي ما تسمَّى المؤامرة الكونية التي حيكت بليلٍ في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي على يد عتاولة الصهاينة ومؤسسي دويلة إسرائيل "موسي شاريت وبن جوريون"، وقام بدعمها في الثمانينيات الكونجرس الأمريكي، والهدف: تفتيت الخريطة العربية بالتقسيم العرقي والمذهبي!
فنحن الآن وأمام كل هذه التحديات الصريحة والمعلنة، هل سندفن رءوسنا في رمال اللامبالاة والاندفاع وراء الصراعات المادية الحياتية؟، وهل سنتغافل عن تلك البنادق المحشوة برصاص الغدر للإيقاع بنا في شرك التقسيم والتشرذم؛ وأصابع إسرائيل لم تترك "الزناد" لحظة واحدة منذ ظهور كيانها كشوكة في ظهر العرب، والشرق الأوسط بصفةٍ عامة، لتحقيق حلم "هرتزل" بإسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات؟.
والسؤال الحائر الآن على ألسنتنا- نحن المهتمين بالشأن العام- ويبحث عن إجابة شافية: هل شبابنا بكل فئاته وشرائحه العُمرية يعلم بتلك المؤامرة وأبعادها؟ بدلاً من الاستغراق في مهاترات التلاسن على صفحات التواصل الاجتماعي التي أتت بكل النتائج العكسية، فأصبحت صفحات "التباعد الاجتماعي" بما يتم عليها من صراعات لا فكرية ولا تستند إلى الوثائق والمستجدات على الساحة الدولية، ولا يعلمون شيئًا عمن يتربصون خلف تلك الحوائط الزرقاء على أجهزة الكمبيوتر. بل يمتد السؤال إلى أعمق من هذا بكثير، فنتساءل : ما هو دور القوة الناعمة في جعله على علمٍ بإيجاد حلول تخرجنا من عنق الزجاجة، فشبابنا سيتسلم الراية إن آجلا أم عاجلا؛ وعلى عاتقه ستلقى تبعة المسئولية وصياغة الحلول المنقذة، فيجب عدم ترك يده في الماء البارد، وإقامة منتديات الشباب، وبعض المشروعات لا يكفي لغرس الوعي الكافي لإعداده لمجابهة عثرات المستقبل.
المهمة جد ثقيلة، والمسألة يجب ألا تترك للعشوائية في التنفيذ، ومصير الأجيال الحالية والقادمة في أعناق رجالات الفكر والسياسة والأدب، ولم تعدم- ولن تعدم- مصر من هؤلاء المفكرين حاملي مشاعل التنوير في كل زمان، والمطلوب الكثير من الحزم في سرعة وضع استراتيجية يلتزم بها الجميع، حتى وإن كان يشوبها بعض القسوة في استئصال العناصر المناهضة بالاستبعاد وتنظيف الساحة من أصحاب الأفكار المناوئة التي تعطل مسيرة التنمية، التي تُعد حائط الصد المنيع لكل أبعاد المؤامرة الكونية على تفتيتنا وذهاب عالمنا أدراج الرياح.
ولكننا- وللحق نقول- إنه ليست هناك مسئولية بلا سلطة! ولا نستطيع أن نلقي بالتبعة على أكتاف نخبة "القوى الناعمة" لحماية الأمن القومي دون منحها سلطة التنفيذ والمتابعة الفورية والمستمرة، فلابد من تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية- وهذه سلطة الأجهزة التنفيذية الحاكمة بخططها المدروسة على أرض الواقع- وحينئذٍ سيضطلع كل فرد داخل المجتمع بواجباته العملية آمنًا مستقرًا على أوضاعه الاجتماعية والصحية، علاوة على ضرورة وجديّة ما تبذله وسائل التواصل المرئي والمقروء نحو غرس كل ما يحض على تقوية الوازع الوطني، والارتقاء بالشعور بالذائقة الجمالية وتنمية الثقافة المعرفية بكل الشفافية بأوضاع الوطن وتحدياته الآنية والمستقبلية.
إنه الوطن .. فماذا بعد ضياع الوطن وتمييع الهويَّة؟