رغم أن الأوضاع الميدانية شهدت تحولا بدخول الثوار إلى العاصمة طرابلس، واعتراف عدد من البلدان العربية ومنها مصر بالمجلس الانتقالي، فإن ثمة غموضا يلف الأوضاع، لا سيما أن القذافي لم يسقط، حتى وقت كتابة هذه السطور في قبضة الثوار، كما أن قواته لا تزال تقاوم في بعض مناطق العاصمة.
غير أن التحولات الميدانية تدفع إلى التفكير في مرحلة ما بعد القذافي، إذ إن هناك ستة تحديات تطرح نفسها على مستقبل هذا البلد النفطي.
أولا: " الانشقاق المتوقع" أن يمر به المجلس الوطني الانتقالي فور رحيل معمر القذافي. ولعل نذر الانشقاق والاختلاف في الرؤى بدأت بالفعل فور اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس القائد العسكري للثوار ، وتطور الخلاف بعد اغتيال يونس إلى إقالة المكتب التنفيذي للمجلس وتعيين مكتب تنفيذي جديد.
لقد كان حكم القذافي عاملا مشتركا لمنع نشوب خلافات كثيرة في أروقة السلطة الانتقالية التي تقود الثورة في ليبيا، وبالرغم من ذلك نشبت بعض الخلافات، ولنا أن نتوقع خلافات أخرى فور رحيل القذافي.
وثمة نقطتان رئيسيتان للانشقاق داخل صفوف المجلس، فور رحيل القذافي، أولاهما: هي الرؤية السياسية للمرحلة المقبلة. فبالرغم من طرح المجلس لخريطة طريق ترسم معالم العملية السياسية فور رحيل القذافي، فإن حالة الارتباك وعدم الاستقرار المؤقت التي ستمر بها ليبيا بعد رحيل القذافي ستؤثر سلباً فى الالتزام بالجدول الزمني المعلن.
كما أن الثورة الليبية أدت لخلق نخب وقوى سياسية لم تكن تبلورت بعد في لحظة تشكيل المجلس الوطني الانتقالي كالقوى الإسلامية وقيادات الثوار في مدن الجبل الغربي، وسيكون احتواء هذه القوى والنخب في ثنيات المجلس أحد العوامل التي قد تؤدي لخلافات داخل المجلس الانتقالي، وهو ما يقودنا للنقطة الثانية، وهى تسمية باقي أعضاء المجلس وأسس تسمية هؤلاء الأعضاء.
فالمجلس الوطني الانتقالي تم تشكيله في لحظة حرجة، لم تكن معالم المستقبل فيها واضحة، وكانت ليبيا وقتها في أشد الحاجة لظهور كيان يعبر عن الثورة. ولأسباب تتعلق بتوقيت إعلان المجلس وتركيبة أعضائه، حظى المجلس فور تشكيله بشرعية ثورية وتأييد شعبي من أغلب الثوار.
لكن في مرحلة ما بعد القذافي ، ستطرح استفهامات حول تسمية باقي الأعضاء، هل ستتم على أساس جغرافي؟، وإن تمت على أساس جغرافي، فهل سيراعى فيها البعد القبلي؟ ، أم أن هناك أعضاء من باقي أنحاء ليبيا تم الاتفاق والتنسيق معهم منذ بدء تكوين المجلس، ولم يعلن عن أسمائهم لأسباب أمنية كما أشيع من قبل؟ .
وإذا كان هذا هو الحال، فهل سيحظى الأعضاء الجدد بذات الشرعية أم ستتأثر شرعية المجلس ككل؟ ولمواجهة هذا التحدي، يجب أن يستند المجلس الانتقالي إلى شرعيته ككيان استطاع أن ينسق بين جهود الثوار لاستكمال الثورة على القذافي، وتسيير شئون مدن الشرق الليبي من طبرق إلى بنغازي، وألا يستمد شرعيته من شخوص أعضائه.
ثانيا : قضية المصالحة مع عناصر نظام القذافي. فبعد رحيل القذافي، ستظل في ليبيا بقايا من عناصر حركة اللجان الثورية، والكتائب الأمنية، والقبائل الموالية للقذافي التي شاركت في القتال على مدى الأشهر الستة الماضية.
وككل ثورات العالم، ستكون هناك حاجة ملحة للمصالحة بين الثوار ومؤيدي ومناصري معمر القذافي، ولكن التحدي في ليبيا سيكون غياب أو ضعف مؤسسات الدولة المنوط بها القيام بالوظائف القضائية، كما أن غياب سيادة القانون سيؤثر كثيراً فى إمكانية اللجوء لقنوات شرعية لتحقيق هذه المصالحة.
وبالرغم من تصريحات مسئولي المجلس الوطني الانتقالي المتعددة حول ضرورة التعامل الحضاري مع مؤيدي القذافي وبقايا نظامه، فإن انتشار السلاح ورسوخ مفهوم وقيم الثأر في الثقافة البدوية بشكل عام قد يشكلا عائقاً أمام دخول هذه التصريحات حيز التنفيذ.
تحدي المصالحة يحتاج للعمل سريعاً لبناء مؤسسات قضائية تستند للقانون في التعامل مع الاتهامات الجنائية والسياسية، كما تحتاج هذه المؤسسات لسلطة تنفيذية تكون الذراع القائمة على تنفيذ أحكامها.
ثالثا: قضية نزع السلاح من الثوار وإعادة تشكيل الجهات الأمنية. فعلى مدى الأشهر الستة الماضية، انتشر السلاح في ليبيا بشكل غير مسبوق. وفي ظل وجود تحديات تتعلق بشرعية السلطة الانتقالية في البلاد، وقضايا ثأر بين مؤيد ومعارض للثورة، وعدم وجود سلطة قوية لتطبيق القانون (وهى كلها أسس لخلافات موسعة(، سيكون انتشار السلاح بمثابة نذير لوضع أمني وإنساني غير مستقر يسهل تطوره لوضع كارثي.
ففي سياق الخلاف السياسي، قد تنشأ تنظيمات سياسية مسلحة ،خاصة في ظل وجود تنظيم جهادي كالجماعة الليبية المقاتلة، كما قد تنشأ جماعات تطارد أنصار القذافي ،أو جماعات مسلحة من أنصار القذافي تصارع على حقها في البقاء.
على الجانب الآخر، نجد معضلة تتمثل في غياب القوة الأمنية التي تعمل تحت مظلة القانون، ومن ثم فالثوار المسلحون باتوا السبيل الوحيدة لتوفير الأمن والأمان لعائلاتهم وذويهم، وهو ما يشير لصعوبة إقناع الثوار بتسليم أسلحتهم (خاصة في ظل غياب البديل القانوني)، لأن وجودها بحوزتهم مرتبط ارتباطاً وثيقاً بفرض الأمن.
ولهذا، تتطلب مواجهة هذا التحدي درجة من اللامركزية عند إعادة تشكيل الجهاز الأمني، تسمح لعناصر هذا الجهاز بالانتشار السريع في مختلف أنحاء ليبيا، والتعامل مع متطلبات فرض الأمن في كل منطقة على حدة، مع ربطه بمظلة مركزية توفر له غطاء قانونيا وشرعيا تحت السلطة الانتقالية في البلاد.
وفي هذا السياق، يجب فتح باب التطوع للخدمات الشرطية والأمنية، والاستفادة بتمرس شباب الثوار على استخدام السلاح وفرض الأمن، ويتطلب ذلك الكثير من التدريب، كما يحتاج لإعطاء الثوار خلفية قانونية.
رابعا: معارضة المهجر والتي كان لها دور في تحريك الرأي العام العالمي حول الأحداث في ليبيا، كما لعبت دوراً محورياً في بث أخبار الثورة الليبية على شبكات التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام الغربية.
وقد صرح أغلب قادة منظمات معارضة المهجر بتأييدهم ومبايعتهم للمجلس الوطني الانتقالي فور تشكيله، ولكن الخلاف في الرؤية السياسية بين تيارات معارضة المهجر وما طرحه المجلس الوطني الانتقالي سيولد توترات في مرحلة ما بعد القذافي، خاصة أن أغلب هذه التيارات المعارضة تنوي العودة إلى ليبيا لممارسة العمل السياسي بها.
وبشكل عام، تنقسم معارضة المهجر في ليبيا إلى ثلاثة تيارات رئيسية، ليبرالية وإسلامية وملكية. وفي حين أن التوجه الليبرالي واضح تماماً في الرؤية السياسية للمجلس الوطني الانتقالي، فلا تمثل هذه الرؤية سائر التيارات المعارضة. كما أنه من المتوقع أن تنشب خلافات بين القوى والنخب السياسية التي ظهرت داخل ليبيا خلال الثورة، ومعارضة المهجر فور عودتها لليبيا، خاصة فيما يتعلق بتمثيل تيارات المهجر في المرحلة المقبلة، ومدى شرعيتها داخل المشهد السياسي الليبي.
كما ستواجه تيارات معارضة المهجر تحديا أكبر يتمثل في كون الشعب الليبي شعباً غير مسيس لا يميل لتوجهات أيديولوجية واضحة، نتيجة لغياب التعددية السياسية بكل أشكالها عن ليبيا لسنوات طويلة.
وتحتاج ليبيا لمواجهة هذا التحدي لآلية حوار جامعة وديمقراطية تحت مظلة المجلس الوطني الانتقالي الذي يتمتع برصيد من الشرعية داخل ليبيا لا يضاهيه فيه أي تنظيم أو كيان سياسي آخر.
خامسا: النفط الليبي، وهو يمثل أكبر التحديات في مرحلة ما بعد القذافي ، إذ إن القذافي استخدم عوائد النفط بشكل غير متوازن طيلة فترة حكمه، حيث تركزت التنمية في بقعته المفضلة سرت (الوسط) ، وساد الفقر ونقص الخدمات الأساسية في الشرق والجنوب، وهو ما يطرح على المجلس الوطني الانتقالي تحديات فيما يتعلق بكيفية توزيع عوائد النفط بما يرضي جميع الجهات الجغرافية والقبلية .
سادسا : الدور المتوقع للناتو في مرحلة ما بعد القذافي، إذ إن ثمة غموضا لافتا حول المقابل العسكري والاقتصادي والسياسي الذي سيحصل عليه الناتو في مرحلة ما بعد القذافي ، لاسيما بعد مشاركته الفعالة في الحرب.
وبشكل عام، نرى أن العبء الأكبر في مواجهة تحديات ما بعد القذافي يقع على عاتق المجلس الوطني الانتقالي الذي يحتاج للتعامل أولاً مع ما يواجهه من تحديات لشرعيته ككيان سياسي، قبل أن يتعامل مع باقي التحديات التي تواجه ليبيا في هذه المرحلة الحرجة.