من المجلة - ملحق تحولات إستراتيجية

الدولة الدينية:|السيناريو الأقل احتمالا والأكثر تأثيرا في مستقبل مصر

الدولة الدينية - داخلي
طباعة

لا تختلف ثورة 25 يناير 2011 في أهدافها كثيرا عن غيرها من الثورات، فقد بدأت شرارتها وتوهجت للمطالبة بالقضاء علي مظاهر الظلم الاجتماعي، واستشراء الفساد، وتحقيق تغيير جذري يتجاوز مسألة إزاحة نخبة حاكمة وإحلال أخري محلها.

 حيث ترتبط الثورات عادة برؤية جديدة للنظام الاجتماعي والسياسي، تقوم علي الاعتقاد في إمكانية التقدم من خلال إعادة هيكلة المجتمع بشكل كامل، وإحداث تغيير بعيد المدي في المؤسسات القائمة، يتضمن بالضرورة توسيع مشاركة المواطنين في المجالات السياسية، وتحركهم نحو مركز العملية السياسية(1).

وعادة ما يعقب الثورات مرحلة انتقالية، قد تقصر أو تطول، حتي يتبلور شكل النظام السياسي. وعلي حين أن هناك ثورات أدت إلي إقامة نظم ديمقراطية، فإن هناك ثورات أخري أدت إلي إعادة إنتاج النظام الاستبدادي(2).

في هذا الإطار، تبدو كل الخيارات والاحتمالات متاحة ومفتوحة في تلك المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر.(انظر الشكل رقم1)

السيناريو الأول: وهو الأصعب تحقيقا في المدي القريب، وهو سيناريو إقامة دولة مدنية ديمقراطية تقوم علي مبدأ المواطنة، حيث يشارك المواطنون في إدارة شئونهم من خلال المستويات المختلفة للتنظيمات النقابية والحزبية، وفي إطار مجال عام يتسم بالحرية والمساواة والعدالة(3).

السيناريو الثاني: وهو سيناريو يبدو مقبولا من قطاعات واسعة من المواطنين. ويستهدف إقامة دولة ديمقراطية علي النموذج التركي، ولكنها غير متطرفة في علمانيتها، كما هو الحال بالنسبة لتركيا، حيث يقوم نظام برلماني، أو رئاسي برلماني يحوز فيه حزب ذو مرجعية إسلامية علي أغلبية مقاعد البرلمان، ويشكل حكومة ذات مرجعية إسلامية لديها رؤية واضحة لتحقيق برامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وهذا السيناريو يبدو متوازنا ومقبولا في إطار الحالة المصرية، كما أنه من المحتمل تحققه علي المدي المتوسط، مع إدخال بعض التعديل عليه، حيث إن تركيا نجحت في إيجاد توليفة جعلت هناك ما يسمي بالنموذج التركي في علاقة الإسلام بالسياسة. فالحزب الإسلامي عندما يصل إليالحكم، يتعامل بنفس مفردات التوجه العلماني، ويحافظ علي مبادئ أتاتورك، ويحقق التزاما واضحا بدعم قاعدته الدينية وشعبيته الإسلامية(4).

السيناريو الثالث: هو إقامة دولة دينية تأخذ بنمط يمكن وصفه ب- "الإيراني-الوهابي"، يأخذ من النموذج الإيراني الشيعي سمة وجود مرجعية عليا، يمكن أن تمثلها جماعة الإخوان المسلمين وهيكلها التنظيمي، وعلي قمته المرشد العام، ويأخذ من النموذج الوهابي السني فكرة "تطبيق الحدود" في الإسلام. وبالرغم من أن هذا السيناريو هو الأكثر إثارة للجدل، بحيث يمكن أن تصحبه درجة عالية من عدم الاستقرار وإمكانية إحلال نظام سلطوي جديد فإنه من غير المستبعد تحقق هذا السيناريو، مع ما يثيره من حالة عدم التأكد بشأن كثير مما قد يليه أو يترتب عليه.

وأهم الملاحظات التي ترد علي السيناريوهات السابقة ما يلي:

- إنه من المتصور في ظل هذه السيناريوهات أن تلعب المؤسسة العسكرية دورا مهما في حماية الدولة وحماية مصالح الشعب، حتي لو لم تتم دعوتها من جانب النظام القائم للاضطلاع بهذا الدور. وما دفع المؤسسة العسكرية للخروج علي النظام السياسي السابق والانحياز لحماية الشعبوالدولة، يمكن أن يدفعها للتدخل مرات أخري طوال المرحلة الانتقالية للثورة، والتي قد تمتد للسنوات العشر القادمة(5).

والواقع أن مراجعة هذه السيناريوهات، تكشف عن أنها قد لا تمثل مسارات أو سيناريوهات مختلفة لتطور النظام السياسي قدر ما يمكن أن تمثل مسارات أو سيناريوهات متلاحقة، يقود فشل أحدها في المرحلة الانتقالية إلي ضدها في مراحل لاحقة.

- إن هذه السيناريوهات تبدو وكأنها تقع علي متصل، يمثل طرفه الأول السيناريو الأكثر انسجاما مع فكرة التحول الديمقراطي الحقيقي (الدولة المدنية)، ويمثل طرفه الثاني السيناريو الأكثر إثارة للجدل، (دولة دينية يستمد فيها الحكم شرعيته من الدين). وما بين هاتين النقطتين، هناك عدد آخر من السيناريوهات التي تقف في منطقة وسط بينهما. وسوف تركز هذه الدراسة علي سيناريو الدولة الدينية.

أولا- الدولة المدنية والدولة الدينية:

مفهوم الدولة المدنية يقابله مفهوم الدولة الدينية. وتستند الدولة المدنية إلي احترام حقوق المواطنين علي أساس مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، بغض النظر عن انتماءاتهم الأولية: الدينية واللغوية والعرقية، وذلك علي أساس أن الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ في دولة تكون فيها النزعات الأولية، العرقية واللغوية والدينية، مبالغا فيها لدي أفراد الجماعات المكونة لهذه الدولة، بحيث يفتقرون إلي الإحساس بالأمة الواحدة وإلي الاعتراف بحقوق الآخرين.

ومن ثم، فإن وصف الدولة الديمقراطية المستهدفة بأنها دولة مدنية يعني أنها تقوم علي مبدأ المواطنة، التي ترتب لكل المواطنين حقوقا وواجبات متساوية، كما أنهم يتعاونون معا في إطار المجال العام (المدني)، ويقومون بإدارة شئونهم من خلال الأحزاب والنقابات وعديد من التنظيمات الوسيطة. مثل هذا التضافر والتعاون والذي سماه توكفيل "فن الترابط" Art of Association أو "فن الاجتماع"، هو الذي يدعم المجتمع المدني، الذي يمثل بنية أساسية للنظام الديمقراطي(6).

في مقابل الدولة المدنية، تأتي الدولة الدينية، وهي الدولة الكهنوتية أو الثيوقراطية، حيث ينقسم المجتمع إلي فئتين متمايزتين: حاكمة ومحكومة. وفي هذا الإطار، تستمد الفئة الحاكمة سلطاتها من أساس إلهي، مما يجعل إرادتها تسمو علي إرادة المحكومين(7).

والتساؤل الذي يثار في هذا الإطار يدور حول إمكانية تحقق هذا النموذج بعد ثورة 25 يناير في مصر.

ثانيا- التيارات الدينية بعد ثورة 25 يناير:

بدت ثورة 25 يناير كثورة شعبية تلقائية، قادتها طليعة من الشباب المتعلم القادر علي توظيف الآليات الرقمية الحديثة في الدعوة للثورة وتنسيق فعاليتها. ومن ثم، فإن الثورة افتقدت قيادة واضحة ومحددة ومعروفة تتحمل مسئولية الثورة، كما أنها افتقدت عقيدة ثورية أو أيديولوجية.

في إطار هذا الفراغ القيادي والأيديولوجي، طرحت التيارات الدينية نفسها علي الساحة بشكل واضح، وانتقل نشاطها من السرية إلي العلانية والشرعية، سواء من خلال المشاركة بكل حرية في فعاليات الحياة السياسية والتعبير عن آرائهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة، أو استخدام الآليات الرقمية للتواصل مع القوي المختلفة.

في هذا الإطار، يتصدر المشهد عدد من القوي المنتمية للتيار الديني، سواء كانت أحزابا مثل حزب "الوسط" ذي المرجعية الإسلامية، أو "جماعة الإخوان المسلمين" وحزب "الحرية والعدالة" المعبر عنها، أو السلفيين والأحزاب المعبرة عنهم، إضافة إلي أعضاء الجماعات الإسلامية الراديكالية المختلفة الذين تبنوا مبادرة عدم العنف في مواجهة المجتمع والنظام السياسي منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي. ولعل أبرز قوتين إثارة للجدل هما الإخوان المسلمون والسلفيون.

1- جماعة الإخوان المسلمين:

يمثل الإخوان المسلمون كبري الحركات الإسلامية الحديثة، وقد أنشأها الشيخ حسن البنا في الإسماعيلية 8291. وهي بتعبير الشيخ حسن البنا منشئها، فكرة جامعة تضم كل المعاني الإصلاحية فهي "دعوة سلفية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية". ومثل أي جماعة دينية أخري، انطلقت حركة الإخوان من مقولة "إن السر في تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم، وإن أساس الإصلاح العودة إلي تقاليد الإسلام وأحكامه، وإن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون، وإن فكرة الإخوان تحقق هذه الغاية".

ولتحقيق كل هذه الأهداف، لابد من إقامة الحكومة الإسلامية التي تطبق قواعد الإسلام، كما أراد الإخوان إحياء الخلافة، ومفهوم الجامعة الإسلامية، تحقيقا لوحدة المسلمين وتضامنهم. وهكذا، فإن جماعة الإخوان المسلمين تتخذ من الإسلام منهاجا لها، وتتسم بالشمول. فهي تتبني الرؤية القائلة إن الإسلام قدم نظاما شاملا للحياة في مختلف مجالاتها.

وأهم ما يثير درجة كبيرة من عدم التأكد بالنسبة لأهداف الجماعة هو اتسامها بالغموض وعدم التحديد بالنسبة لشكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وقد يكون هذا الغموض مقصودا لبعض قادة الجماعة لإعفائهم من مسئولية تحديد الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية،وتحديد موقفها من الأحداث الجارية(8).

وقد كان قيام ثورة 25 يناير نقطة تحول في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين. فبعد أن قضت الجماعة معظم تاريخها في العمل السري منذ نشأتها قبل 83 عاما، بدأت العمل العلني من خلال حزب "الحرية والعدالة" الذي وافقت عليه لجنة شئون الأحزاب في 6 يونيو 2011(9).

وأهم ما يلاحظ علي مسار حركة الجماعة بعد ثورة 25 يناير ما يلي:

- إنه لا تزال هناك حالة من عدم الوضوح والغموض تشوب السلوك السياسي للجماعة. وبالرغم من إعلان الجماعة أن حزب "الحرية والعدالة" سوف يكون مستقلا عن الجماعة، فإنه لا يعدو أن يكون ذراعا سياسية لها.

- بالإضافة إلي أن برنامج الحزب، وهو المعبر سياسيا عن الجماعة، يبدو غير واضح، ولا يحدد موقفة من ترشيح المرأة والأقباط للرئاسة، واكتفي بالنص علي مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة. وبالنسبة للاقتصاد، أوضح برنامج الحزب أنه يستمد رؤيته الاقتصادية من مرجعية النظام الاقتصادي الإسلامي، كما أعلن الحزب في برنامجه عن تشجيعه للسياحة.

- إذا كان اختيار مسمي حزب "الحرية والعدالة" يمثل إشارة معبرة عن رغبة الجماعة في السير خلف التجربة التركية، فإنه لا تزال هناك شكوك واضحة داخل قطاعات عريضة من المجتمع تتعلق بقدرة جماعة الإخوان علي تقديم تصورهم لدولة مدنية تقوم علي المواطنة والديمقراطية، استنادا إلي مرجعية إسلامية رصينة، كما هو الحال بالنسبة لتركيا(10).

- إن هناك حالة من التضارب وعدم التنسيق الداخلي في تصريحات قيادات الجماعة، ناهيك عن أن بعض التصريحات تبدو خارج نطاق المنطق، مثل التصريح بأن هزيمتي 1956 و1967 كانتا نتيجة استبداد النظام السياسي وتعسفه تجاه جماعة الإخوان المسلمين، أو التصريح بأن الثورة علي النظام السياسي السابق كانت نتيجة لتجاوزه في حق جماعة الإخوان المسلمين والشهيد حسن البنا(11).

- إن هناك حركة تجديدية داخل الجماعة، يقودها شباب الجماعة الذين يسعون لنشر ثقافة ديمقراطية جديدة داخل الجماعات، بحيث يكون لمجلس الشوري سلطات حقيقية تشمل مراقبة أداء مكتب الإرشاد. ولعل التضارب داخل الجماعة بشأن موقفها من المشاركة في جمعة الغضب الثانية يعكس درجة من عدم التوافق الجيلي داخل الجماعة(12).

2- الجماعات السلفية:

ربما لم تسفر ثورة 25 يناير عن بروز قوة سياسية واجتماعية في المجتمع بقدر ما أبرزت التيار السلفي، بالرغم من أنه لم يكن يوما جزءا من الحراك السياسي. وقد كان الاستفتاء علي التعديلات الدستورية في 19 مارس 2011، أول إعلان عن ظهور السلفيين، حيث أصدرت الدعوة السلفية بالإسكندرية أول بيان لها، طالبت فيه الشعب المصري بالمشاركة في الاستفتاء بالموافقة علي التعديلات، ضمانا لعدم التعرض للمادة الثانية من الدستور.

وقد اتسم السلوك السياسي للجماعات السلفية منذ الثورة بما يلي:

- العمل علي إقصاء الآخر، ولا يزال تصريح الداعية السلفي البارز محمد حسين يعقوب حول "غزوة الصناديق" ماثلا في الأذهان.

- إن التيار السلفي لا يتورع عن استخدام العنف، وقد برز ذلك من خلال معركة هدم الأضرحة، وقطع الأذن، واقتحام بعض المنازل، وإثارة أحداث الفتنة الطائفية.

- أراد السلفيون أن يضعوا أقدامهم بقوة في الحياة السياسية، فبدأ بعضهم في تشكيل مجالس وائتلافات كنوع من التنظيم، ومحاولة لتجميع بعضهم بعضا في كيان واحد، منها "مجلس شوري العلماء"، وكذلك "الهيئة العليا للحقوق والإصلاح". وقد كانت الخطوة الأهم علي طريق السياسة إعلانهم تأسيس حزبي "الفضيلة" و"النور".

حزب النور هو أول حزب سلفي تتم الموافقة عليه، ويتضمن برنامجه النص علي أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، وتأكيد تأمين الحرية الدينية للأقباط، وإقامة دولة حديثة، واستقلال الأزهر، والقضاء علي النظام الربوي في البنوك والإقراض، والتوسع في التمويل الإسلامي، وقدأعلن الحزب أن أبوابه مفتوحة للجميع(13).

والواقع أن بروز بعض التيارات الإسلامية بشكل مفاجئ بعد ثورة 25 يناير، وبعد عقود من العزلة، أدي إلي إصابة المجتمع بصدمة، خاصة في ظل هذا الخضم من التصريحات غير المسئولة، والتي أثارت -ولا تزال تثير- قدرا كبيرا من الجدل.

ثالثا- سيناريو الدولة الدينية:

عادة ما طرحت النماذج التفسيرية التقليدية حول المجتمع المصرين عددا من القيود التي رأت تلك النماذج أنها تحول دون نشأة دولة دينية في مصر، أو تقلص من فرص ذلك الاحتمال كثيرا. ويأتي في مقدمة تلك القيود ما يلي:

- إن إسلام مصر معروف بالوسطية، وموصوف بالاعتدال، والدين يمثل مكونا أساسيا في حياة المصريين منذ ما قبل الديانات السماوية. كما أن الإسلام في مصر يتسم بالنقاء والبعد عن الصراعات المذهبية، فمصر كما يصفها المفكر د.مصطفي الفقي "سنية المذهب شيعية الهوي". لقد مثلالإسلام في مصر ثقافة تستوعب الآخر وتنفتح عليه، بحيث يمثل المسلمون والأقباط في هذا الإطار نسيجا متكاملا. كما أن شخصية المصري البعيدة عن العنف والتي ترفض التعصب لها أثرها في رفع الوعي الديني للشعب المصري، في ظل الدور التاريخي المعتدل للأزهر علي مدي أكثر من ألف عام، وتفرد الكنسية الأرثوذكسية المصرية. وفي إطار هذه المنظومة الثقافية المترابطة، يصعب أن يظهر التطرف إلا في ظروف استثنائية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا(14).

وفي هذا الإطار ذاته، أكد شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن مصر لا تعرف التمييز الديني، والمادة الثانية من الدستور والشريعة الإسلامية تطبق علي المسلمين فقط، والدستور المصري يكفل حرية العبادة للجميع، ومنهج الإسلام الوسطي المعتدل يكفل حرية الاعتقاد(15).

- إن هناك جدلا يدور حول رصيد التيارات الدينية، وعلي رأسها "جماعة الإخوان المسلمين". فإذا كان لدي الجماعة ثلاثة ملايين عضو، فإن هناك 85 مليون مصري خارج الجماعة(16).

كما أظهر استطلاع للرأي العام -أجراه "مركز جالوب" علي عينة من ألف مبحوث من مصر بنسبة خطأ 3%- أن غالبية المصريين تعارض قيام دولة دينية، فيما اقتصرت نسبة الداعين إلي دولة دينية 1%. وبحسب هذا الاستطلاع، فقد بلغ عدد المؤيدين ل- "جماعة الإخوان المسلمين" 15% من المستطلعة آرائهم.

وتتراوح معظم التقديرات حول رصيد "الإخوان المسلمين" من التأييد بين 20 و25%، وهذا ما حدث في انتخابات الاتحادات الطلابية التي أعقبت الثورة(17).

- إن تحالف الإخوان مع قوي وتيارات غابت عن الساحة في مصر فترات طويلة، مثل السلفيين، والتنسيق معهم في حضور جلسات الحوار والمشاركة في فعاليات الثورة، يمكن أن يقلص من قدرتهم علي الوجود وكسب التعاطف الشعبي. في هذا الإطار، يبدو أن المواجهة الكبري خلال المرحلة المقبلة ستكون بين التيارات الإسلامية والليبراليين(18)، وهي مواجهة ستحسم هل الحياة السياسية في مصر ستحكمها الأطر الفكرية المتنوعة والنسبية أو الرؤي الدينية الأحادية والمطلقة.

بالرغم من رجاحة كل تلك القيود، وبالرغم من أن ثورة 25 يناير 2011 لم يقدها حزب أو تيار أو مجموعة اجتماعية، وإنما كانت ثورة شعبية لجموع الشعب المصري بامتياز، فإن بعض المعطيات التي بدأت تبرز علي الساحة تجعل ظهور دولة دينية في مصر بمثابة حدث "البجعة السوداء" الذي لم يكن متوقعا، بل ومستبعدا، بالنسبة للحالة المصرية حتي وقت قريب. والأخطر أن تداعيات هذا الحدث، حال تحققه، قد تمثل بدورها سلسلة من أحداث "البجع الأسود" التي لا يمكن لأي تحليل الإلمام بها. ولعل المعطيات التي توجد درجة ما من الاحتمالية أمام هذا السيناريو تتمثل في:

1- إن نسبة تأييد "جماعة الإخوان المسلمين"، التي كشف عنها استطلاع "جالوب"، ستتضاعف علي أقل تقدير إذا ما قيست إلي إجمالي عدد الناخبين، الذي يقدر بأربعة وأربعين مليونا، وليس إلي إجمالي الشعب المصري. ويمكن لتأثير هذا التأييد أن يزيد، في ظل حقيقة أن العدد الفعلي للمشاركين في الانتخابات سيقل بالتأكيد عن العدد الإجمالي للناخبين، وكذلك في ظل الالتزام التنظيمي العالي الذي تعرفه الجماعة، وفي ظل شعور أعضائها بفرصة تاريخية للوصول إلي حكم مصر بشكل قوي ومؤثر.

2- ضعف الوجود الفعلي علي الأرض للقوي السياسية ذات التوجهات السياسية المدنية، والتي يمكنها منافسة التوجهات التديينية التي تتبناها قوي الإسلام السياسي.

3- إن جماعة الإخوان المسلمين لم تقدم طرحا سياسيا حقيقيا يؤكد مدنية الدولة، بمعني المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين مختلف المواطنين المصريين، بغض النظر عن انتمائهم الديني. كما لم تحدد بشكل واضح موقع النص الديني من العملية التشريعية. وبالقياس إلي المبدأ الذي صاغه منشئ الجماعة والقائل إن "القرآن دستورنا"، يجعلنا أمام احتمال ظهور دولة دينية بامتياز، حال وصول الجماعة إلي مقاليد الحكم والتشريع في مصر.

هذا عدا عن أن التيارات الدينية الأخري تعلن صراحة سعيها لتأسيس دولة يكون الحكم فيها وفق أحكام الشريعة، أو بمعني آخر تفسير تلك التيارات للقرآن والشريعة الإسلامية.(انظر الشكل رقم2).

1- المسار الأول: قيام ممثلي التيارات الدينية، وعلي رأسها "جماعة الإخوان المسلمين"، بخوض الانتخابات البرلمانية القادمة بالائتلاف مع قوي سياسية أخري، وحصول تلك التيارات علي نسبة من المقاعد تتجاوز 50% وفقا لما أعلنته الجماعة. من شأن ذلك الاحتمال أن يمكنهم منكسب الأرض أولا، ثم العمل علي تضمين الدستور الجديد -عند وضعه- ما ينص علي تطبيق الشريعة الإسلامية بمجرد وصولهم للسلطة في أي انتخابات تالية، معولين في ذلك علي ما لهم من رصيد شعبي يدعمهم.

2- المسار الثاني: وضع دستور سابق علي الانتخابات البرلمانية. ورغم أي ضمانات لمدنية الدولة يمكن إدراجها في ذلك الدستور، فإن ذلك لن يحول دون قيام تلك التيارات -حال حصولها علي الأغلبية البرلمانية في أي انتخابات تشريعية مقبلة- بالسعي لإدخال تعديلات علي الدستوربشكل يجعل هذا الخيار -"الدولة الدينية"- متاحا ومفتوحا.

3- المسار الثالث: وصول ممثل لجماعة الإخوان المسلمين إلي منصب رئيس الجمهورية، خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، سواء أظهرت الجماعة تأييدها لهذه الخطوة أم لا. من شأن ذلك التطور أن يمثل نقطة تحول مهمة ستكون لها عواقبها علي الدولة علي المستوي السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

4- المسار الرابع: الذي يمكن أن يؤدي إلي إقامة حكم ديني في مصر يرتبط بترد في الأوضاع الاقتصادية بشكل يزيد من درجة الضغوط علي الطبقات الفقيرة. فالإغراق في الحديث والحوار حول القضايا السياسية، وتنحية قضايا مصيرية مثل العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، يهددبانتفاضة عشوائية تؤدي لتجدد حالة الفوضي، ويعطي ذلك الفرصة للتيارات الدينية في أن تبدو الملاذ والملجأ الآمن، مما يتيح لها الفرصة لإرساء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي يمهد لإقامة الدولة الدينية.

رابعا- تداعيات تحقق سيناريو الدولة الدينية في مصر:

في حال وصول أي من التيارات الدينية، منفردة أو مجتمعة، إلي السلطة وحصولهم علي أغلبية تتجاوز 50%، فإن ذلك سيكون له آثاره علي المستوي الداخلي والإقليمي والدولي.

1- علي المستوي الداخلي، يمكن أن يؤدي وصول التيارات الإسلامية للسلطة إلي ما يلي:

- تقييد الحقوق والحريات العامة ومنها حرية الرأي والتعبير والإبداع وحق النقد والمراجعة والرقابة علي كل ما يصدر.

- بالرغم من تبني جماعة الإخوان المسلمين مبدأ المواطنة والمساواة، فإن وصولهم إلي السلطة يمكن أن يؤثر سلبا في وضع الأقباط والمرأة، خاصة أنهم يتبنون الرأي الفقهي الذي يمنع ترشيح الأقباط والمرأة لمنصب رئيس الدولة. وقد يؤدي ذلك إلي تضخيم شعور الأقباط بأنهم أقلية، وكذلك اتباع سياسات تمييزية ضد المرأة، وتحديدا في مجال التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية.

- في حال تم انتقاص الحقوق السياسية لأصحاب الديانات الأخري، فمن شأن ذلك مفاقمة المسألة الطائفية في مصر، وطرح السيناريوهات الأسوأ، سواء أكانت حربا أهلية أم حتي مطالب انفصالية.

- قد يترتب علي اتباع سياسات تقييدية وعدم الالتزام بقواعد المواطنة عامل مثير لحركة معارضة ورفض داخلي، سوف يقوم به علي الأقل الأربعة ملايين مواطن الذين صوتوا ب- "لا" في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية.

- وفي ظل تلك التهديدات، فإن أي سيناريو مستقبلي بشأن التطور السياسي في مصر لن يخلو من دور المؤسسة العسكرية. وفي هذا الإطار، طرحت فكرة وضع مواد فوق دستورية تجعل المؤسسة العسكرية حامية للدولة المدنية، كما هو الوضع في تركيا. وقد قوبلت فكرة النص علي دور مميز للمؤسسة العسكرية بعدم رضا من جانب التيارات الدينية.

وسواء تم النص علي دور مميز للمؤسسة العسكرية في الدستور أو لم ينص علي ذلك، فستظل المؤسسة العسكرية تلعب دورا محوريا في النظام السياسي، خلال المرحلة الانتقالية، وحتي يتبلور شكل النظام السياسي.

وقد أكد أول بيان للقوات المسلحة ثلاثة مبادئ رئيسية تحكم دور المؤسسة العسكرية، هي:

- تبني المطالب المشروعة للشعب.

- حق التظاهر السلمي.

- أن القوات المسلحة لم ولن تستخدم العنف ضد أبناء الشعب.

كما أكد المجلس العسكري مرارا أنه يقف علي مسافة واحدة من جميع الأطراف، ولن يسمح بالنيل من وحدة الشعب، وإحداث الفتنة بين مسلميه وأقباطه.

2- علي المستوي الإقليمي، هناك قوي إقليمية من المتصور أن تدعم أي سيناريو مستقبلي بشأن إقامة دولة دينية في مصر مثل إيران وحزب الله، حيث تحرض إيران بشكل خاص علي عدم وجود نظام يناصبها العداء في مصر. كما أن هناك قوي إقليمية أخري تحرص علي استقرار وهدوء الأوضاع في مصر، مثل المملكة العربية السعودية التي يرجح ألا ترحب بإقامة دولة إسلامية في مصر علي أيدي "الإخوان المسلمين"، حيث قد يهدد ذلك شرعيتها كنظام سني وحيد في المنطقة يحرص علي مواجهة النظام الإيراني.

