على رأس المشكلات التي تواجه الولايات المتحدة اليوم تلك المتعلقة بتراكم الالتزامات المترتبة عليها بمرور الوقت دون امتلاك الموارد المادية الكافية لمواجهتها. من بين تلك الالتزامات المتنوعة والمتعددة الالتزامات التي تتطلبها "القيادة الأميركية للعالم". وليس هناك من شك في أنه لا توجد لحظة مناسبة لإعادة تقييم الالتزامات أوالافتراضات التي تنطوي عليها تلك العبارة القصيرة أفضل من لحظتنا الحالية.
الكثيرون من الأميركيين لا ينتبهون إلى أن التاريخ قد دخل حقبة جديدة، فـ"اللحظة الوحيدة القطبية"، التي نتجت عن سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 مضت، وانقضى أمرها. فلكي نشير إلى الولايات المتحدة في الوقت الراهن على أنها "القوة العظمى الوحيدة"، فإن ذلك سيشبه ادعاء "جنرال موتورز" بأنها شركة السيارات الأولى في العالم على الرغم من ذلك التعلق من جانبها بأهداب المجد بات غير مناسب لها في الوقت الراهن بعد أن لحقت بها شركات أخرى توشك أن تتجاوزها. فكلا الادعاءان إذن ليس لهما معنى. على المنوال نفسه، فإننا عندما نقول إن أوباما هو"أقوى رجل في العالم"، فإن ما نقوله يشبه بمن يخاطب الملكة اليزابيث الثانية على سبيل الاحترام بلقب "ملكة بريطانيا العظمى، وإيرلندا والبلاد الخاضعة للتاج البريطاني في ما وراء البحار". فرغم أن - الأخير - لقب جميل حقاً، فإنه لا يعني شيئاً فيما يتعلق بالسلطة الفعلية التي تتمتع بها الملكة.
في الوقت الراهن هناك نظام عالمي جديد يتشكل على نحو سريع، والأمر المؤكد أن الولايات المتحدة في سياق هذا النظام ستظل لاعباً في غاية الأهمية، ولكن سيبرز إلى جوارها لاعبون آخرون مهمون أيضاً تأتي الصين في مقدمتهم، ويأتي وراءها دول أخرى مثل روسيا، والهند، وتركيا، واليابان، وكوريا الجنوبية تطالب بالاعتراف بها.(أما إذا كانت أوروبا التي تعاني في الوقت الراهن من الفوضى والتشوش، ستتمكن من تجميع الإرادة والإمكانيات المادية التي ستمكنها من الانضمام لهذه المجموعة في نهاية المطاف، فهو أمر لا يزال في خانة المجهول).
وليس في يد واشنطن شيئاً تستطيع عمله من أجل الحيلولة دون حدوث هذا التحول، قد يصر الساسة الأميركيون على أن الولايات المتحدة لا تزال مختلفة عن باقي العالم وأنها قادرة على تمييز نفسها - من خلال المحافظة على تقييم (AAA) للأبد، بل يمكن القول هنا كلما واصلنا الإصرار على فكرة التفوق والبروز الأميركي - من خلال التمادي في إشباع رغبتنا في خوض حروب بعيدة عن وطننا لأغراض مشبوهة على سبيل المثال - كلما أدى ذلك إلى تسريع عملية التحول، بل وانتقال أميركا من مرحلة الأفول النسبي إلى مرحلة الأفول النهائي.
بعد أن قلنا ذلك، ثمة الكثير مما يمكن للولايات المتحدة عمله، بل ويجب أن تقوم بعمله في جميع الحالات من أجل ضمان أن العالم المتعدد الأقطاب البازغ سيكون عالماً مستقراً مسالماً وملائماً لمصالح الشعب الأميركي. فالتعددية تعني في أحد جوانبها التعقيد. فمنذ ما يزيد على قرن، أدى سوء إدارة آخر عالم متعدد الأقطاب كان قائما لدينا - نتيجة للتعقيد الذي تنطوي عليه فكرة التعدد - إلى إشعال نيران الحرب العالمية الأولى، التي تلاها الكساد العظيم ثم حرب عالمية ثانية في أقل من نصف قرن أسوأ من الأولى بمراحل. وتلافي تكرار تلك السلسلة من الكوارث يجب أن يمثل هدفاً ملحاً وشاملًا واستراتيجياً لعصرنا الحالي.
ليس من المحتمل أن يؤدي إنفاق مئات المليارات من الدولارات في محاولات تهدئة أفغانستان - دون جدوى - إلى المساعدة على تجنب تلك الكوارث. الشيء الأكثر فائدة ومنفعة، وإنْ لم يكن أقل مشقة سوى بالكاد يمكن أن تتلخص فيما يلي:
وضع حدود للتفاوض على مختلف الأمور ذات الأهمية - وضع قيود على استخدام القوة على سبيل المثال - والذي سيحد من قدرة الدول العظمى في القرن الحادي والعشرين على امتلاك حقوق وامتيازات خاصة تقتصر عليها ولا تمتد للآخرين.
تأسيس أعراف تتحكم في المنافسة، التي ستندلع حتماً بين القوى الكبرى على الموارد الطبيعية المتناقصة على الدوام. تقليص التسليح والحد من تجارة الأسلحة على المستوى الدولي، والحد بالتالي من توافر الأسلحة التي تساعد على إدامة الحروب بمجرد بدئها. تركيز المزيد من الجهد الدبلوماسي على النقاط الملتهبة التي تهدد بوضع القوى العظمى على طريق الصدام مثل كشمير وتايوان وخط الحدود الموازي رقم 38 الفاصل بين الكوريتين وبالطبع الأراضي الفلسطينية.
الشيء الذي يبعث على الأسى، هو أنه لا تتوافر في الوقت الراهن سوى القليل من الأدلة التي تثبت أن هناك أحداً في واشنطن يمتلك الخيال الإبداعي الذي يمكن أميركا من الإطلاع بهذه المهام أن الولايات المتحدة في هذا المجال كما في القضايا المالية وفن قيادة الدول تتحول في الوقت الراهن إلى منطقة ميتة ثقافياً.
خلاصة القول إذا أرادت واشنطن أن تساعد في ولادة هذا النظام الجديد، فإنه لا مفر أمامها سوى التخلي عن بعض من الالتزامات التي تضطلع بها منذ عام 1941. وعلى الرغم من أن النتائج الإيجابية لقرار مثل هذا لن تكون محسوسة على الفور، فإن تلك الفوائد على المدى الطويل ستكون كبيرة للغاية. إن تخفيف الأعباء يمكن أن يساعد كثيراً على ترتيب بيتنا من الداخل، وهي نقطة يكاد كل شخص في واشنطن تقريباً بل وعبر البلاد يتفق على أنها نقطة مهمة وجوهرية.
-------------------------------------
* نقلا عن صحيفة الاتحاد الإمارتية الإثنين 22/8/2011.