أثار الرفض الإسرائيلي للاعتذار لكل من أنقرة والقاهرة، على خلفية مهاجمة قافلة الحرية التركية "مافي مرمرة"، وقتل 9 جنود أتراك في مايو 2010، واستشهاد جنود مصريين فى منطقة الحدود في أغسطس 2011، تساؤلات في الأوساط السياسية حول أسبابه من وجهة نظر الإسرائيلية، لاسيما أنه بدا أن إسرائيل دولة لا تقدم اعتذارات عن أخطائها، بينما لا تتوانى في إثارة الأزمات والمشكلات ضد أى طرف يمسها أو يتحرك ضد مصالحها، أو يطرح مجرد تساؤلات تاريخية حول وقائع تتعلق بها، وتطلق ضده القوة الإعلامية الهائلة التي تمتلكها، مستخدمة سلاح "معادية السامية" أو "رعاية الإرهاب".
الجانب الآخر هو أن إسرائيل اتخذت هذا الموقف، على الرغم من تحول مسألة الاعتذار إلى أزمات حادة، فقد طردت تركيا السفير الإسرائيلي، بعد رفض تل أبيب الاعتذار، والاكتفاء بإعلان أسفها لمقتل مواطنين أتراك، وبدأت فى السير باتجاه إجراءات تصعيدية. كما شهدت مصر، إضافة إلى المواقف الرسمية الخاصة بالتحقيق فيما جرى، حالة احتجاج شعبية حادة، وصلت إلى استهداف ومهاجمة السفارة الإسرائيلية بالقاهرة عدة مرات، وصولا إلى اقتحامها، لعدم كفاية رد الفعل الإسرائيلى، مما أدى إلى أزمة دبلوماسية بين الجانبين، وبالتالى توجد خسائر إقليمية لها.
فى هذا الإطار، تحتاج القصة من داخل إسرائيل إلى توضيح، فلماذا لاتعتذر؟ وهو ما يمكن تناوله فى النقاط التالية.
أولا - أبعاد هوياتية في الشخصية الإسرائيلية:
لقد عزا البعض رفض الاعتذار بشكل مباشر إلى ما تنطوي عليه الشخصية الإسرائيلية من غطرسة ترتد في جوهرها إلى مكونات الشخصية اليهودية التي تؤمن بأن اليهود هم شعب الله المختار، وهو ما يرتب تبعات تبيح انتهاك حقوق "الجوئيم" –كل من هو غير يهودي- بدون عقاب إلهي أو بشرى.
ولا يبدو هذا الربط بين الشخصيتين اليهودية والإسرائيلية صحيحا بالمطلق، إلا في إطار فهم الجدل بين الهويتين الإسرائيلية واليهودية ، وموقف كل منهما من العلاقة مع الآخر في ظروف محددة. كما أن الارتكان إلى أن هناك شخصية يهودية لها سمات محددة وثابتة لا يتفق مع البحوث التاريخية والعلمية، بل إنه يقدم دعما غير مباشر لفكرة أن اليهود يشكلون شعبا وأمة لهم خصائص محددة، وبالتالي يحق لهم إقامة دولة على أساس قومي باعتراف الآخرين، ويبطل الحجج المناهضة للاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي.
ولكن من دون شك، فإن الإسرائيليين- شأنهم شأن أي شعب آخر- يمكن أن تتداخل في شخصيتهم الهويتان الدينية والقومية. وعادة ما تخلق الهويات المتعددة داخل الشخصية الواحدة تناقضات عند تفاعلها معا في ظروف محددة ، وهذا الأمر يسرى على اليهود، كما يسرى على أتباع الديانات الأخرى في أي مكان في العالم.
وتظهر المشكلة في إسرائيل في تحول المفاهيم الدينية الصرفة التي هي نتاج "الجيتو" و"الشتات" إلى مفاهيم حداثية. ففكرة التفوق اليهودي المطلق "شعب الله المختار" تحولت في المفاهيم الحديثة لليهود العلمانيين الذين أسسوا الحركة الصهيونية ، ونجحوا في إقامة الدولة الخاصة بالشعب اليهودي إلى فكرة "معاداة السامية". وبدلا من التحدث عن التفوق اليهودي، يتم الحديث عن كراهية الآخرين لليهود، وسعيهم لإيقاع الأذى بهم .
وفي حين لم ترتب فكرة شعب الله المختار على مدى ما يزيد على ألفي عام أي خطر على الآخر غير اليهودي، فإن فكرة معاداة السامية، وهى الطبعة المشوهة لشعب الله المختار، قد أدت إلى تسليح الشخصية الإسرائيلية بالخوف والتوجس من الآخر ، مضافا إليهما شرعية التحرك ضده ومنعه من إيقاع الأذى المتخيل بالشخص الإسرائيلي، وبالتالي أصبح كل فعل إسرائيلي عنيف ضد الآخر هو نوعا من الدفاع المشروع الذي لا يرتب اعتذارا أو تعويضا لهذا الآخر.
ومما لا شك فيه أن صعود الأصوليات الدينية عامة، والأصولية الإسلامية خاصة، بمفاهيمها حول العلاقات بين أتباع الديانات المختلفة قد أسهم في مد إسرائيل وبعض الجماعات اليهودية المتشددة في الخارج بحجج للزعم بأن اليهود والإسرائيليين قد يتعرضون لمذابح ومحارق، مثل تلك التي ارتكبها النازيون في القرن الماضي، وأن ذلك يعطيهم الحق المطلق في الدفاع عن أنفسهم ، والتصدي لمصادر التهديد قبل تحركها لتنفيذ مخططاتها ، حيث لم يتحرك العالم في الماضي لإنقاذهم من النازية، ولم يعتذر عن خطئه في حقهم إلا قليلا، بل ظل البعض يشكك في المحرقة حتى اليوم، وليس من المستبعد أن يتعرض اليهود ودولة إسرائيل لخطر مماثل في المستقبل.
