عقدت في مدينة اسطنبول التركية يوم 27 أكتوبر 2018 قمة رباعية حول الأزمة السورية، ضمت قادة (تركيا، وألمانيا، وروسيا، وفرنسا). وقد عول كثيرون على نتائجها، بيد أنها لم تسفر عن اختراقات جذرية جديدة تؤثر فى مستقبل التسوية السورية، وما نتج عنها هو اعتراف دولي بمقتضيات المشهد السوري الحالي. وبالتزامن مع عقد القمة، شهدت الساحة السورية تطورات ميدانية ستؤثر حتما فى مستقبل التسوية، حيث استطاع تنظيم "داعش" الإرهابي، للمرة الأولى منذ عامين، السيطرة على نقاط جديدة بمحافظة دير الزور شرق سوريا، مما ينذر بنقل المواجهات الميدانية من شمال سوريا لشرق الفرات.
نتائج قمة اسطنبول
دعا الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في 29 يوليو 2018 لعقد قمة رباعية تجمعه مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" والفرنسي "إيمانويل ماكرون" والمستشارة الألمانية "إنجيلا ميركل" لبحث مستقبل الأزمة السورية. وقد تم تحديد أكثر من موعد للقمة حيث كان من المقرر أن تعقد في مطلع سبتمبر 2018 ثم أجلت لنهاية سبتمبر ثم الأسبوع الأول من أكتوبر ثم عقدت في 27 من الشهر نفسه. ويمكن تلخيص نتائجها فيما يلي..
-موقف موحد: اتفق القادة الأربعة على عدة نقاط أعلن عنها في ختام اجتماعهم، وهي .. ضمان وحدة الأراضي السورية واستبعاد الحل العسكري وتفعيل جهود التسوية السياسية للأزمة السورية على مسارات "الآستانة" وجنيف وسوتشي، والإسراع في تشكيل لجنة الدستور السوري بمشاركة أممية على أن تجتمع قبل نهاية العام الحالي، واستمرار وقف دائم لاطلاق النار في محافظة إدلب وفي جميع أرجاء سوريا، مع الاستمرار في محاربة الجماعات الإرهابية، وتهيئة الظروف في جميع المحافظات السورية لعودة آمنة وطوعية للاجئين. وهذه المواقف تمثل تراجعا عن سيناريوهات تقسيم سوريا التي روجت لها واشنطن وبعض الدول الأوروبية من قبل كما أنها تجدد التمسك بالحل السياسي كسبيل لإنهاء الأزمة وهذه هي المرجعية التي ستحدد أفق التسوية النهائية للملف السوري.
-مصير "الأسد": أكد القادة الأربعة أن مصير الرئيس السوري "بشار الأسد" سيتحدد بانتخابات مباشرة للشعب السوري في الداخل والخارج، وهذا يمثل تراجعا مهما في الموقف التركي والأوروبي اللذين طالبا مرارا وتكرارا بضرورة رحيل "الأسد" وهو التحول ربما سيدفع الاخير بتقديم تنازلات سياسية وميدانية للحفاظ على بقائه بمنصبه.
-نقاط خلافية: مثلت القمة نموذجا لاجتماع بين ضامني محادثات الاستانة (روسيا، وتركيا، وإيران) وبين أعضاء المجموعة المصغرة (بريطانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، ومصر، والأردن، والسعودية) وهناك مساع روسية لدمج المجموعتين معا بيد أن أنقرة ترفض ذلك نظرًا لاستبعادها من المجموعة المصغرة. كما أن هناك خلافا روسيا أوروبيا حول الإسراع في تشكيل لجنة إعداد الدستور السوري الجديد حيث يرى "بوتين" عدم الاستعجال فيه ويقدم عليه ضرورة تصفية البؤر الارهابية السورية، فضلا عن الخلاف حول إعادة الإعمار التي دعا "بوتين" الدول الأوروبية للمشاركة فيها، بيد أن الأخيرة رهنت ذلك ببدء العملية السياسية عبر انتخابات ديمقراطية مباشرة.
