على نقيض محاكم دولية خاصة أنشئت سابقاً، مثل المحاكم الخاصة بكمبوديا وسيراليون ويوغوسلافيا، تختلف المحكمة الخاصة بلبنان التي تأسست تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757 الصادر في 30 مايو 2007، عن سائرها في ثلاثة أمور جوهرية، أولها: أنها أول محكمة تختص بالنظر في جرائم اغتيال سياسي وإرهاب، وليس في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
وثانيها: أنها تعتمد على القانون المحلي اللبناني، خاصة في جانب العقوبات باستثناء عقوبتي الإعدام والأشغال الشاقة. وثالثها: أنه يمكنها إجراء المحاكمات غيابياً، أي دون مثول المتهمين أمامها؛ بما يسمح لها بالعمل، حتى لو لم تتمكن من القبض على المتهمين.
خصوصية حالة لبنان
ويبدو الاختلاف الأخير ذا طبيعة خاصة، لأنه يلامس عن قرب خصوصية الحالة اللبنانية المتمثلة في التحقيق ومعاقبة مرتكبي جرائم اغتيال سياسي داخلي بدأت يوم 14 فبراير 2005 باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري؛ ذلك أن واضعي النظام الأساسي الخاص بالمحكمة، من أطراف لبنانية ودولية، ربما كانوا على يقينٍ بأن وضع لبنان السياسي والأمني لن يسمح بالقبض على أي متهمين أو مثولهم طوعاً أمام المحكمة لدى إصدارها القرار الاتهامي الخاص بتلك الجرائم.
وكان المدعي العام بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان القاضي "دانيال بلمار" قد أصدر قراراً اتهامياً يوم 28 يونيو الماضي، صدق عليه "دانيال فرانسين" قاضي الإجراءات التمهيدية بالمحكمة، وتمت إحالته إلى السلطات اللبنانية بعد يومين، مرفقاً معه مذكرات توقيف لأربعة عناصر لبنانية متهمة باغتيال الحريري و21 شخصا آخرين.
ولم يختلف المتهمون الذين حددهم القرار عن التسريبات التي كانت تتداول عبر صحيفة دير شبيجل الألمانية ووسائل إعلام أخرى، وهم أربعة عناصر تنتمي إلى حزب الله: مصطفى بدر الدين (المعروف باسم سامي عيسى) الذي عرفته مذكرة التوقيف بأنه "القائد العسكري والعضو في مجلس شورى حزب الله وقائد العمليات الخارجية، فهو من خطط وأشرف على تنفيذ الجريمة"، وسليم العياش "المسئول عن الخلية التي نفذت عملية الاغتيال وشارك شخصياً في التنفيذ"، وتقول مصادر لبنانية إنه مسئول عسكري كبير في حزب الله، وكل من حسين عنيسي وأسد صبرا، اللذين يعدان من العناصر الأمنية لدى حزب الله.
وقد خرج مضمون هذا القرار الاتهامي من السرية إلى العلن في 17 أغسطس الماضي، حينما نشرت المحكمة في وسائل إعلام مختلفة إعلاناً عاماً يتضمن أجزاءً كبيرة من نص القرار، وتطلب فيه المحكمة إلى المتهمين تسليم أنفسهم إلى السلطاتاللبنانية. حيث يعد صدور القرار الاتهامي بداية مرحلة جديدة في عمل المحكمة، لأنه الخطوة الأولى نحو استكمال الإجراءات القضائية والاستعداد لإجراءات المحاكمة، مع ملاحظة أن مذكرات التوقيف لا تعني تثبيت الاتهام؛ فالمتهم برئ حتى تثبت إدانته، لكنها لضمان مثول المتهمين أمام المحكمة، مع أحقيتهم في الاستعانة بأي محامٍ يرونه مناسباً، سواء من داخل مكتب الدفاع بالمحكمة الذي يضم 107 محامين منهم أربعة لبنانيين، أو من خارجه.
وقد اتخذت بعض الخطوات في هذا الصدد، منها تسليم مذكرات التوقيف إلى السلطات اللبنانية، وإصدار الشرطة الدولية "الإنتربول"، بناءً على طلب المحكمة، نشرات حمراء عممت على 188 دولة، تتضمن معلومات حول هوية الأشخاص المطلوببن. أما الإجراء التالي لذلك، فهو إبلاغ السلطات اللبنانية رئيسالمحكمة الخاصة بالتدابير التي اتخذتها الدولة لتوقيف المطلوبين خلال مهلة لا تتجاوز 30 يوماً من تصديق قرار الاتهام.
وإذا لم يوقف هؤلاء خلال هذه المهلة، جاز لرئيس المحكمة إصدار إعلان عام يطلب فيه إلى المتهمين تسليم أنفسهم إلى السلطاتاللبنانية. وإذا لم يحدث ذلك في غضون 30 يوماً أخرى، جاز لقاضي الإجراءات التمهيدية أن يطلب من المحكمة الشروع في إجراءات المحاكمة غيابياً، بعد أن تقرر غرفة الدرجة الأولى بالمحكمة ما إذا كان المتهم يحاول تجنب المحاكمة أو غير قادرعلى الحضور.
وسواء حضر المتهمون أم لا، فإنه يتوجب على المدعي العام أن يكشف لمكتب الدفاع عن نسخ من المواد المؤيدة لقرار الاتهام وتزويده المكتب بإفادات جميع الشهود الذين ينوي استدعاءهم للشهادة في أثناء المحاكمة، ثم ينظر قاضي الإجراءات التمهيدية في مهلة 30 يوماً تقديم الدفوع الأولية من محامي الدفاع قبل إحالة ملف القضية إلى غرفة الدرجة الأولى، ويحدد بالتالي خطة عمل وموعداً أولياً للشروع في الإجراءات قبل بدء المحاكمة بأربعة أشهر على الأقل.
وبالفعل، أبلغت السلطات اللبنانية رئيس المحكمة بالتدابير التي اتخذتها الدولة لتوقيف الأشخاص المطلوبين يوم 9 أغسطس، والتي أعلن رئيس المحكمة الخاصة، أنطونيو كاسيزي، أنها جهود معقولة، وبالتالي انتقل إلى نشر مضمون القرار الاتهامي علانية؛ مما يعني إمكانية الشروع في بدء المحاكمة غيابياً، في حالة عدم مثول المتهمين أمام المحكمة بعد شهر من هذا الإعلان، ووفقاً لقواعد عمل المحكمة.
فقدان الدفع الداخلي
تأتي هذه التطورات الخاصة بالمحكمة الخاصة بلبنان، في ظل ظروف داخلية لبنانية وإقليمية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة وقت قرار إنشاء المحكمة في عام 2007، بحيث يمكن القول إن عوامل قوة الدفع السياسية التي حركت هذا الملف سابقاً لم تعد قائمة بشكل كبير.
فداخلياً، تمكن حزب الله وحلفاؤه في قوى 8 آذار من السيطرة في يناير الماضي على الحياة السياسية بعد انتزاع الأغلبية البرلمانية ورئاسة الوزراء من قوى 14 آذار التي أصبحت في موقع المعارضة الآن. وإقليمياً، لم يعد ملف المحكمة إحدى الأدوات الرئيسية للضغط على النظام السوري المتهم حالياً بارتكاب جرائم حرب بحق شعبه، ويكاد يفقد بالكلية شرعيته الخارجية. كما أن الثورات العربية غيرت كثيراً من أولويات الاهتمامات الدولية بالمنطقة، بل إن اتهام عناصر سورية أو إيرانية لاحقاً أثناء سير المحاكمة لن يغير كثيراً من طبيعة التأثير الإقليمي الذي كان متصوراً قبل ذلك لهذا الملف.
ومن هنا، يجوز القول إن المحكمة الخاصة بلبنان انتقلت من كونها ملفاً إقليمياً ودولياً إلى ملف لبناني داخلي، يخص العلاقة بين حزب الله وتيار المستقبل برئاسة سعد الحريري. ولم تعد الأهداف السياسية محل نظر دولي إلا فيما يخص الضغط على حزب الله، سيما وهو يكاد حليفه السوري التقليدي. وليس من المتصور أن يصل حد الضغط على حزب الله إلى درجة اتخاذ إجراء عسكري قسري لإجباره على تسليم المتهمين، أو قيام الدول الأعضاء بمجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية مؤثرة ضد لبنان، لأن نتيجة ذلك قد تعني تسليم ما تبقى من لبنان في يد إيران.
ولا ريب في أن الأخطاء التي وقعت فيها المحكمة، ومن بينها: التسريبات المتتالية لأسماء المتهمين، وملف شهود الزور، وتقلبها السياسي من اتهام سوريا بدايةً ثم توجيهها الاتهام إلى عناصر من حزب الله، وتسريب عشرات السجلات والاتصالات الهاتفية والوثائق، أسهمت في إضعاف صدقيتها من جانب، واستعداد حزب الله للتعامل مع تبعات قرارها الاتهامي من جانب آخر.
حزب الله ومعركة الاتهامات
وتقوم استراتيجية حزب الله في التعامل مع المحكمة على عددٍ من العناصر، منها العنصر الدعائي، إذ يخوض الحزب معركة المحكمة في سياق صراع الصورة والنموذج، لأن الاتهام لا يمس مجرد أعضاء غير منضبطين بالحزب بقدر ما أنه يمس نصر الله شخصياً، سيما مع اتهام مصطفى بدر الدين، المسئول العسكري الكبير في الحزب. ويروج الحزب منذ عام 2006 أن المحكمة أداة أمريكية وإسرائيلية للقضاء على المقاومة وإدخال لبنان في فتنة مذهبية، ويقول إن نصف اللبنانيين ليسوا مع هذه المحكمة المسيسة وغير المهنية.
وهناك العنصر القانوني، حيث يرى الحزب أن المحكمة فاقدة للصدقية القانونية التي ثبتت بعد نشر مضمون القرار الاتهامي الذي استند إلى الأدلة الظرفية والاستنتاجات وليس إلى الأدلة المباشرة، وعمد إلى وصف حزب الله بالمنظمة الإرهابية ليستنتج أن عناصره هي من قامت بتنفيذ هذه الاغتيالات، مع أن هذا التوصيف أمريكي وإسرائيلي وليس دوليا، وأن المحكمة لم تقدم جديدا عما فعله المحققون في فرع المعلومات اللبناني من حيث الاستنتاجات المبنية على اتصالات الهواتف الخلوية وتقاطعاتها منذ أبريل 2005.
ووفقاً لذلك، لن يتعامل الحزب مع قرارات المحكمة الدولية، ولن يقدم أي متهمين لا في 30 يوماً ولا 300 سنة، كما ذكر حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله.
وعلى الجانب السياسي، تأكدت حقيقة مهمة منذ مرحلة ما بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري، ألا وهي تعمد حزب الله الولوج إلى الداخل اللبناني بشكل لم يفعله منذ نشأته في عام 1982، فالحزب يقرأ تداعيات المحكمة باعتبارها موجهة للمقاومة وللطائفة الشيعية ذاتها؛ ولذا فإن تفاعلات حزب الله السياسية تكون على القدر ذاته الذي يتصور الحزب أنه يمس وضعه في الجنوب اللبناني وسلاحه.
ووفق هذا التصور، شارك الحزب في الوزارات اللبنانية للمرة الأولى منذ عام 2005، حتى انتهى به الأمر بالسيطرة السياسية على الداخل اللبناني لمواجهة تداعيات قرارات المحكمة؛ لكن مع الأخذ في الاعتبار ألا تكون هذه السيطرة مباشرة وصريحة، بل عبر حلفائه.
وهنا، يلاحظ أن حكومة نجيب ميقاتي تتعمد الظهور وكأنها في موقف وسط من المحكمة الدولية، فتؤكد حرصها على جلاء الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، وأنها ستتابع مسار المحكمة التي أنشئت مبدئياً لإحقاق الحق والعدالة، بعيداً عن أي تسييس أو انتقام، وبما لا ينعكس سلباً على لبنان واستقراره ووحدته وسلمهالأهلي".
وتدرك هذه الحكومة أن عدم تعاونها مع المحكمة يضع لبنان تحت تصرف البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كما ورد في نص المادة 20 من النظام الأساسي للمحكمة الذي يجيز لرئيس المحكمة إحالة محضر قضائي إلى مجلس الأمن لاتخاذ الإجراءات المناسبة، في حال تخلف السلطات اللبنانية عن الاستجابة للأمر.
ولذا، شرعت الحكومة في اتخاذ الإجراءات القانونية والأمنية الواردة في مذكرة التوقيف، وهي تدرك علم الجميع أنه ليس بوسع أي حكومة (حتى لو كانت حكومة الحريري) تصديق إمكانية العثور على المطلوبين الأربعة وتوقيفهم، فمنهما اثنان هما: مصطفى بدر الدين وسليم العياش، مطلوبان أمنياً، قبل أن يكونا مطلوبين في اغتيال الحريري، وكلاهما غامض للعيان يشبه شخصية عماد مغنية، القيادي الكبير في حزب الله الذي اغتيل في دمشق في فبراير 2008.
ويمكن للحكومة القول بحجية أنها فعلت ما عليها في سبيل توقيف المتهمين، لكنها لم تستطع ليس بسبب رفض حزب الله أو عدم تعاونه، بل لأن في لبنان نحو 30 ألف مذكرة توقيف داخلية بحق متهمين لم تتمكن السلطات الأمنية اللبنانية من القبض عليهم.
موقف قوى 14 آذار
على الجانب الآخر، تبدو قوى 14 آذار في موقف أضعف مما سبق؛ فهي ترحب بقرارات المحكمة، لكنها لا تمتلك في الواقع الوسائل السياسية التي تمكنها من إجبار حكومة ميقاتي على التعاون مع المحكمة، أو إسقاط هذه الحكومة. كما يبدو خيار نزول جمهورها إلى الشارع غير مجدٍ، لأنه ربما يقابل بنزول مماثل من قوى 8 آذار، مما يؤدي إلى صراع تتجنبه كل القوى اللبنانية، في ظل غموض الوضع العربي والإقليمي في الفترة الراهنة.
ووفقاً لما سبق، يمكن القول إنه رغم تراجع أهمية ملف المحكمة الخاصة بلبنان إقليمياً، فإن ذلك لا يعني تراجعاً مماثلاً في عملها، خاصةً بعد صدور القرار الاتهامي، ولذلك فسوف يوافق مجلس الأمن الدولي في مارس المقبل على تمديد عملها، وسوف تستكمل المحكمة إجراءات بدء المحاكمات. ومع ذلك، فإن المحاكمة ذاتها أضحت مجرد أداة رمزية للعدالةٍ، سيما وأنها ستكون محاكمات غيابية في نهاية الأمر، ولأنها إذا ذهبت أبعد من ذلك فربما قد تقود إلى انتقال الصراع السياسي الداخلي إلى صراع مسلح جديد في لبنان.