وينطبق ذلك التصور أيضا على مسارح العمليات العسكرية ، فلا يصبح قتل أبرياء ممنوعا أو محرما، إذا كان أمرا ضروريا لمنع الخطر المحدق بإسرائيل.
وفقا لهذه الرؤية ، تسعى إسرائيل عادة لتفادى تقديم اعتذار عن الجرائم التي ترتكبها، وتكتفي بتقديم الأسف لسقوط أبرياء في مواجهات لا تستهدفهم. وقد فعلت ذلك في حوادث قتل لمدنيين أثناء العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وفى حروبها ضد لبنان، كما يمكن أن تقدم تعويضات للضحايا الأبرياء، وفقا لمبدأ قانوني مشتق من حالات استثنائية، مثل مبدأ "التعويض بدون مسئولية".
ثانيا- أبعاد قانونية وعسكرية:
رغم أن إسرائيل سبق أن قدمت اعتذارا رسميا لتركيا في14 يناير 2010، بعد أربعة أيام فقط من معاملتها لسفيرها معاملة مهينة، فإن الأمر سيختلف، إذا ما قدمت إسرائيل اعتذارا عن قتل أتراك أثناء عملية عسكرية إسرائيلية. ففي حين لا يرتب تقديم الاعتذار لدولة أهين ممثلها أية تبعات قانونية أو خسائر مادية، فإن تقديم إسرائيل اعتذارا لدولة عن سقوط ضحايا لها يرتب حقوقا للدولة المعتدى عليها، بدءا من حقها في المشاركة في التحقيقات، ومثول جنود إسرائيليين أمام لجنة تحقيقات مشتركة.
إن تلك التبعات، إذا ما أقدمت إسرائيل على الاعتذار لتركيا، يتنافى مع مبدأ عدم التحقيق مع جندي إسرائيلي أو محاكمته أمام جهات أو محاكم ليست إسرائيلية صرفة. كما أن نتائج هذه التحقيقات قد تكشف عن أسرار عسكرية غير مصرح بإفشائها، فضلا عن إمكانية الكشف عن أن الأوامر التي صدرت للجنود قد استهدفت عن قصد قتل وإصابة أشخاص لم يكونوا في وضع هجوم ضد القوات المهاجمة، والذي يرتب عقوبات دولية على الدولة المعتدية، ولا يحمى الجنود الإسرائيليين أنفسهم من احتمال محاكمتهم أمام محاكم الدولة التي تعرضت لاعتداء، أو أمام محكمة جنائية دولية.
يضاف إلى ذلك أن إسرائيل ستضطر في هذه الحالة ليس فقط لدفع تعويضات كبيرة، بل لتقديم التزام بعدم تكرار الحادث، بما يؤدى إلى تقييد حرية عمل جنودها في المناطق الحدودية، بغض النظر عن أية أنشطة تراها خطيرة يقوم بها طرف ثالث قد يتحرك عبر هذه الحدود بهدف تنفيذ عمليات عسكرية داخل إسرائيل، الأمر الذي ينعكس سلبا على قدرة ومصداقية الردع الإسرائيليين.
لقد حاولت تركيا أن تنتزع من إسرائيل اعترافا بخطئها في الهجوم على السفينة التركية، ولم تفلح في ذلك على مدى خمسة عشر شهرا، لما يعنيه من تبعات قانونية وسياسية وأمنية خطيرة على إسرائيل .
غير أن الأمر يبدو مختلفا مع مصر، فحاجة إسرائيل للحفاظ على علاقتها بمصر أكبر من حاجتها للحفاظ على مثيلتها في تركيا. كما أن التفاهمات المتعددة المستويات بين مصر وإسرائيل تضمن عدم تصعيد الأمور إلى حد تعريض الجنود الإسرائيليين لخطر المحاكمة خارج إسرائيل. أيضا، يبدو تهديد الجماعات الأصولية المتشددة وتحركها في سيناء وعلى الحدود المشتركة مع إسرائيل خطرا على كلا البلدين، وسيظل التعاون الأمني بينهما مطلوبا للتغلب على التهديدات التي تمثلها هذه الجماعات .
وبدون هذا الاعتذار، قد تقلل مصر من تنسيقها الأمني مع إسرائيل، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا عليها، سواء لجهة ضمان سلامة وأمن خطوط الغاز المصرية الواصلة إليها، أو لجهة التعاون في منع عمليات التسلل عبر سيناء والمناطق الحدودية.
وتدرك إسرائيل أيضا أن الرأي العام المصري قد يتفهم طبيعة حساسية العلاقات الأمنية بين البلدين، إذا ما تلقى اعتذارا رسميا واضحا عن حادث مقتل جنوده، بما يخفض الضغوط الحالية المطالبة بإلغاء المعاهدة أو تعديلها.
وفي هذا الإطار، يمكن فهم ميل عدد كبير من المحللين والكتاب الإسرائيليين لمطالبة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بتقديم اعتذار عاجل لمصر، ومنهم- على سبيل المثال- إيتان هابر، محلل الشئون السياسية بجريدة يديعوت أحرونوت، والذي نشر مقالا في 22 أغسطس الماضي، قال فيه "حدث خطأ من جانبنا، وأصيب وقتل جنود مصريون، فلنعتذر وكفى، فنحن نريد العيش في سلام". فيما طالبت المحللة سيميدار برى بأكثر من ذلك بقولها " فلنعتذر لمصر حتى من قبل ظهور نتائج التحقيق في حادث مقتل جنود مصريين على الحدود".