في الآونة الأخيرة، طرحت في بعض الصحف والبرامج المرئية مناقشات حول دور المحكمة الجنائية الدولية بصدد الاعتداءات التي وقعت على المتظاهرين، خلال أحداث ثورة 25 يناير 2011 ، وما سبق ذلك من تجاوزات في ضوء نظام الحكم السابق للرئيس مبارك.
فعلى الأخص، قد طُرحت عدة تساؤلات عما إذا كان ذلك الكيان القضائي الدولي يستطيع التصّدي لأعمال القتل والجرح التي ارتكبت خلال أيام الثورة، وكذلك جرائم التعذيب والفساد وإهدار المال العام التي ارتكبت على مدى العقود الثلاثة الماضية، والتي يمكن نسبتها لبعض المسئولين في الدولة.
وبمتابعة تلك المناقشات، فإن هناك سوء فهم لدور كل من المحاكم الدولية بصفة عامة، والمحكمة الجنائية الدولية (المحكمة) بصفة خاصة، ولذلك وجب تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة عن طبيعة تلك المحاكم، مع التركيز على دور المحكمة الجنائية الدولية في شأن الأحداث المنوه عنها.
أولا- طبيعة المحكمة الجنائية الدولية:
تختلف المحكمة الجنائية الدولية عن سائر المحاكم الدولية الأخرى، مثل محكمة العدل الدولية، والمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة، كالمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا. وهي تختلف أيضاً عن المحاكم المختلطة ذات الطابع الدولي، مثل المحكمة الخاصة بلبنان، والمحكمة الخاصة بسيراليون، والدوائر الاستثنائية في محاكم كمبودية؛ فكلُ له اختصاصه وطبيعته المنفردة.
ولعدم الخوض في تفاصيل الاختلاف، لكونه خارج النطاق الرئيسى لموضوع هذا المقال، فعلى الأقل يجب معرفة أن محكمة العدل الدولية غير مختصة بمحاكمة أو معاقبة أشخاص عن ارتكاب أي نوع من الجرائم، سواء عادية أو دولية، بل هى كيان قضائي دولي يمتد اختصاصه لنظر النزاعات القانونية التي قد تنشأ فيما بين الدول (jurisdiction in contentious cases)، وكذلك إصدار آراء استشارية أو فتاوى بشأن أمور قانونية تحال إليها بواسطة أجهزة ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة المصرح لها بذلك (advisory jurisdiction).
أما بالنسبة للمحاكم الأخرى، فهى أنشئت تحت مظلة الأمم المتحدة، وتختص بمحاكمة أشخاص عن ارتكاب جرائم دولية- باستثناء المحكمة الخاصة بلبنان - التي لا يمتد اختصاصها إلى الجرائم الدولية، بل إلى الأفعال الإرهابية المنصوص عليها في قانون العقوبات اللبناني الواجب التطبيق. وقد أسفرت تلك الأفعال عن مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وآخرين في 14 فبراير 2005.
وبالرغم من أن تلك المحاكم الأخرى تتمتع ببعض الخواص المتوافرة فى المحكمة الجنائية الدولية، مثل توافر الولاية القضائية على الأشخاص وعلى عدد من الجرائم الدولية، فإنه تبقى بعض الاختلافات بينهما، ومن ضمنها اختلاف جوهري متعلق بطبيعة إنشائها وعلاقتها بالأمم المتحدة.
تتمثل إحدى السمات الأساسية التى تميزالمحكمة الجنائية الدولية في صفة "الدوام"، وفى كونها منظمة دولية مستقلة عن الأمم المتحدة ، فهى ليست "بهيئة قضائية رئيسية" للأمم المتحدة، كما هو الحال بشأن محكمة العدل الدولية.ولم يتم إنشاؤها بموجب قرار من مجلس الأمن، مثلما حدث بصدد محكمتي يوغوسلافيا السابقة ورواندا، أو بمقتضى اتفاق ثنائي فيما بين الأمم المتحدة ودولة بعينها، كمثال المحاكم المختلطة .
إلا أنها أنشئت بموجب اتفاقية دولية متعددة الأطراف تم توقيعها في روما عام 1998، وانضم إليها حتى الآن 115 دولة (نظام روما الأساسي/النظام الأساسي). ودخلت هذه الاتفاقية حيّز التنفيذ في 1 يوليو 2002 ، وهو أيضاً التاريخ ذاته الذي يحدد الاختصاص الزمني الذي تستطيع بموجبه المحكمة ممارسة ولايتها القضائية بشأن الجرائم المنصوص عليها في نظامها الأساسي.
فالمحكمة الجنائية الدولية تمارس ولايتها القضائية على "الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي" ، وتختص بالنظر في أربع جرائم دولية ، هي: جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، وجريمة العدوان ، والتي تم التوصل إلى تعريف متفق عليه بشأنها في مؤتمر المراجعة الذي عقد في كمبالا من 31 مايو إلى 11 يونيو 2010 ، وينبني على ذلك ألا ينعقد اختصاص تلك المحكمة بالنسبة لأية جريمة تخرج عن نطاق الجرائم الأربع المنصوص عليها في نظام روما الأساسي.
وبالتالي، فجرائم الفساد أو الجرائم الخاصة بالأموال العامة ، والتي من بينها إهدار المال العام، لا شأن للمحكمة الجنائية الدولية بنظرها كما يدعى البعض.
ثانيا - أحداث 25 يناير 2011 وما قبلها.. هل هى جرائم ضد الإنسانية؟
أما بالنسبة للأفعال التي ارتكبت خلال أحداث ثورة 25 يناير 2011، مثل القتل العمد والشروع فيه، وأعمال العنف التي أدت إلى إحداث إصابات على درجة بالغة من الخطورة ، فيمكن القول إن تلك الأفعال قد ترقى إلى مرتبة الجرائم ضد الإنسانية.
وعلاوة على ذلك ، فأفعال التعذيب التى تم ارتكابها بواسطة الشرطة خلال الأعوام السابقة على الثورة يمكن أن تعد أيضاً جريمة ضد الإنسانية، ولكن ذلك مرهون بثبوت أن تلك الأفعال "قد ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي" موجه ضد أي مجموعة من المدنيين في مصر، وإعمالاً لسياسة الدولة أو منظمة.
وهذه العناصر(contextual elements) ما تميزالجرائم ضد الإنسانية من الجرائم العادية، والمقصود بعبارة "هجوم" هو نهج يتضمن ارتكاب تلك الأفعال بصورة متكررة. ولا يلزم أن يكون ذلك الهجوم ذا طابع عسكرى، بل يكفى أن يكون مجرد حملة ضد عدد كبير من المدنيين ، كما يقصد بعبارة "مدنيين" الأشخاص غير المنتمين للقوات المسلحة أو الفئات الأخرى" التي في حكمها.
ويكون الهجوم "واسع النطاق" عندما يكون مكثفا، متواترا، ونفذ بشكل جماعى على درجة ملحوظة من الخطورة. و يمكن أيضاً استخلاص طبيعة الهجوم من أنه واسع النطاق بناء على عدد الضحايا.
فقد قررت الدائرة التمهيدية الأولى فى قضية كاليكست مباروشيمانا، التابعة لحالة جمهورية الكونغو الديمقراطية، أن قتل 384 مدنياً خلال هجوم قامت به القوات الديمقراطية لتحرير رواندا( (FDLRيعد هجوماً "واسع النطاق" .
وفي قرار لاحق ، صدر في قضية وليام روتو وآخرين، الخاصة بحالة جمهورية كينيا، اعتبرت الدائرة التمهيدية الثانية أن مقتل 240 من المدنيين كاف لاعتبار أن الهجوم ضد الجماعات الإثنية الكيكويو، والكامبا و الكيسى "واسع النطاق".
أما عن منهجية الهجوم، فقد استقر قضاء المحكمة على أن هذا المصطلح يشير إلى الطبيعة المنظمة لأعمال العنف واستبعاد العشوائية فى حدوثها:
“The adjective ‘systematic’ refers to the ‘organised nature of the acts of violence and the improbability of their random occurrence’”.
