يوسف الشريف
فاجأت الثورات العربية الشارعَ التركي وجذبت اهتمامه وبدأت تؤثر باتجاه تغيير الصورة النمطية القديمة للعالم العربي المحفورة في الذهن التركي، والأهم أنها جاءت في وقت يناقش فيه الشارع التركي هويته وانتماءاته من جديد في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية وبعد تسع سنوات حافلة، وأربع باقية حاسمة، وعلى عتبة خط دستور جديد يُعتقد بأنه سيكون نموذجاً للديموقراطيات المحافظة في المنطقة، وسيكون الاختبار الأهم للحكم على تجربة رجب طيب أردوغان وعبدالله غل ورفاقهما التي بدأت بالانشقاق عن حزب السعادة الإسلامي والأب الروحي لحركة الإسلام السياسي في تركيا الراحل نجم الدين أربكان.
باغتت الثورة السورية تركيا فيما كانت حكومة أردوغان تواجه اتهامات بالسعي لأسلمة تركيا والقضاء على الارث الأتاتوركي بعد سقوط قلاع الأتاتوركية واحدة تلو الاخرى، ابتداء من القصر الجمهوري الى الهيئة العليا للقضاة فالمحكمة الدستورية وأخيراً الجيش. بالنسبة الى كثير من الأتراك، وبالأخص المؤيدين للحكومة، وصل الاهتمام بالأزمة السورية الى حد وصفها بالشأن الداخلي، وبدا امتداداً طبيعياً لسياسة خارجية ركزت على الشرق الاوسط في الفترة الماضية، وصنعت هذه السياسة لتركيا صورة جديدة كقوة اقليمية لها وزنها وكلمتها، فيما دق هذا الاهتمام ناقوس الخطر لدى البقية الباقية، خصوصاً من الأتاتوركيين والقوميين، الذين اعتبروا أن هذا الاهتمام سيجر تركيا الى مستنقع الشرق الاوسط الذي نجحت تركيا في عزل نفسها عنه لعدة عقود.
والأهم أن هذا الاهتمام وما سيترتب عليه من نتائج، سيعني إسدال الستار على مشروع الاتحاد الأوروبي وإرث أتاتوركي حاول أن يرسم لتركيا القرن العشرين هوية غربية أوروبية، من هنا يمكن أن نفهم تحذيرات زعيمي حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي والحركة القومية لرئيس الوزراء أردوغان من الانسياق وراء الأزمة السورية، من باب أنها تؤثر على الامن القومي التركي.
لم تكن سياسة وزير الخارجية احمد داود أوغلو الخارجية المركزة على الشرق الاوسط لتزعج القوميين والأتاتوركيين سابقاً – فيما عدا تلك التي توطدت مع إيران - طالما أنها ركزت على فتح أسواق جديدة لرجال أعمالهم وطالما أنها يسرت حركة مرور المواطنين الأتراك وطالما أنها جلبت لتركيا سمعة طيبة ورفعت من أسهمها في المنطقة، لكن الامر بدأ يختلف مع وصول نار الثورات الى الحدود التركية، ودفْعِ واشنطن وبعض القوى الأخرى أنقرة للانزلاق إلى الفخ السوري، ناهيك عن انشغال تركيا –كما يرى هؤلاء- بملف القضية الكردية الذي أشعله حزب العمال الكردستاني بشكل مفاجئ يدعو الى الشك والتفكير في دوافعه وتوقيته، والتركيز أيضاً على وضع مسوَّدة الدستور الجديد الذي من المفترض أن يبدأ البرلمان مناقشتها في دورته المقبلة تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. من هنا يبدو الشارع التركي منقسماً حيال الأزمة السورية سياسياً واجتماعياً، بين شريحة إسلامية متدينة ترى في الازمة السورية فرصة للتأكيد على هوية تركيا الإسلامية والشرق أوسطية، وتنشط على هذا الصعيد تواصلاً مع المعارضة السورية الإسلامية ودعماً لها، وبين من يريد الحفاظ على مسافة بين تركيا وبين الشرق الاوسط، من أجل الحفاظ على هوية تركيا التي يقول إنها تنتمي الى أوروبا أو الغرب، خصوصاً أن هذا القسم، بقومييه ويسارييه وأتاتوركييه، فشل في التواصل مع الأزمة السورية على الارض، لذا لا نرى جمعيات هذا الطرف التي تدافع عن الديموقراطية وحقوق الانسان في تركيا، تحرِّك ساكناً حيال ما يحدث في سورية، وكأن الحدث هناك لا علاقة له بحقوق الانسان أو الديموقراطية، بينما كانت لهذه الجمعيات بَصْمَتُها في التظاهر ضد الاحتلال الاميركي للعراق، وأحياناً دعماً للقضية الفلسطينية (الاهتمام بهاتين القضيتين جاء من خلال الانضمام الى نشاطات لجمعيات مدنية دولية غربية، أوروبية تحديداً).
