كانت قضايا السياسة الخارجية المصرية في مرحلة ما بعد الثورة حاضرة في كثير من المؤتمرات والندوات، خاصة بعد سنوات من التدهور والتخبط الذي أصابها خلال فترة حكم "مبارك" الأخيرة، والذي انعكس في تدهور الدور الإقليمي المصري ومصالحها في كثير من المناطق المهمة للمصلحة والأمن القومي المصري، وكانت القارة الإفريقية إحدي تلك المناطق.
وفي إطار الاهتمام بإعادة تشكيل السياسة الخارجية لمصر ما بعد الثورة، عقد معهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، بالاشتراك مع جمعية خريجي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وبالتعاون مع مركز تنمية الموارد الطبيعية والبشرية في إفريقيا، ومركز البحوث الإفريقية بالمعهد، مؤتمرا بعنوان "ثورة 25 يناير 2011 ومستقبل علاقات مصر بدول حوض النيل". وتنقسم أوراق المؤتمر البحثية، التي وصلت إلي ثمانين ورقة بحثية، إلي أربعة محاور رئيسية هي: أسباب وتطلعات ثورة يناير، العلاقات المصرية مع دول حوض النيل قبل ثورة يناير، التكامل بين دول حوض النيل، وأخيرا آفاق العلاقات المصرية مع دول حوض النيل في مرحلة مابعد ثورة يناير.
ثورة يناير واستعادة الدور والمكانة :
ناقش المؤتمر توجهات السياسة الخارجية المصرية تجاه القارة الإفريقية وقضاياها في مرحلة ما قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي كانت قائمة علي مفهوم "التكلفة والعائد"، وهو مدخل جد خطير للاعتماد عليه في تحديد الدور المصري في القارة ومواقفه تجاه كثير من قضايا دولها، إذ نظر للدور المصري الخارجي وفاعليته إقليميا باعتباره مكلفا اقتصاديا. فقد أغفل نظام "مبارك" حقيقة أن المصالح المصرية تتحقق في ضوء النفوذ المصري وليس من خلال الانكفاء المصري. وفي هذا السياق، تمت الإشارة إلي اتفاقية المياه 1959 التي تم توقيعها في وقت تميز فيه الدور المصري بالفاعلية علي الأصعدة كافة. فمصر لا تستطيع أن تحقق مصالحها إلا في ظل دور إقليمي نشط ومتفاعل مع جواره الإقليمي.
وأكد المؤتمرون أن نجاح ثورة يناير يمثل فرصة مواتية لاستعادة مصر دورها الإقليمي والدولي. فالقيم والمثل (الحقوق المدنية والكرامة الإنسانية) التي قامت ونادت بها الثورة المصرية أعطت دفعة هائلة للقوة الناعمة المصرية لتكون عنوان المرحلة الجديدة للدور المصري، ناهيك عن الأدوات الصلبة التي تمكن مصر من التفاعل مع محيطها الإقليمي. ولعب مصر دور خارجي فاعل في القارة الإفريقية في المرحلة القادمة لا ينفصل عن الشأن الداخلي المصري، وصياغة نظام سياسي ديمقراطي، بحيث يكون نموذجا ملهما ومؤثرا لباقي دول القارة.
والمرحلة القادمة من السياسة الخارجية المصرية الإفريقية لابد أن تقوم علي عدد من الأولويات، من قبيل تنشيط العلاقات السياسية مع الدول الإفريقية علي المستويات كافة، والاضطلاع بدور نشط في احتواء الأزمات الإفريقية قبل أن تتفاقم، وعودة دور الدبلوماسية الوقائية، والمشاركة في حل الأزمات التي تنشب بدور فاعل وليس بدور المتفرج، وتبادل المشروعات الاستثمارية والتنموية بين الجانبين.
مستقبل العلاقات المصرية - السودانية :
حظي الملف السوداني والعلاقات المصرية - السودانية في مرحلة ما بعد الثورة باهتمام المؤتمر، لكون السودان يمثل عمقا استراتيجيا لمصر، وأن ما يحدث فيه يكون له جل الأثر علي الأمن والمصلحة القومية المصرية، وأن أمن مصر من ناحية العمق الإفريقي مرهون بأمن السودان واستقراره. لذا، تبرز أهمية السياسة المصرية تجاه السودان للحفاظ علي استقراره، وفي تعزيز التكامل بين الجانبين المصري والسوداني.
وركز المشاركون علي التغيرات الكبيرة التي شهدها الواقعان السوداني والمصري خلال عام 2011، والتي اتسمت بطابع المفاجأة في تطوراتها الديناميكية. فقد انقسم السودان لدولتين شمالية وجنوبية، بعد الاستفتاء لشعب جنوب السودان في يناير من العام الجاري. وفي الخامس والعشرين من يناير 2011، انتفض الشعب المصري ليسقط نظام "مبارك". وهذان الحادثان غيرا الأوضاع في كلا البلدين، مما يستوجب ضرورة صياغة استراتيجيات جديدة، في ظل تلك المعطيات، لمزيد من التقارب بين الشعبين لتحقيق أكبر قدر من المصلحة المتبادلة وفق رؤي حكومية راشدة.
وبناء علي ما تقدم، فإن علاقة مصر بالسودان يجب أن تسير في ثلاثة اتجاهات رئيسية، أولها: توطيد العلاقات مع السودان الشمالي، وصولا للتكامل بين البلدين، والعمل علي طرح خيار وحدة وادي النيل كخيار استراتيجي، ومناقشة تحدياته، وتقييم الاتفاقات السابقة بين البلدين. ثانيها: أن تعمل مصر منفردة، وبالتعاون مع شمال السودان وجنوبه، لإيجاد روابط استراتيجية قوية بينها وبين الدولتين، والحفاظ علي سلامة تأسيس الدولة الجديدة، والحد من الحروب الأهلية وانتشارها لما تسببه من زعزعة للأمن القومي في وادي النيل. وثالثها: السعي المشترك لإيجاد حل سريع وعادل لأزمة دارفور، واتباع سياسة حكيمة في منطقة التماس (جنوب كردفان والنيل الأزرق ومنطقة أبيي).
التكامل بين دول حوض النيل :
وأثار المؤتمر تساؤلا رئيسيا مفاده: هل يلعب الأمن المائي والغذائي دورا في تحقيق وتعزيز التكامل بين دول حوض النيل؟. وتلخصت الإجابة علي هذا التساؤل في أن الأمن المائي والغذائي من أهم القضايا التي تشغل بال الكثير من المهتمين بالأمن القومي لدول حوض النيل، حيث تمتلك دول الحوض الكثير من المقومات التي تحقق هذا الهدف، ولكن ينقصها التكامل من خلال المشروعات المشتركة التي تحقق التنمية المستدامة.
ولذلك، تلعب قضيتا الأمن المائي والغذائي لدول حوض نهر النيل دورا كبيرا في وضع تصور لتكامل اقتصادي بين دول الحوض، لاسيما وأن دول الحوض شهدت الكثير من المجاعات، وكذلك صراعات بين الدول الإفريقية والعربية علي تقسيم مياه النيل، بالإضافة إلي أن هذا التكامل يمكن أن يعالج المشكلات البيئية والتنموية.
------------------------------------
معهد البحوث والدراسات الإفريقية - جامعة القاهرة القاهرة : 30 - 31 مايو 2011