3- علي المستوي الدولي، لا يوجد ما يشير إلي أن بعض الدول الكبري، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، لديها رغبة حقيقية لدعم الديمقراطية. فعلي مدي عقود، ظلت هذه الدول تدعم نظما سلطوية في المنطقة، ما دامت تحقق مصالحها. كما أن بريطانيا بشكل خاص تمثل قاعدة تنظيميةللإرهاب الجهادي في مختلف أرجاء العالم. وهكذا، فإن اهتمام الولايات المتحدة أو بريطانيا لن ينصب علي موضوع الديمقراطية قدر تركيزه علي النفط وأمن إسرائيل. وسوف تسعي هذه القوي لاستمالة التيارات الدينية.

لكن يظل أنه إذا كان هناك عدد من المسارات يمكن أن تفضي لإقامة دولة دينية، فإن ما يحول دون تحقيق هذا السيناريو لا يزال أقوي كثيرا من العوامل التي يمكن أن تدعمه. لذا، فإن المستقبل يبدو مفتوحا علي سيناريوهات متعددة، بل ومتناقضة، سيحكم تحقق أي منها سلوك المصريين، شعبا وقوي سياسية وحكومة، واختياراتهم، خلال المرحلة المقبلة.

المراجع:

(1) حول مفهوم الثورة وسماتها، راجع:

- Francois Furt،Democracy،Utopia،and revolution،journal of democracy vol. 9،No. 1 (January 1998) PP. 65-79

- S. N. Eisenstadt،Framwarks of Great Revolutions،Culture،History and Human Agency.

International social science journal،No. 133،(August 1992) PP. 389-401.
 

(2) راجع ملحق مجلة السياسة الدولية، اتجاهات نظرية: الثورات، عدد 184، أبريل 2011 ص ص10-61.

(3) فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ، وخاتم البشر، ترجمة: حسين أحمد أمين، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1993، ص ص180- 186).

(4) مصطفي الفقي، الدولة المصرية والرؤية العصرية .. من فقه المراجعة إلي فكر المستقبل، (القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، ص ص232-236).

(5) انظر: شادية فتحي، "هل تمثل المؤسسة العسكرية عائقا للتحول الديمقراطي"، ورقة غير منشورة، مؤتمر "مستقبل التطور الديمقراطي" الذي عقدته "جماعة تنمية الديمقراطية"، 2 إلي 3 نوفمبر 7991.

(6) انظر: S. N. Eisenstadt،Op. Cit.،PP. 385-401.

وانظر أيضا: ألكسيس دي توكفيل، الديمقراطية في أمريكا، ترجمة: أمين مرسي قنديل، (القاهرة: عالم الكتب، 1997).

(7) اليهود هم أول من حاول إقامة الدولة الدينية من بين الديانات السماوية الكبري، وهم أول من صاغ مصطلح الثيوقراطية، وذلك لاعتقادهم بأن الله قد ميزهم عن الأمم الأخري، وأنهم أقرب الشعوب إلي الله، وأن الشعب اليهودي "هو شعب الله المختار".

راجع: إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية .. دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي، (الكويت: عالم المعرفة، 1994، ص160).

(8) علي الدين هلال، العهد البرلماني في مصر من الصعود إلي الانهيار: 1923 - 1952، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2011، ص ص264-273).

(9) الأهرام، 7 يونيو 2011، والمصري اليوم، 8 يونيو 1102.

(10) أسامة الغزالي حرب، الإخوان المسلمون عند مفترق طرق، الأهرام، 25 مايو 1102.

(11) المصري اليوم، 11 يونيو 1102.

(12) وحيد عبد المجيد، التجديد ما بين حزب الإخوان وشبابهم، الأهرام، 17 مايو 1102.

(13) المصري اليوم، 31 مايو 1102.

(14) مصطفي الفقي، مرجع سابق، ص ص240-342.

(15) راجع الأهرام، 10 يونيو 1102.

(16) فاروق جويدة، لغة الحوار والبحث عن الغنائم، الأهرام، 12 يونيو 1102.

(17) المصري اليوم، 6 يونيو 1102.

(18) سعيد عكاشة، هل يمكن مواجهة القوي الدينية في مصر، الأهرام، 6 مايو 1102.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شادية فتحي

    د. شادية فتحي

    أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة