وسط كل الحديث المتشائم في الولايات المتحدة عن الوضع الاقتصادي المتردي وتهاوي أسواق الأسهم إلى حدود تشارف على الانهيار، ثم التخوف المستمر من السقوط في ركود ثانٍ للاقتصاد، فإن من المهم التوقف قليلاً للتذكير بأن الولايات المتحدة وعلى رغم كل ما سبق تبقى الدولة الأعظم شأناً على الأرض، وهي أيضاً البلد ذو المستقبل الباهر، ولا أقول ذلك انطلاقاً من شعور متضخم بالاعتداد الوطني، بل هو قائم على استنتاجات منطقية تستند إلى التحليل العلمي. وبالطبع ليس الغرض من هذا الحديث صرف النظر عن المشاكل الحقيقية التي تواجهها أميركا مثل الدين العام وضرورة تجديد الاقتصاد والإصلاح السياسي الذي تحتاج أميركا إلى معالجته، ومن ثم فليس الغرض تسفيه الرهانات الجسام المطروحة أمام الولايات المتحدة.
ولا أنا بصدد القفز على المحنة القاسية التي يعيشها الأميركيون بسبب ما ظلوا يعانونه من تداعيات الانكماش الاقتصادي خلال السنوات الثلاث الماضية. ولكن المشكلة في طغيان الطابع السلبي على الأخبار وتركيزها على كل ما هو قاتم وسيئ إلى درجة يتعين معها التوقف للتأمل وإعادة التفكير في وضعنا، ولنبدأ أولًا بنقاط القوة انطلاقاً من الهوية الأميركية، فالولايات المتحدة تظل البلاد التي يحلم بالعيش فيها جميع الناس حول العالم، وما زالوا يصلون إليها بأعداد كبيرة لإغناء بوتقة الأجناس المنصهرة مع بعضها بعضاً وتنشيط حركة الاقتصاد، ونحن اليوم نبلغ حوالي 300 مليون نسمة بوتيرة نمو متواضعة ولكنها ثابتة عكس باقي الدول الصناعية الكبرى التي تعاني من انخفاض الولادات وتقدم شعوبها في السن ما سيضع أعباء ثقيلة على الاقتصاد ويضغط على دولة الرعاية.
ومع أن بلداناً مثل تركيا والبرازيل تتوفر على نسبة نمو سكاني جيدة وينتظرها مستقبل مشرق، إلا أنها قوى متوسطة في أحسن الحالات، وحتى الصين التي تنمو بشكل مبهر وتصعد على الساحة الدولية تعاني أيضاً من مشاكلها الخاصة بعدد سكان كبير جدّاً لا تسعه مساحة الأرض التي يعيش عليها، كما أن سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها لتصويب الخلل الديموغرافي ستسبب خلال عقد أو عقدين من الزمن في خروج ملايين من الصينيين إلى التقاعد وتضخم شريحة كبار السن على حساب القوة العاملة، وهو ما سيُحدث اختلالا كبيراً في الاقتصاد. وبالعكس من ذلك لا تستطيع الهند الاستمرار على نفس وتيرة النمو السكاني.
والحقيقة أن هذه البلدان على رغم مشاكلها ستحقق بعض التقدم الذي نتمناه لها. ولكن في المقابل لا يمكن تصوير كل ما يحدث فيها على أنه جيد ومبهر فيما الولايات المتحدة تعيش على وقع التراجع والانهيار. لأن هذا الكلام ببساطة لا يتفق مع الحقائق والمعطيات، فإلى جانب تركيبتنا السكانية المنحدرة من المهاجرين وإلى جانب دورنا التاريخي في الحربين العالميتين والحرب الباردة، وأيضاً بفضل انفتاحنا وشفافية نظامنا السياسي تنعم الولايات المتحدة بالإضافة إلى كل ذلك بنظام تحُسد عليه من التحالفات، فنحن نتوفر على ما يقارب 70 تحالفاً رسميّاً، أو غير رسمي حول العالم. ومع أننا لا نحظى إجمالاً بتعاطف العالم ووده، إلا أنه حتى البلدان التي تعارض سياستنا الخارجية لا تميل إلى الخوف منا بقدر ما تخشى من جيرانها أو احتمال انتشار الفوضى والعنف، والنتيجة أن 70 في المئة من النشاط الاقتصادي العالمي يدور حول ما يمكن أن يسمى بنظام التحالفات الأميركية. بل حتى بلدان مثل الهند وإندونيسيا تفضل التعاون معنا بدل العمل ضدنا في معظم القضايا الأمنية، في حين لا تملك روسيا سوى عدد محدود من الحلفاء مثل بيلاروسيا، فيما الصين لا تجمعها علاقات أمنية سوى مع كوريا الشمالية.
وبالإضافة إلى توفرها على أفضل تركيبة سكانية في العالم وأقوى التحالفات الموجودة تمتلك الولايات المتحدة أيضاً أفضل الأنظمة التعليمية، فعلى رغم ما نسمعه من مشاكل يعاني منها نظامنا التعليمي، والتي يتعين فعلًا استدراكها، يبقى أن تصنيفات التقدم والجودة تظهر أن الولايات المتحدة تتوفر على أحسن 100 جامعة في العالم، ولا ينتهي التفوق الأكاديمي عند هذا الحد، بل يمتد إلى البحث العلمي، إذ من أصل 2.1 تريليون دولار ينفقها العالم سنويّاً على البحث العلمي تستحوذ الولايات المتحدة لوحدها على 400 مليار دولار منها، وهو أكثر مما تنفقه أوروبا مجتمعة على البحث العلمي، حيث لا تتعدى حصتها 300 مليار دولار، وإذا كانت الصين تخرج سنويّاً 600 ألف مهندس في حين لا تخرج أميركا سوى 60 ألف مهندس فإن الفارق بين الجانبين يبقى كبيراً، ولاسيما أن أغلب المهندسين الصينيين هم في الحقيقة تقنيون يتخرجون من كليات بعد سنتين فيما المهندسون الأميركيون يتدربون في أفضل الجامعات وأكثرها إنفاقاً على التطوير وبالبحث العلمي.
وحتى في المجال الصناعي، الذي كشفت فيه الصين عن قدرة عالية وأصبحت من البلدان الصناعية المهمة في العالم، ما زالت الولايات المتحدة تتصدر التصنيع في الميادين ذات القيمة المضافة العالية مثل صناعة الطيران وصناعة الأدوية والكيماويات الصناعية وكل ما يتعلق بأجهزة الكمبيوتر والتكنولوجيا المتطورة من برمجيات وغيرها. ويكفي التذكير أن 48 في المئة من براءات الاختراع العالمية تصدر من أميركا وهو أمر ليس سيئاً لبلد يمثل 5 في المئة فقط من سكان العالم، لذا ولهذه الأسباب مجتمعة تظل أميركا رغم مشاكلها، التي يتعين معالجتها، البلد الأول في العالم.
---------------------------------------
(*) نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية