احتلت القضايا المتعلقة بالهجرة عامة، وبالمهاجرين المسلمين بشكل خاص، موقع الصدارة في وسائل الإعلام الأوروبية أخيرا، حيث أصبحت محورا لجدال سياسي جاد في كثير من دول الاتحاد الأوروبي.
ففي فرنسا، أثار قرار الرئيس الفرنسي ساركوزي ترحيل أعداد كبيرة من المهاجرين الغجر 'الروما' إلي رومانيا انتقادا شديدا في الأوساط السياسية الفرنسية والأوروبية، بوصفه انتهاكا لحقوق مواطني الاتحاد الأوروبي في التحرك بحرية بين دوله، وإن لم يكن خرقا صريحا للقانون الفرنسي. أما في ألمانيا، فقد أثار كتاب صدر حديثا بقلم عضو حزب الديمقراطيين الاشتراكيين، ثايلو سارازين، جدلا كبيرا، حيث أنحي الكاتب باللائمة علي الجاليات التركية المسلمة لعجزها عن الاندماج في المجتمع الألماني، ولتدني مستويات أبنائها في التعليم، مما يؤثر سلبا في المجتمع ككل. وقد انقسم المجتمع الألماني ما بين معارض للآراء التي عبر عنها الكاتب، ومتهم له بالعنصرية، وبين مؤيد لضرورة الحديث بصراحة عن المشكلات المتعلقة بالجاليات المسلمة في ألمانيا. وقد أجبر هذا الجدل الشديد سارازين علي الاستقالة من منصبه في البنك المركزي الألماني، كما أن هناك دعوات لطرده أيضا من الحزب. من ناحية أخري، صدرت تصريحات لمسئولين ألمان تعترف بوجود 'أخطاء' في سياسات التعامل مع الهجرة والمهاجرين، وتعلن عن إجراءات جديدة لدعم مستواهم التعليمي واتقانهم اللغة الألمانية، لتحقيق قدر أكبر من الاندماج مع المجتمع الألماني ككل.
وتشير استطلاعات الرأي بوضوح إلي أن هناك مناخا عاما معاديا للهجرة والمهاجرين في مختلف البلاد الأوروبية. فبحسب استطلاع أجرته جريدة الفايننشيال تايمز في أواخر أغسطس 2010(1)، عبرت نسبة كبيرة من المشاركين عن رؤية سلبية لتداعيات وجود المهاجرين في بلادهم. فقد عبر 48% من المشاركين من فرنسا عن اعتقادهم بأن وجود المهاجرين له تداعيات سلبية علي الاقتصاد. وفي إسبانيا، حيث تبلغ نسبة البطالة 20%، عبر 67% عن اعتقادهم بأن عمليات الهجرة إلي بلادهم تصعب من إمكانية حصولهم علي عمل، كما اعتقد 32% منهم أن وجود العمالة المهاجرة قد أدي إلي خفض الرواتب التي يحصلون عليها. وقد عبر 6 من كل عشرة مشاركين من بريطانيا عن اعتقادهم بأن وجود المهاجرين قد أثر سلبا في نوعية الحياة في البلاد. وقرر 63% أن مستويات الهجرة تؤثر سلبا في مستوي الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة، وعبر 66% عن رأيهم بأن ذلك يؤثر سلبا في الخدمات التعليمية التي تقدمها الحكومة.
وقد تزامن إجراء هذا الاستطلاع مع صدور تصريحات للوزير البريطاني لشئون الهجرة، يؤكد فيها أن علي بريطانيا مراجعة كل سياسات الهجرة، وأن تحد من أعداد المهاجرين، وأن تعمل علي أن تحصل فقط أكثر العناصر تميزا وتفوقا علي تأشيرات للدراسة أو العمل في بريطانيا.