علاوة على ذلك، فالهجوم قد يعد منهجيا ، إذا استمر لفترة طويلة، وتكرر السلوك الإجرامى المماثل بصورة غير عرضية ، بل على أساس منتظم. ففى قضية الرئيس السوداني عمر حسن البشير، اعتبرت الدائرة التمهيدية الأولى أن الهجوم كان منهجياً ، لأنه استمر لمدة تفوق الخمسة أعوام ، ولكون أفعال العنف التى ارتكبت فى سياقه، إلى حد كبير، ذات نمط مماثل.
ووفقاً لما ورد من تصريحاتٍ لرئيس اللجنة القومية لتقصي الحقائق التي شكلت بناء على قرار رئيس الوزراء السابق أحمد شفيق في 10 فبراير الماضي، فإن الانتهاكات التي شهدتها مصر منذ 25 يناير شملت عدة محافظات في القطر المصري ، وأسفرت عن سقوط عدد من القتلى يصل إلى أكثر من 700 شهيد ، وآلاف من الجرحى . وكما ورد فى تصريح لاحق من رئيس لجنة تقصى الحقائق بالمجلس القومى لحقوق الإنسان، فإن عدد القتلى قد تجاوز بكثير 600 شخص.
تلك النتائج إن ثبتت صحتها في التقرير النهائي للجنة، فإنها تعد كافية على الأقل لإثبات أن الهجوم ضد المتظاهرين كان واسع النطاق ، وشمل أفعالاً متكررة من القتل والأفعال اللاإنسانية التي تسبب أذىً خطيراً "يلحق بالجسم أو بالصحة البدنية"، حيث تم تنفيذ ذلك على عدة مرحل خلال أيام الثورة ، مما يشير إلى توافر العناصر المنصوص عليها بالمادة 7 فقرتي (أ) و (ك) من النظام الأساسي للمحكمة.
ويشترط أيضاً لتكييف تلك الأفعال جرائم ضد الإنسانية إثبات أنها ارتكبت إعمالاً لسياسة الدولة (مصر) أو لسياسة منظمة. وعلى الرغم من أن قضاء محكمتى يوغوسلافيا السابقة ورواندا أقرا لعدة سنوات وجوب توافر هذا الشرط، فإن دائرة الإستناف لمحكمة يوغوسلافيا السابقة نفت أهمية توافره في حكم لاحق.
فقد اعتبر ذلك الحكم نقطة البداية فى رسم الاتجاه الجديد في تفسير عناصر الجرائم ضد الإنسانية. ومع ذلك ، فقد قرر واضعو النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية إبقاء هذا الشرط ، وهو ما أدى بدوره إلى إثارة جدل فقهي وقانوني داخل وخارج المحكمة حول تفسير فحواه.
ولعدم الخوض في تلك التفاصيل، يكفي الإشارة إلى أن قضاء المحكمة قد تبنى بصفة عامة نهج التفسير الواسع فى تطبيق هذا المفهوم بما قد ييسر لمصر إثبات أن ما حدث من أفعال ربما كان إعمالاً لسياسة الدولة.
وعلى الأخص ، فقد اعتنقت الدائرة التمهيدية الثانية، في أحدث حكمين لها في 31 مارس 2010 و8 مارس 2011، ذلك الاتجاه من التفسير بشأن معنى "إعمالا" لسياسة " منظمة".
وبغض النظر عن بعض التحفظات التى أثيرت تجاه نتيجة هذا التفسير من بعض فقهاء القانون الجنائي الدولى، يمكن القول إن ما حدث فيما سمى " موقعة الجمل" في 1 و 2 فبراير 2011 ، قد يكون إعمالاً لسياسة منظمة مكونة وممولة من بعض عناصر الحزب الوطني، وذلك شريطة توافر بعض المعايير الأخرى، من ضمنها أن تكون هذه المجموعة منظمة بصورة تجعلها قادرة على ارتكاب تلك الأفعال التي تعتبر تعديا على القيم الإنسانية الأساسية، وهذا ما أقرته الدائرة نفسها، عندما أكدت أن المعيار الفيصل هو (whether a group has the capability to perform acts which infringe on basic human values) .