مصالح متباينة
كل دولة من الدول الأربع المشاركين بالقمة (روسيا، وتركيا، وفرنسا، وألمانيا) كانت تدافع عن مصالحها الاستراتيجية في الشأن السوري، وكذلك كان هناك فاعلان مؤثران بالأزمة لم يشاركا فيها، هما إيران والولايات المتحدة الأمريكية، حيث:
-تركيا: تأتى دعوة "أردوغان" للقمة الرباعية باسطنبول واستضافته لها في سياق عودة التطبيع للعلاقات التركية- الاوربية بعد عامين من التوتر بينهما، حيث سبق القمة زيارته لألمانيا وإعادة تعيين السفراء بين أنقرة وأمستردام، بغية إعادة الأهمية الاستراتيجية للدور التركي في الملف السوري من خلال الترويج لدور أنقرة في منع تدفق اللاجئين لأوروبا واستضافتها لأكثر من 3 ملايين لاجئ، كما أنه يسعى لضخ المزيد من الاستثمارات الاوروبية في اقتصاده المتأزم، فضلا عن سعيه للموازنة في علاقاته بين موسكو التي شهدت تقدما كبيرا خلال العامين الماضيين وبين الاتحاد الأوروبي وواشنطن.
بيد أن الخطوات التركية في سوريا تواجه المزيد من التعقيد بدءا من دعوة "بوتين" لسحب القوات الاجنبية من سوريا بما فيها التركية، فما هو مستقبل القوات العسكرية التركية المتواجدة في مدن شمال سوريا وتمثل احتلالا مباشرا؟ لها هل ستنسحب أم ستبقي مثلما بقيت نظيرتها بقبرص الشمالية منذ 1974؟ كما أن "أردوغان" يسعى للتدخل عسكريا في جميع مدن شمال سوريا التي تمثل ربع مساحة سوريا ويدعمه في ذلك الفصائل المسلحة المؤيدة له (الجيش الحر)، بذريعة القضاء على التنظيمات الإرهابية الكردية التي تمثل وفق رؤيته تهديدًا للأمن القومي التركي. كما أن "أردوغان" يهدف ليكون الفاعل الإقليمي الأول بالملف السوري ولذا ينتقد أعضاء المجموعة المصغرة (مصر، والسعودية، والأردن) ويستبعد أى دور عربي في التسوية النهائية السورية، وكذلك يسعى لتقليص الدور الإيراني بسوريا.
-روسيا: أصبحت الفاعل الدولي المؤثر والمهم في سوريا وكانت الأخيرة بوابة عودة النفوذ الروسي بالشرق الأوسط وتعزيز مكانة موسكو دوليا. وقد نجحت جميع المبادرات التي طرحها "بوتين" في سوريا بدءا من وقف اطلاق النار وإنشاء مناطق خفض التصعيد، ومحادثات الاستانة وسوتشي. ولذا، تسعى موسكو لاستمرار نفوذها كفاعل أهم في الملف السوري، وفرض رؤيتها للحل النهائي. كما يسعى "بوتين" لضمان مشاركة دولية في جهود إعادة الاعمار التي تقترب تكلفتها من (200-500) مليار دولار، ولن تتمكن موسكو من تحملها ولذا ترغب في مشاركة دول الاتحاد الاوروبي في إصلاح البنية التحتية السورية التي دمرت على مدى سنوات الحرب السبع.
وفي مسعى منه لتعزيز نفوذه بسوريا، دعا "بوتين" يوم 3 أكتوبر 2018 لانسحاب القوات الأجنبية بما في ذلك القوات الروسية من سوريا بعد الانتصار على الإرهاب وهزيمة تنظيم "داعش" والتنظيمات الارهابية والمسلحة الأخرى. وهذه الدعوة موجهة لكل الدول التي توجد عسكريا بسوريا وهي (تركيا، وإيران، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا) مما ينذر بحدوث مواجهات سياسية حول الوجود العسكري الاجنبي بسوريا قبل التسوية النهائية، وسيكون لموسكو اليد العليا فيها لانها تحتفظ بقواعد عسكرية بموافقة الحكومة السورية مما يضفي الشرعية على وجودها العسكري هناك.
-فرنسا: تأتى مشاركة باريس في قمة اسطنبول في سياق مساعى "ماكرون" لطرح فرنسا كقوة إقليمية مؤثرة في دائرة المتوسط والشرق الأوسط وقد سبقها عدة تحركات منذ توليه منصبه في مايو 2017 ومنها (التوسط لحل الأزمة الليبية، ومشاركة واشنطن في قصف دوما السورية بأبريل 2018، وموقفه من ملف اللاجئين). ويهدف "ماكرون" من ذلك لقيادة الاتحاد الأوروبي لاسيما بعد خروج بريطانيا منه. كما أن باريس عززت القوات الفرنسية في الحسكة بشمال سوريا منذ مطلع العام الحالي حيث تقدم دعما للأكراد في مواجهة عناصر "داعش". ولذا تسعى باريس للحفاظ على هذا الوجود الذي يضمن لها دورا في رسم مستقبل التسوية السورية ونفوذ مستقبلي في الشرق الأوسط ككل.
-ألمانيا: تدعم برلين بدء العملية السياسية في سوريا من خلال تشكيل لجنة إعداد الدستور الجديد، حيث ترغب "ميركل" في إرساء الاستقرار في سوريا لتهيئة الأجواء لعودة اللاجئين ومنع تدفق موجات جديدة منهم للحدود الأوروبية حال تفاقم الوضع السياسي مرة أخرى، لاسيما أن قضية اللاجئين أصبحت هاجس "ميركل" الأول بعد خسارة حزبها في الانتخابات المحلية لولاية بافاريا وبعد خوض معركة سياسية داخل الاتحاد الاوروبي حول آليات التعامل معهم. كما أن الدور الألماني بالتسوية النهائية بسوريا ومشاركة برلين بالمجموعة المصغرة يهدف إلي تعزيز الوجود الأوروبي والألماني في سوريا التي تمثل دائرة الاهتمام الروسي الأول بالشرق الأوسط حتى يمكن لبرلين بعد ذلك استخدام وجودها هذا كورقة ضغط على موسكو في المستقبل المنظور، لاسيما في ظل تعزيز النفوذ السياسي والوجود العسكري الروسي في شرق أوروبا وعلى الحدود الألمانية مباشرة. وقد صدر عن "ميركل" عدة تصريحات تدعم هذا التوجه ومنها أخيرا خلال زيارتها لدول البلطيق حيث ألمحت الى إمكانية مواجهة روسيا عسكريا في الشرق الأوسط أو شرق أوروبا.
-إيران: تم استبعاد إيران من ثلاث قمم عقدت بشأن الملف السوري أخيرا، وأصبح واضحا المساعي الأمريكية- الأوروبية- التركية لتقليص دورها في سوريا والشرق الأوسط عامة، وأصبح ينظر لها كدولة مارقة تدعم التنظيمات الارهابية والميليشيات المسلحة في (سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان). بيد أنه لا يمكن استبعاد النفوذ الايراني بشكل تام من سوريا نظرا للمصالح الايدولوجية والسياسية والاقتصادية والتغلغل الإيراني في المجتمع السوري منذ 4 عقود وأكثر. وما يمكن ان تقوم به واشنطن هو تقليص الوجود العسكري الإيراني بسوريا للحد الأدني بحيث لا يؤثر فى المصالح الاستراتيجية لها ولا يؤثر فى مستقبل التسوية السورية. وربما تتوافق موسكو وواشنطن في ذلك لاسيما في ظل رغبة بوتين فى سحب جميع القوات العسكرية الأجنبية من سوريا. وبالطبع، سيكون هناك رد فعل إيراني مختلف بعد تطبيق الحزمة الجديدة من العقوبات الأمريكية عليها في مطلع نوفمبر 2018.
-الولايات المتحدة الأمريكية: كثفت واشنطن من تحركاتها قبل قمة اسطنبول، حيث قام مستشار الأمن القومي "جون بولتون" بزيارة لموسكو يوم 22 أكتوبر 2018 أعلن خلالها عن ملامح استراتيجية جديدة لبلاده للتعاطي مع الملف السوري على أسس اعتماد الحل السياسي وتحسين مستوى الحياة للسوريين، ومكافحة الإرهاب والوضع في شرق الفرات. بالتزامن مع ذلك، قام الموفد الأمريكي لسوريا "جيمس جيفري" بجولة في المنطقة. ورغم أن واشنطن لم تحضر قمة اسطنبول، فإن الرؤية الامريكية للحل حضرت ونقلها للقادة "ماكرون" الذي هاتف نظيره الأمريكي دونالد ترامب عشية قمة اسطنبول، تناولا فيه الوضع بسوريا، وأوضح أن الهدف من القمة هو تحويل وقف النار في إدلب إلى هدوء دائم، على أن تتخلله محادثات معمقة على المسار السياسي لحل الأزمة في سوريا.