كما أظهرت استطلاعات الرأي أن هناك شعورا عاما للعداء تجاه الرموز والتقاليد الإسلامية. فحسب استطلاع منظمة Pew ، في أبريل ومايو 2010،(2) عبر 82% من الفرنسيين عن مساندتهم لقرار منع ارتداء النقاب في الأماكن العامة، كما عبر 71% من الألمان، و62% من البريطانيين، و59% من الإسبان عن مساندتهم لصدور مثل هذا القرار في بلدهم.
جذور 'الإسلاموفوبيا' في المجتمعات الغربية :
ارتبط الاهتمام بقضايا الإسلام والمسلمين في أوروبا بأحداث 11 سبتمبر 2001، وقضايا مثيرة مثل 'الرسوم الدنماركية'، ثم تورط أبناء الجاليات المسلمة المختلفة في أوروبا في أعمال عنف وإرهاب داخل أوروبا. لكن الأكاديمي الراحل، فريد هاليداي، قدم في كتابه الشهير عن أحداث سبتمبر وتداعياتها(3) تحليلا أكثر شمولا وعمقا لجذور هذه القضية.
يعترض هاليداي في البداية علي مصطلح الإسلاموفوبيا، حيث يري أن القضية تتعلق بظهور العداء للمسلمين، كشعوب أو جاليات مهاجرة، في إطار بيئة تاريخية واستراتيجية واجتماعية معينة، ولا تتعلق بالاعتراض علي الإسلام كدين. ولذلك، فلا يعتبر هاليداي العداء للمسلمين منظومة فكرية متكاملة في حد ذاته، بل هو 'شبه أيديولوجيا'، يرتبط ظهوره بوجود مشاكل أخري، مثل التباين الإثني، والمشاكل الاقتصادية والمجتمعية، والاستغلال السياسي لهذا العداء لحشد الدعم والأنصار. ولذلك، فإن شكل ومضمون العداء للمسلمين يختلف باختلاف البيئة التي يظهر فيها، والأغراض التي يوظف من أجلها.
وبالنسبة لظهور العداء للمسلمين في مجتمعات أوروبا الغربية، فإن جذوره ترجع، بحسب هاليداي، إلي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث كان له رافد 'استراتيجي' ورافد 'اجتماعي'. ارتبط ظهور فكرة أن المسلمين يشكلون خطرا استراتيجيا علي الغرب بالحظر الذي فرضته منظمة الأوبك علي صادرات البترول لبعض الدول الغربية عام 1973، والارتفاع الكبير في أسعار البترول الذي واكبه. وقد شكل ذلك صدمة كبيرة للنظام الاقتصادي الغربي والمجتمعات الغربية، التي سرعان ما وصفت هذا الفعل بأنه 'مبادرة إسلامية'، رغم أن منظمة الأوبك تضم أيضا دولا غير إسلامية.
دعم قيام الثورة الإيرانية وأزمة الرهائن الأمريكية، ثم الغزو العراقي للكويت في 1990، من هذه الرؤية السلبية للمسلمين، رغم أن نظام صدام حسين كان من أكثر النظم علمانية في الشرق الأوسط. وقد وجدت هذه الرؤية بيئة صالحة نتيجة لانتشار التحيز العنصري ضد العرب، والمرتبط بتداعيات الصراع العربي - الإسرائيلي، خاصة بعد حرب 1967، وبعد اتجاه بعض الفصائل الفلسطينية للقيام بعمليات خطف للطائرات وقتل 'للرهائن'.
استمدت هذه الرؤية السلبية، التي جمعت المسلمين والإيرانيين والعرب في إطار واحد، قوة دفع جديدة بعد نهاية الحرب الباردة، وذيوع فكرة إحلال 'الخطر الإسلامي' محل الخطر الشيوعي المنهار. وقد عبر نائب الرئيس الأمريكي، دان كويل، عن هذا التوجه في خطاب أمام طلبة الأكاديمية البحرية الأمريكية عام 1990، حين قارن الأصولية الإسلامية بالنازية والشيوعية.