ثالثا- موقف مصر من النظام الأساسى وانعدام الولاية القضائية :
إن توافر أركان الجرائم ضد الإنسانية ( والمتضمنة توافرعناصر القصد الجنائي) لا يعني بالضرورة إمكانية محاكمة مرتكبي تلك الأفعال أمام المحكمة الجنائية الدولية، فنظر المحكمة لتلك الأفعال مقيّد لحد كبير بموقف مصر القانوني والسياسي تجاه الاتفاقية الدولية المنشِئة لها.
فبالرغم من أن مصر قد وقعّت الاتفاقية في 26 ديسمبر2000، فإنها لم تصدق عليها حتى الآن ، وبالتالي لم تدخل تلك الاتفاقية حيز التنفيذ بالنسبة لمصر ، وهذا يعني انعدام الولاية القضائية للمحكمة للنظر في تلك الأحداث، إلا إذا توافر أحد الشروط التالية:
§ أن تنضم مصر للاتفاقية من خلال التصديق عليها، وأن تقبل اختصاص المحكمة بشأن أحداث سبقت تاريخ انضمامها للمحكمة، لكى تشمل أحداث 25 يناير 2011 أو أي أحداث أخرى سابقة على هذا التاريخ. وذلك القبول مشروط بألا تكون تلك الأحداث وقعت بتاريخ سابق على 1 يوليو 2002 - تاريخ بدأ نفاذ الاتفاقية (jurisdiction ratione temporis). وعقب ذلك، تقوم مصرأو أى دولة طرف فى الإتفاقية بإحالة تلك الأحداث إلى المحكمة.
§
§ ألا تنضم مصر للاتفاقية ولكن، كحل بديل، أن تقبل مصر اختصاص المحكمة المؤقت فيما يتعلق بأحداث 25 يناير فقط، أو ما سبقها من فترات معينة، و ذلك بموجب إعلان يودع لدى سجل المحكمة.
§ أن يحيل مجلس الأمن الحالة المتضمنة لأحداث 25 يناير 2011 بمقتضى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كما فعل بشأن أحداث دارفور وليبيا بموجب القرارين رقمى 1593 و1970.
ومع ذلك ، فمن المستبعد أن يقوم مجلس الأمن بإحالة الأحداث المتعلقة بالثورة إلى المحكمة، لأن الأمر لا يرقى إلى تهديد للسلم والأمن الدوليين، كما هو الحال في ليبيا.
وبالنسبة لقبول مصر للإختصاص المؤقت للمحكمة، فهو حلٌ لا يتماشى كلياً مع أهداف المرحلة القادمة التي تسعى فيها مصر إلى تحقيق الديمقراطية، والاحترام الكامل لحقوق الإنسان.
ولذلك، فالانضمام للاتفاقية قد يبدو أفضل الحلول، تماشياً مع المرحلة القادمة التي تتطلب التغيير في سياسة مصر الخارجية. وهذا ما أكده السفير دكتور نبيل العربى، وزير الخارجية الأسبق، فى حديثه لإحدى الصحف، عندما قال: "فى إطار العلاقات الدولية، وحتى تدخل مصر القرن الحادى والعشرين، لابد من الإقدام على عدة خطوات، حتى تصبح مصر دولة تحترم وتلتزم بقواعد القانون الدولي الإنسانى. ومن أهم هذه الخطوات: التصديق على النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية" .
وبالرغم من أن انضمام مصر لتلك الاتفاقية يفرض عليها بعض الالتزامات القانونية ، فضلاً عن واجبات مالية تجاه المحكمة ، فإن إيجابيات الانضمام عدة. من أهم تلك الإيجابيات هي أن مصر سوف تستطيع المشاركة في رسم سياسة المحكمة المستقبلية ، وتفسير القوانين التي تحكم عملها واقتراح تعديلها . علاوة على ذلك، فإن مصر سوف تخرج من إطار العزلة التي فرضتها على نفسها، كما فعلت أكثرية الدول العربية على مر العقود السابقة، وذلك استنادا إلى مقولة إن سياسة الغرب مزدوجة المعايير، مما يوجب عدم الانضمام للاتفاقية المنشئة لها. على النقيض، يجب علينا لدرء أخطار أفكار الغرب أن نشارك، حتى نفهم منهجية الفكر الغربي في هذا المجال المتخصص، وذلك يتحقق عن طريق التفاعل المباشر وليس الانعزال.