مناطق نزاع استراتيجي
-إدلب: ألمح "بوتين" خلال قمة اسطنبول إلى أن روسيا تحتفظ بحقها في دعم الحكومة السورية لتدمير "الوكر الإرهابي" في إدلب بعد تصاعد الخروقات لاتفاق سوتشي بينه وبين "أردوغان" الذي أرجأ بموجبه العملية العسكرية بإدلب. وهذا ما أكده وزير الدفاع التركي "خلوصي أكار" الذي أقر يوم 24 أكتوبر 2018 بعدم اكتمال عملية انسحاب التنظيمات الإرهابية من تلك المنطقة، وفقاً لاتفاق سوتشي. ميدانيا، فقد استعرضت "هيئة تحرير الشام" قوتها بتدريب عسكري في إدلب عشية قمة اسطنبول. كما تصاعدت حدة الاشتباكات والاغتيالات بين عناصر الهيئة. وربما يمهد "بوتين" للقيام بعمل عسكري في إدلب قبل نهاية العام الحالي للقضاء علي بعض الخلايا الإرهابية بالمدينة التي ترفض نزع السلاح حتى اليوم. وهو ما أكده وزير خارجيته "سيرجي لافروف" الذي أكد أن "اتفاق إدلب مؤقت".
-شرق الفرات: ويقصد بها الضفة الشرقية من نهر الفرات شمال سوريا وتسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة أمريكيا. وقد تقدم "داعش" محققا أول انتصار له منذ عامين في دير الزور القريبة من شرق الفرات، حيث تمكن يوم 27 أكتوبر 2018 من قتل 68 عنصراً من القوات الكردية مستخدما تكتيكا جديدا، هو كتيبة نسائية من القناصة كان لها الفضل في قتل عناصر "قسد"، مما يدل على تغير تكتيكاته واستخدامه للسيدات في القتال لسهولة حركتهن، مما دفع التحالف الدولي لمكافحة الارهاب في سوريا والعراق للاعلان عن تقديم دعم لوجيستي لقسد للقضاء على "داعش". كما عززت القوات العراقية من قواتها على الحدود السورية لمنع تسلل أي عناصر إرهابية داخل حدودها. بالتزامن مع ذلك، شن الجيش التركي قصفًا مدفعيًا عنيفا على بلدة زور مغار بريف مدينة عين العرب (كوباني) الكردية في هجوم فسر على أنه دعم لـ "داعش" لتستمر سيطرته على تلك المنطقة وهو ما انتقدته باريس التي تقدم دعما لوجيستيا للأكراد.
ثم أعلن "أردوغان" في30 أكتوبر 2018 عن بدء تنفيذ عملية عسكرية شرق الفرات شمال سوريا قريبا للقضاء علي التنظيمات الإرهابية الكردية هناك. وبدوره، اتهم "لافروف" واشنطن بنقل عناصر تنظيم "داعش" من سوريا للعراق وأفغانستان عبر شرق الفرات، واتهم واشنطن بالسعي لتأسيس دويلة غير شرعية هناك، مما يؤكد أن هذه المنطقة ستكون مسرحا لعمليات عسكرية ميدانية خلال الايام القليلة المقبلة.
-منبج: لا يزال التذبذب هو سمة الموقف التركي- الأمريكي من مدينة منبج الكردية شمال سوريا، حيث إنه من المقرر أن تبدأ مطلع نوفمبر 2018 تسيير دوريات مشتركة أمريكية- تركية لحفظ الأمن في المدينة الكردية التي يسعى "أردوغان" لدخولها عسكريًا وضمها لمناطق "غصن الزيتون" كعفرين.
خلاصة القول، إن قمة اسطنبول لم تقدم إسهاما جديدًا في أطر التسوية النهائية للأزمة السورية، وربما يتم إرجاء أى خطوات سياسية مقبلة، حتى يضمن الفاعلون الإقليميون والدوليون تحقيق مصالحهم ميدانيًا في سوريا، من خلال تقاسم النفوذ في مناطق شرق الفرات، وشمال سوريا وإدلب.