أما الرافد الاجتماعي لهذا العداء، فارتبط بالانكماش الاقتصادي في أوروبا، واتجاه الساسة اليمينيين للترويج إلي أن العمالة المهاجرة المقيمة في المجتمعات الأوروبية قد أصبحت عبئا، مستغلين ذلك في إطار التنافس السياسي علي أصوات المنتخبين. وكان المثال لذلك دعوة السياسي اليميني الفرنسي، جان لوبان، أوائل التسعينيات من القرن الماضي، لترحيل ما يقرب من 3 ملايين مهاجر إلي بلادهم في شمال إفريقيا، وإلقاء ساسة يمينيين في بلجيكا في الفترة نفسها باللائمة علي 'المهاجرين المغاربة الذين ينجبون أعدادا كبير من الأطفال'، والذين يتسببون بذلك في عبء كبير أدي إلي ظهور عجز في الموازنة.
ظهرت في هذه الفترة أيضا عدة أزمات تتصل مباشرة بتقاليد وقيم الجاليات المسلمة، مثل قضية ارتداء طالبات مسلمات للحجاب في مدارس حكومية فرنسية، والتي اندلع النقاش حولها عام 1989، ثم أثيرت مرة أخري عام 1994 . كما كان للهجوم الإسلامي الشديد علي الكاتب سلمان رشدي، بسبب روايته آيات شيطانية، والمظاهرات التي قامت بها المنظمات الإسلامية البريطانية في ذلك، تأثير سلبي كبير في المجتمع الأوروبي، الذي اعتبر هذا الهجوم اعتداء علي حرية الفكر والتعبير التي تشكل مبادئ الساسة في المجتمعات الغربية الديمقراطية.
وقد واكب كل ذلك حدوث اعتداءات علي مساجد في أماكن متفرقة من أوروبا، وعلي مهاجرين أتراك في ألمانيا بدوافع عنصرية بحتة.
المسلمون خطر ديموجرافي علي أوروبا :
انتشرت في السنوات الأخيرة فكرة أن المسلمين في سبيلهم لأن يصبحوا أغلبية عددية في أوروبا، وذلك لتزايد أعداد المهاجرين من المسلمين، ولارتفاع نسبة الخصوبة، ومعدلات المواليد بين الجاليات المسلمة عنها في المجتمعات الأوروبية ككل.
ويعد المؤرخ المعروف برنارد لويس من أبرز المروجين لهذه الفكرة، التي تلعب دورا كبيرا في انتشار مشاعر العداء للمسلمين بشكل هيستيري في المجتمعات الأوروبية.
لكن الدراسة التاريخية المتأنية (4) تضحد هذه المزاعم بشأن التزايد الكبير في عدد المسلمين. فمن المعروف أن بداية وفود الجاليات المسلمة بأعداد كبيرة إلي أوروبا تعود إلي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث كانت أوروبا في أمس الحاجة إلي حجم أكبر من العمالة للقيام بعمليات إعادة التشييد، وتحقيق التنمية الاقتصادية. وقد لجأت كل من فرنسا وبريطانيا إلي مستعمراتهما السابقة 'لاستيراد' هذه العمالة، حيث توجهت العمالة المهاجرة من الجزائر وتونس والمغرب إلي فرنسا، بينما توجه المسلمون من منطقة جنوب آسيا، الهند وباكستان وغيرها، إلي انجلترا. أما ألمانيا، التي لم تكن لها مستعمرات سابقة، فقد اتجهت لجلب العمالة من تركيا. وكان اهتمام هذه العمالة منصبا علي جمع الأموال وإرسالها إلي ذويهم في بلدهم الأم، ولذلك لم ينشغلوا بقضايا الاندماج أو غيرها. ولكن مع امتداد بقائهم لفترات طويلة، وحصول العديد منهم علي إقامات شرعية وبعضهم علي الجنسية، فقد طالب هؤلاء العمال بإحضار ذويهم إلي دول الهجرة تحت بند جمع شمل العائلات. وقد كان من العسير علي الحكومات الغربية عدم تلبية هذا المطلب، في إطار إحساسها بالذنب تجاه المستعمرات السابقة، وكون ذلك حقا طبيعيا من حقوق الإنسان التي تشكل مبدأ مهما في الثقافة السياسية الأوروبية.
ورغم أن النمو الأوروبي قد شهد تراجعا في هذه الفترة، مما جعل الحكومات تتجه إلي مطالبة هذه العمالة الوافدة بالرحيل، فإنهم تمسكوا بالبقاء، حيث إن ظروفهم في دول المهجر، مهما تكن، تظل أفضل منها في دولهم الأصلية.
أدي سماح الحكومات الأوروبية لجمع شمل العائلات إلي توافد الملايين من المهاجرين المسلمين الجدد إلي أوروبا، خلال عقد الثمانينات. وعلي سبيل المثال، فقد قفز عدد المسلمين في فرنسا من مليون في منتصف الستينيات إلي 3 ملايين مع نهاية الثمانينيات. وتكرر مثل ذلك الأمر في ألمانيا وبريطانيا وهولندا. تكمن أهمية هذه الخلفية التاريخية في أن معظم التقديرات التي تشير إلي زيادة كبيرة في عدد الجاليات المسلمة في أوروبا بحلول عام 2050، ترتكز علي هذه الطفرة الاستثنائية التي حدثت في عدد المسلمين، نتيجة لسياسة جمع شمل العائلات، وتستخدمها كمعيار لزيادة تعداد المسلمين، وهي لذلك غير دقيقة، ومبالغ فيها. من ناحية أخري، تتجاهل معظم هذه التقديرات حقيقة أن معدلات خصوبة النساء المسلمات في أوروبا تتراجع، لتصبح أقرب إلي المتوسط العام. وإذا استثنينا المسلمين الأوروبيين في البلقان، فإن عدد المسلمين في الاتحاد الأوروبي يبلغ نحو 15 مليونا، مما يشكل 3.7% من إجمالي السكان. وإذا استمرت الزيادة بمعدلاتها الحالية، فإن تعدادهم في عام 2030 سيصل إلي نحو 25 مليونا، أي 6% من إجمالي السكان. ولذلك، فإن فكرة وصول المسلمين إلي الأغلبية العددية في المجتمعات الأوروبية لا أساس لها من الصحة(5).
الذعر الأوروبي من تنامي 'الهوية الإسلامية':
خلص الكاتب والمحلل كريستوفر كالدويل، في كتابه عن قضايا الهجرة والإسلام في الغرب(6)، إلي أن مشكلة أوروبا الأساسية
مع الإسلام خاصة، ومع قضية الهجرة عامة، هي أن الجاليات المسلمة، وهي أقوي التجمعات تماسكا في أوروبا، هي - من الناحية الثقافية - ليست أوروبية علي الإطلاق. وبينما يعترف كالدويل بأن الإسلام 'دين عظيم'، وأنه أنتج في فترات تاريخية مختلفة ثقافة مزدهرة ومنفتحة، فإنه 'ليس بأي حال من الأحوال دين أوروبا، وليست ثقافته، بأي شكل من الأشكال، ثقافة أوروبا.'
يشير تحليل كالدويل إلي المخاوف الأوروبية المتزايدة من أن تفرض الجاليات المسلمة في أوروبا قيمها وعاداتها وأفكارها علي المجتمع الأوروبي، حتي وإن كانت لا تشكل أغلبية عددية، نتيجة لتماسكها الشديد، وانخراط الأجيال الجديدة منها في العمل السياسي. فيوجد في بريطانيا اليوم العديد من المسلمين أعضاء في مجلس العموم، بل ومجلس اللوردات، لكنهم يحملون رؤية مختلفة تماما عن أقرانهم من البريطانيين. وليست المشكلة، بحسب كالدويل، أن ينجح المسلمون، عن طريق حشد أصواتهم الانتخابية، في تغيير مسارات القضايا المطروحة للجدل حاليا. ولكن الخطر يكمن، في رأيه، في أن يعمل المسلمون علي تغيير القضايا المطروحة نفسها، وأن يفتحوا الباب لإعادة النظر في قضايا مجتمعية يعتقد الأوروبيون أنها قد حسمت إلي الأبد.
يشير كالدويل إلي أن المسلمين يلجأون إلي 'إرهاب' المجتمعات عن طريق دعاتهم المتشددين، وأنهم باحتشادهم بأعداد كبيرة في مناطق معينة - علي سبيل المثال هناك مليون مسلم في لندن، مما يشكل 8/1 عدد سكان العاصمة - يعملون علي خلق مجتمعات موازية، تسود فيها أنماط 'غير أوروبية' من السلوك، والتقاليد، بل واللغة.
ويقول كالدويل إن أوروبا قد أفاقت فجأة علي حقيقة أنه بمرور الوقت، لم تعد هذه تجمعات لجاليات 'تعيش في أوروبا'، بل لقد أصبحت 'هي أوروبا'.
ولا تشكل التعبيرات القوية عن الهوية الإسلامية البعد الوحيد للمشكلة، فهي تتزامن مع مرور المجتمعات الأوروبية بأزمة حقيقية في الهوية، وفي تحديد 'القيم الأوروبية' التي يريد المجتمع أن يدافع عنها في مواجهة القيم الإسلامية. ويربط بعض المحللين هذه الأزمة(7) بعجز المشروع الأوروبي عن أن يقدم هوية بديلة للهويات القومية التي عمل علي إضعافها. فقد ثبت، حسب هذه التحليلات، فشل فكرة التعددية الثقافية، وهويات 'ما بعد الحداثة'، أي تجاوز الانتماءات الإثنية والقومية التي كانت سببا في اندلاع صراعات عنيفة في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين.
وحسب هذه الرؤية، تتركز مشكلة غياب الانتماء من ناحية، وافتقاد المعايير الأخلاقية في مجتمع يتسامح مع استخدام المخدرات والدعارة، ويخفض العقوبات علي الجرائم، من ناحية أخري، في قطاعات الشباب، الذين يبحثون عن مخرج من هذه الأزمة. يبحث بعضهم عن المخرج في الانتماء إلي جماعات 'حليقي الرءوس'، الذين يستهدفون من هم مغايرون لهم - في اللون أو الجنس أو العقيدة - ويستعيرون رموزا فاشية أو نازية لا يعرفون في الواقع شيئا عن أصولها التاريخية أو معناها. وتشكل هذه الجماعات نوعا من المعارضة 'للنظام' غير محدد الهوية أو المعالم.
أما أبناء المهاجرين المسلمين، فيجدون في الدين الإسلامي، خاصة في التأويلات الأكثر تطرفا، مخرجا من أزمة الهوية. وهناك في أوروبا شباب من الجاليات المسلمة لا يستطيعون قراءة القرآن أو حتي فهمه، ولكنهم يتبنون التفسيرات السلفية بكل جوارحهم لأنها تعطيهم هوية، وتعطيهم هدفا، هو الحرب علي الكفار. تعطي هذه الهوية الإسلامية لهؤلاء الشباب أيضا المبرر لأن يعبروا عن رفضهم لنظام لا يستطيعون، أو لا يرغبون في التأقلم معه.
لا تنفصل هذه اللحظة التاريخية في أوروبا، حسب هذا التحليل، عن لحظة مشابهة، يبحث فيها العالم الإسلامي عن كبش فداء يحمله مسئولية التخلف والمعاناة التي يعيشها، ويتجه فيها إلي العودة تفسيرات يراها 'أكثر نقاء' للإسلام، بوصفها الطريق للخروج من أزمته. تنتقل هذه الأفكار من العالم الإسلامي إلي أوروبا مع المهاجرين الجدد، وعن طريق استمرار عادة الجاليات المهاجرة في الزواج بأفراد من مجتمعاتهم الأصلية.
بهذا، تنتقل الثقافة السياسية السائدة في الدول الإسلامية المختلفة إلي الجاليات المهاجرة وتنعكس عليها. يفسر ذلك العدد الكبير من الجزائريين والباكستانيين والمغاربة والسوريين الناشطين في مجال العمل الإسلامي في أوروبا، حيث توجد حركات إسلامية معارضة ونشطة في هذه البلاد، بينما ينخفض عدد الناشطين القادمين من مجتمعات أقل 'راديكالية'، مثل الأتراك والألبان.
ولكن المحصلة النهائية أن نشأت في أوروبا بيئة إسلامية متفردة، تتواري فيها الهويات القومية لمختلف الجاليات تحت لواء الهوية الإسلامية الواحدة. ويظهر ذلك بوضوح في الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين، حيث يشترك، علي سبيل المثال، جزائريون ومغاربة معا في الانضمام لخلية متطرفة في إسبانيا، ويتعاون باكستانيون وجزائريون في بريطانيا، وينشط الانضمام إلي حركة 'التبليغ' باكستانية المنشأ بين المهاجرين المغاربة في فرنسا.
ويلعب الإعلام بشكل عام، والإنترنت بشكل خاص، دوره في ربط هذا الشباب الأوروبي المسلم، المحبط والمهمش، بقضايا مثل العراق وكشمير وفلسطين، وهي بلاد لم يزوروها ولا يعرفون عنها إلا ما يقرءونه في الصحف أو علي المواقع السلفية. ومع ذلك، يسعي هؤلاء الشباب للقتال بل والموت في مثل هذه البلدان، لأن ذلك يمثل لهم مخرجا وحلا للمشكلات التي يعانونها.
وبالنظر إلي شيوع مثل هذه التحليلات السلبية والمتشائمة عن أوضاع الجاليات المسلمة، وانتشار الأفكار المتطرفة فيها، فليس من المستغرب أن يتصاعد التأييد للأحزاب اليمينية، والمتطرفة في يمينيتها، التي تحشد الدعم بزعم حماية المجتمع الأوروبي من مثل هذه الممارسات والأفكار المتطرفة. كما أنه ليس من الغريب أن تلقي هذه الرؤي بظلالها علي قضية أخري تتصل بالإسلام، وهي قضية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
المحاذير الأوروبية من انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي :
تقابل محاولات تركيا للانضمام إلي الاتحاد الأوروبي بالتسويف من الجانب الأوروبي. فرغم أن هناك معارضة شديدة من ألمانيا وفرنسا لضم تركيا، فإن أهمية هذه الدولة بالنسبة لأوروبا تمنعها من إبداء هذا الرفض صراحة. وقد أشار تحليل نشر أخيرا في
الفايننشيال تايمز إلي هذا الأسلوب المراوغ، واقترح أن تأخذ أوروبا بزمام المبادرة، وتضع أمام تركيا عرضا بالانضمام المقيد أو المنقوص للاتحاد(8).
يشير الكاتب إلي أن القضية المحورية وراء التخوف الأوروبي يكمن في شبح هجرة أعداد كبيرة من الأتراك للعمل والإقامة في دول الاتحاد المختلفة، إذا ما انضمت تركيا للاتحاد، مثلما حدث بعد انضمام دول شرق أوروبا. وفي ظل انتشار المناخ المعادي للهجرة بشكل عام، والهجرة المسلمة بشكل خاص، فسوف يكون من المستحيل، برأي الكاتب، إقناع الناخبين الأوروبيين بالموافقة علي انضمام تركيا.
يطرح المقال اقتراحا بأن تنضم تركيا إلي الاتحاد، بشرط ألا يتمتع مواطنوها بالحقوق الأوروبية الكاملة فيما يتعلق بحرية الحركة والعمل في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي. وبينما قد يعتبر البعض هذا الاقتراح عنصريا، وقد لا توافق عليه تركيا بالمرة، إلا أنه يوفر مزايا عديدة للطرفين. فسوف تكسب تركيا حرية الوصول إلي السوق الأوروبية، وستستفيد من الأشكال المختلفة من الدعم التي يقدمها الاتحاد لأعضائه الجدد الأقل ثراء، كما يمكنها أن تلعب دورا مهما في رسم السياسة الخارجية الأوروبية، وأن تشارك بوجود واضح في مختلف مؤسسات الاتحاد.
من ناحية أخري، سوف يزيد ذلك من متانة وقوة العلاقات بين الغرب وتركيا، ويخفف من المخاوف الغربية من تحول تركيا إلي الشرق.
لكن المخاوف الأوروبية لا تنحصر في الآثار الداخلية للانضمام التركي، بل إن لها أبعادا استراتيجية، عبر عنها المحلل المرموق جوزيف جافي(9) في مقال كتبه ردا علي الاقتراح السابق. فحسب رؤية جافي، تمثل تركيا 'كائنا مختلفا' عن باقي الدول التي سبق أن انضمت إلي الاتحاد الأوروبي. فهي دولة مسلمة، ولا يزال استقرار النظام الديمقراطي فيها محل شك، كما أن نظامها يشن حربا شرسة ضد مواطنيه من الأكراد، وهي ممارسات لا تتفق مع القيم الأوروبية المتعلقة بسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان.
من ناحية أخري، بانضمامها إلي الاتحاد سوف تصبح تركيا 'معبرا' يعرضه لمشاكل خطيرة. فسوف يصير الاتحاد جارا لكل من إيران وسوريا، وطرفا في مساعي تركيا لشغل مقعد زعامة العالم الإسلامي السني، الذي يبدو خاليا بعد تراجع الدور المصري والتردد السعودي. وإذا ما انهارت الأوضاع في العراق، بعد الانسحاب الأمريكي، فمن المتوقع أن تتدخل تركيا لتأمين الأوضاع في الشمال الكردي، لتكسب بذلك موارد نفطية، وتحرم معارضيها الأكراد من مركز انطلاق لعملياتهم. وعاجلا أو آجلا، سوف تتصادم التطلعات التركية مع المصالح الإيرانية، مما ستكون له تداعيات خطيرة سوف تطال، بلا أي شك، دول الاتحاد الأوروبي.
وبينما تواصل أوروبا محاولة النأي بنفسها عن التورط في مشاكل العالم الإسلامي، فإن الأصوات تتعالي بداخلها بأن غلق الحدود لم يعد مفيدا. فما يراه معظم الأوروبيين بصفة 'الآخر' أو 'العدو'، أي الجاليات المسلمة، قد أصبح بالفعل جزءا من 'الداخل'، وليس أمام المجتمع الأوروبي بكل أطيافه سوي التعامل مع الأمر الواقع بجميع أبعاده للمحافظة علي أوروبا موحدة مستقلة وتعيش في سلام.
الهوامش :
1 Financial Times، Sept. 6، 2010.
2-http//pewglobal.org/2010/07/08 widespread-support-for-banning-full-islamic-veil-in Western Europe.
3- Fred Halliday، Two Hours that Shook the World. September 11، 2001: Causes and Consequences. London: Saqi Books، 2002.
4- Omer Taspinar، زEuropeصs Challenge is Intergration، Not Eurabiaس. www. World Politics Review.com/articles/print/6194، July 27، 2010.
5- Ibid.
6- Christopher Caldwell، Reflections on the Revolution in Europe. Immigration، Islam and the West، The United States، Doubleday، 2009.
7-Michael Radu، زThe Islamist Ghost Haunting Europeس، www.fpri.org/enotes/201004.radu.islamistghost.html. April 2010.
8- Gideon Rachman، زEnd the Hypocrisy and Talk Turkeyس، Financial Times، August 23، 2010.
9- Josef Joffe، زTurkey is a Bridge too Far for Europeس. Financial Times، August 25، 2010.