العلاقات بين النظام السوري ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي إن لم تكن مثالية أو يسودها الود والثقة في عمومها، خاصة خلال الخمسين عاما الأخيرة، فإنها لم تصل إلى حد العداء أو الكراهية، ولا توجد أدلة على أن دول الخليج هددت استقرار سوريا، على الرغم من الخلافات في وجهات النظر حول المواقف السياسية، في أي وقت مضى، بل كانت العلاقات بين الطرفين في مجملها إيجابية تعكس أواصر القربى والمصاهرة والمصير المشترك، وغير ذلك، وظل المصطلح السياسي الشهير (مثلث الرياض، القاهرة، ودمشق) يجسد أهمية الدول الثلاث في صناعة القرار العربي الجماعي، ويضع دمشق عل قاعدة متساوية في مثلث صناعة القرار العربي، مما يعكس أهمية دور سوريا في السياسة العربية حتى في الحقب العربية التي شهدت تباعدا بين وجهات النظر، منذ منتصف سبعينات القرن الميلادي الماضي، وإن كانت الرياض قد اضطلعت بدور كبير في تحقيق الوفاق بين دمشق والقاهرة بعد فترة القطيعة التي أعقبت معاهدة كامب ديفيد.
مع ذلك شهدت السنوات الأخيرة أزمات مكتومة بين العواصم الثلاث؛ جراء الاختلاف في التكتيك السياسي، حيث كانت توجهات سوريا خلال العقد الأخير جعلت دمشق تبدو وكأنها تريد الابتعاد عن الإجماع العربي، الذي كان سائدا في عهد الرئيس الأسد الأب، فقد دخلت سوريا في تحالف مع إيران وحزب الله اللبناني، مما سبب قلقا للدول العربية الأخرى، وتنامى هذا القلق بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، وما ترتب على ذلك من عدم استقرار لبنان حتى الآن، وتزامن ذلك مع احتلال القوات الأميركية للعراق، واختلال موازين القوى في المنطقة العربية، وإعلان طهران صراحة عن محاولات لتمدد نفوذها وتقديم نفسها على أنها اللاعب الإقليمي الرئيسي، بموافقة ومباركة من دمشق.
منذ بداية الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بشار الأسد اعتمدت الدول الخليجية سياسة الاعتراف بنظام الأسد، ولم تبد تأييدا أو حتى تعاطفا مع المظاهرات الشعبية منذ أن اندلعت في درعا وحتى الآن، وهذا الموقف لم تكن تتوقعه دمشق ذاتها، فقد كانت لديها هواجس من احتمال استغلال دول الخليج الفرصة وتوفير الدعم والتأييد لثورة الشعب السوري، ومن ثم الإسهام في إسقاط النظام.
الحياد الخليجي الذي أثار دهشة النظام السوري، لم تستحسنه أطراف أخرى في دمشق، وأرادت أن تشكك في هذا الحياد من بوابة الإعلام؛ حيث أثارت هذه الأطراف مسألة بث وتغطية المحطات الفضائية العربية المحسوبة على بعض دول الخليج، أخبار المظاهرات السورية، كدليل على تخلي بعض دول الخليج عن حيادها تجاه الأزمة السورية، مع أن الحقيقة تكمن في أن هذه التغطية الإعلامية لا تعكس الموقف السياسي الخليجي، بل هو منافسة إعلامية حامية الوطيس في تغطية الأحداث العالمية، وهذا ما حدث حيال الاحتجاجات في تونس، مصر، واليمن، وحتى في سلطنة عمان ومملكة البحرين. إذن ليس من الحكمة تفسير جهود هذه الفضائيات في تغطية تطورات في سوريا بالخروج عن سياسة الحياد الخليجية.
ثورة الغضب الشعبي في سوريا تتصاعد، وتشهد انتشارا جغرافيا واسعا يشمل عموم البلاد مع زيادة عدد المشاركين والمستعدين للتضحية، وسقوط عشرات الضحايا يوميا، ونظام الرئيس الأسد يكافح للبقاء، ويعمل جاهدا على الاحتفاظ بشرعيته التي يشكك الغرب فيها حاليا، كما أنه يخشى أن يتمكن من البقاء بالقمع وسط مجابهة شعبية تفقده مصداقيته، وتزيد من عزلته العالمية والعربية.
المؤكد أنه لا توجد قوة على الأرض قادرة على حماية أي نظام من غضب شعبه، كما أن استخدام العنف المفرط لن ينقذ أي نظام، بل يسهل سقوطه، وفي حالة الوضع في سوريا، فإن الدعم الإيراني وتأييد حزب الله للنظام في دمشق، لن يكون وصفة ناجعة لإنقاذه إذا رفضه شعبه من الداخل، بل سيكون وسيلة لزيادة كراهيته ورفضه والإصرار على مجابهته وإسقاطه، والموقف العربي والدولي المتعاطف أو المتساهل مع النظام لن يجدي في انتشال هذا النظام من موجات الغضب الشعبي، إذا استمرت طويلا. مستقبل سوريا يحدده فقط السوريون شعبا وحكومة، وعلى النظام السوري - إن أراد البقاء في السلطة - أن يوقف المواجهات الدامية، وأن ينفذ الإصلاحات دون تأخير أو إبطاء، وأن تكون الإصلاحات نابعة من الداخل ووفق الاحتياجات الشعبية، دون إملاءات خارجية داعمة للنظام، فأي تدخل خارجي، مهما كان مصدره وتوجهاته، سوف يكون خاسرا، بل سيأتي بنتائج عكسية؛ لأن تدفق المعلومات والبث المباشر للاحتجاجات في المدن السورية لن تسمح بالتمويه أو التضليل، كما أن الحلول الأمنية لن تجدي نفعا في إنهاء المظاهرات، وعلى النظام السوري التخلي فورا عن الحل الأمني الذي يفقده التعاطف الخارجي، ويزيد من رد الفعل الشعبي المناهض له.
على المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول العربية، ومن بينها دول الخليج، أن تتخلى عن سياسة الحياد السلبي، وألا تقف في مقاعد المتفرجين أمام مأساة إنسانية يتساقط خلالها، وبشكل يومي، عشرات الأبرياء، فلم تعد التصريحات الدولية أو المراهنات على التسوية السريعة بين النظام وشعبه مجدية، وعلى القوى المعتدلة في المنطقة والعالم أن تنصح النظام السوري بضرورة حل الأزمة بوسائل سلمية سريعة؛ لضمان تداول السلطة وإيجاد تعددية حقيقية لاستيعاب كل الأطياف السياسية، في إطار دولة مدنية تضمن العيش بأمان للجميع، عبر انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة في أسرع وقت ممكن، أو إيجاد صيغة مقبولة لتخلي النظام طواعية عن الحكم، خاصة أن العودة إلى ما كانت عليه سوريا قبل اندلاع الاحتجاجات ضرب من المستحيل.