أما سياسياً فتشكل الأزمة السورية عبئاً على شخص أردوغان وطموحاته خلال فترة حكمه الأخيرة كرئيس للوزراء، فهو يريد أن يدخل التاريخ من خلال اقرار دستور جديد يضع حلاًّ للقضية الكردية ويثبِّت أقدام الحكم المدني ويوسع مساحة الديموقراطية، وهو كذلك يريد الحفاظ على ثمرة استقرار تركيا اقتصادياً وسط عالمٍ تتهاوى اقتصادياته وأوروبا مهددةٍ بالإفلاس، لكنه في الوقت نفسه ملتزم أدبياً وأخلاقياً بالأزمة السورية، خصوصاً بعد كل تلك المواقف القوية التي عوّد الشارع عليها في أزمات الشرق الاوسط المختلفة، فلعله الآن يدفع ثمن هذه الكاريزما وتلك التصريحات من خلال موقف يجد نفسه مدفوعاً به تجاه سورية وقد يتعارض مع مصالح تركيا الاقتصادية وأحلامه الشخصية. ففرض عقوبات اقتصادية على سورية يعني خنق الاقتصاد التركي الذي فقد السوق الليبية، فيما السوق الاوروبية أفلست، كما أن تسليح المعارضة أو دعمها على الارض سيورطه في مشاكل أمنية، من خلال ردّ إيراني سوري على تلك الخطوة بالتأكيد.
وهناك سؤال مطروح مشروع حول ما اذا كان داود أوغلو سيعيد النظر في سياسته الخارجية القائمة على حسن الظن والصداقات الشخصية والعائلية، فعلاقة أردوغان ووزير خارجيته الوطيدة بكل من الرئيس السوري بشار الاسد والزعيم الليبي معمر القذافي، جعلتهما يعتقدان بأن هناك مكاناً للعواطف و»العشم» في عالم السياسة، وأن هذه العلاقة ستمكنهما من لعب دور الوسيط من أجل حلّ الأزمات، لكنهما اكتشفا أن وزن الفيتو الروسي والأسلحة الإيرانية أكبر وأكثر حسماً في الأوقات الحرجة، وبدا أن سياسة القوة على الأرض أقوى من رجب طيب أردوغان .
لكن، على الاغلب، لن يغير داود أوغلو من إستراتيجيته هذه بسبب شخصيته وفلسفته السياسية الثابته وشخصية رئيس الوزراء أردوغان، وربما يتم إجراء بعض الرتوش عليها مستقبلاً.
إن سورية ديموقراطية ستفتح الباب على مصراعيه أمام تركيا في الشرق الاوسط من أجل تثبيت قدميها وتوسيع دائرة تأثيرها، لكن حرباً أهلية فيها ستعيد تركيا الى المربع الاول في رحلتها مع الشرق الاوسط، لذا فإن أنقرة ستسعى قدر المستطاع لتجنب هذا السيناريو، وعلى الأرض تشكل الأزمة السورية عملية تدريب وصقل مهمة جداً للتيارات الإسلامية في تركيا وجمعياتها، حتى باتت نشاطات هذه الجمعيات أمراً لا يمكن اغفاله أو تركه خارج الحساب، من مغامرة سفن مرمرة وحتى استضافة أكثر من مؤتمر للمعارضة السورية في تركيا.
(*) نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية