اختتم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسى يوم 17 أكتوبر 2017 الجاري زيارة رسمية لدولة روسيا الاتحادية، استغرقت ثلاثة أيام، التقي خلالها نظيره الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء "ديمتري ميدفيديف"، بغية تعزيز العلاقات المصرية– الروسية. وشهدت الزيارة عقد الرئيس "السيسي" العديد من اللقاءات مع النخبة السياسية الروسية والقادة العسكريين. كما شهدت الزيارة عقد اجتماعات بين "السيسي – بوتين" في منتجع "سوتشي" الروسي الشهير، وبحثا سبل تعزيز العلاقات الثنائية المتميزة بين مصر وروسيا على جميع الأصعدة، فضلاً عن مواصلة التشاور والتنسيق المكثف حول القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، كما وقعا اتفاقية الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجى بين مصر وروسيا، مما ينقل العلاقات بين البلدين لمرحلة جديدة من الشراكة الاستراتيجية التي سيكون لها تأثيرات مهمة فى العلاقات بين الدولتين وفي السياقين الإقليمي والدولي.
نتائج الزيارة:
شراكة استراتيجية: وصل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسى إلى سوتشى مساء يوم 16 أكتوبر 2018، واستقبله نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وعقدا جلسة مباحثات غير رسمية، وفي صبيحة يوم 17 أكتوبر 2018 عقدا قمة ثنائية بمدينة "سوتشي" الروسية، وقَّعا خلالها اتفاقية بشأن الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي بين البلدين، ثم عقدا مؤتمرًا صحفيا حول مباحثاتهما. وقد وجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسى، الشكر للقيادة الروسية على كرم الضيافة والود والترحاب الشديد الذى قوبل به خلال زيارته لروسيا، كما بحثا أهم ملفات العلاقات الثنائية ودفعها فى إطار العلاقات الاستراتيجية المتميزة بين مصر وروسيا، وتوسيع التعاون المشترك فى مجالات الاقتصاد، والتبادل التجارى، والاستثمار، والقطاع السياحى، وتوطين الصناعة. كما بحثا مباشرة خطوط الطيران المباشر إلى مدينتى شرم الشيخ والغردقة وغيرها، بالإضافة إلى مناقشة آخر المستجدات الخاصة بالمشروعات المشتركة العملاقة، وعلى رأسها مشروع إنشاء محطة الضبعة النووية، والمنطقة الصناعية الروسية بمنطقة قناة السويس. واتفق الجانبان علي عام 2020 عاما ثقافيا، وسيشهد احتفالات فنية وثقافية.
استثمارات روسية: كشف الرئيس "بوتين" عن عزم موسكو ضخ استثمارات في المنطقة الصناعية الروسية بمصر ستصل إلى 7 مليارات دولار، كما كشف عن استئناف الرحلات الجوية الروسية إلي شرم الشيخ والغردقة قريبا، كما أوضح أن موسكو ستعمل علي تصنيع عربات القطارات في مصر في مشروع استثماري ضخم يصل لمليار يورو خلال السنوات المقبلة. كما أوضح أن التبادل التجاري بين روسيا ومصر ارتفع خلال عام 2017 بنسبة 60%.. وأشار إلى أن البلدين يعملان حاليًا على تطوير التعاون فى مجالات الصناعة، لافتًا إلى مشروعات الضبعة النووية، والمدينة الصناعية الروسية بمنطقة قناة السويس، وغيرها من المشروعات الصناعية العملاقة.
اهتمام مؤسسي: حظي الرئيس السيسي بحفاوة استقبال نادرا ما تتكرر لزعيم أجنبي حيث حضر عرضا عسكريا روسيا رائعا، وأطلع علي مجريات العمل داخل غرفة عمليات للجيش الروسي، كما أنه حظي باهتمام مؤسسي، حيث عقد اجتماعا مع رئيس مجلس الاتحاد الروسي (الغرفة العليا للبرلمان) السيدة فالنتينا ماتفيينكو، في اجتماع مشترك، وألقي الرئيس السيسي كلمة أمام الاتحاد هي الأولى من نوعها لرئيس أجنبي يزور موسكو، مما يعكس الأهمية البالغة التي توليها روسيا للرئيس السيسي ومكانته كقائد عربي حارب الإرهاب وأحدث طفرة اقتصادية ببلاده في وقت قياسي. كما اجتمع مع رئيس المفوضية الاقتصادية للاتحاد الأوراسى تيجران سركسيان، لبحث توقيع اتفاقية تجارة حرة بين مصر والاتحاد الأوراسى، الذى تأسس فى 29 مايو 2014، ويضم خمس دول، هى: روسيا، وبيلاروسيا، وقيرغيزستان، وكازاخستان، وأرمينيا. حيث تسعى القاهرة لإبرام اتفاق تجارة حرة بين مصر والاتحاد الأوراسى، لما له من أثر على حركة التبادل التجارى بين الجانبين، مما سيؤدي لمضاعفة حجم التبادل التجارى من ثلاثة إلى أربعة أضعاف فى حالة إبرام الاتفاق. وكذلك اجتمع مع رئيس الوزراء الروسي ديميتري مدفيديف، وبحثا ضرورة توطيد الدينامية الإيجابية للتبادل التجاري بين البلدين، لاسيما بعد زيادة في حجم التبادل التجاري بين البلدين، بمقدار يزيد على الثلث مقارنة بالعام الماضي، والإسراع في تنفيذ عدد كبير من المشاريع الاستراتيجية الروسية في مصر، مما يضيف زخما إضافيا لتطوير التعاون بين البلدين.
دلالات التوقيت:
توازن السياسة الخارجية: تأتى الزيارة بعد أقل من شهر على حضور الرئيس السيسي اجتماعات الدورة الـ 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي التقي خلالها بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وعقد عدة لقاءات مع عدد من قادة الوفود هناك، ثم يقوم الرئيس السيسي بزيارة هامة واستراتيجية لموسكو، مما يؤكد حرص القاهرة على تحقيق التوازن في علاقاتها الخارجية عبر استقلالية القرار السياسي، وإعلاء المصالح القومية للبلاد أولا، والحفاظ على علاقات متميزة مع مختلف القوى الكبري في النظام الدولي.
تنسيق وتشاور مستمر: تعد الزيارة الحالية هي الرابعة للرئيس السيسي منذ توليه منصبه في منتصف 2014، كما أنه زار موسكو، وهو يتولى منصب وزير الدفاع، والتقي الرئيس بوتين 9 مرات كان آخرها هي قمة "سوتشي"، كما زار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مصر مرتين عامى 2015 و 2017، وعقدا الرئيسيان مباحثات ثنائية علي هامش قمة البريكس ومجموعة العشرين، مما يؤكد إدراك الطرفين للأهمية الاستراتيجية لكل دولة للأخرى، وحرصهما علي التشاور المستمر لحل جملة من القضايا والأزمات الإقليمية الآنية.
اليوبيل الماسي: تواكب الزيارة مرور 75 عاما علي بدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وبهذه المناسبة كتب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مقالا ترجم للغة العربية في صحيفة "الأهرام" المصرية الأوسع انتشارا يؤكد فيه علي عمق العلاقات بين البلدين، وقلما يفعل ذلك لافروف، مما يؤكد رغبة موسكو في أن يتطور الحوار السياسى بشكل ديناميكي، في المجالات العسكرية، والتقنية-العسكرية، والاقتصادية، والثقافية، والإنسانية، بناء علي ما تراكم من خبرات فى العمل المشترك، والاستناد إلى أسس الصداقة والثقة والاحترام المتبادل ومراعاة مصالح الآخر.
التعاون العسكري: تتزامن الزيارة مع تنفيذ مناورات حماة الصداقة المصرية - الروسية الثالثة، وهي مناورات عسكرية كبيرة سيشارك فيها أكثر من 200 جندي من قوات الإنزال الروسية. وقد انطلقت لأول مرة عام 2016، وشملت ستة مطارات مصرية، بما فيها مطار برج العرب. وتهدف للتدريب علي سبل مكافحة الإرهاب، وقد وصلت منتصف فى أكتوبر 2018 وحدة "نوفوروسيسك" لقوات المظلات للقاهرة للمشاركة فيها. ومثلت قوات الإنزال الروسية في المناورات إحدى وحدات الإنزال الهجومية لفوج القوقاز، وسيقودها نائب رئيس أركان قوات الإنزال أليكسي ناومتس، مما يؤكد حرص موسكو على تعزيز التعاون العسكري الروسي - المصري ونقله إلى أعلي درجات التحالف الاستراتيجي.
دوافع الاهتمام الروسي:
شهدت السنوات الأربع الماضية إعادة للتموضع الروسي في منطقة الشرق الأوسط من البوابة السورية، حيث مثّل التدخل العسكري الروسي في الأزمة عام 2015 نقطة تحول مهمة في توجهات السياسة الخارجية الروسية تجاه المنطقة، ولذا تحرص موسكو علي توطيد علاقتها بكثافة مع الفاعلين الإقليميين المؤثريين كمصر، لأن القاهرة تحظي بـ:
ثقل إقليمي: إستعادة مصر ثقلها الإقليمي خلال السنوات الأربع الماضية من خلال تحركات السياسة الخارجية المصرية المكثفة والرشيدة التي نجحت في نزع اعتراف العالم بشرعية ثورة 30 يونيو، كما نجحت مصر في مواجهة واحدة من أصعب المعارك ضد الجماعات الارهابية وكلل ذلك بنجاح عملية "سيناء 2018"، وهو ما شهد به العالم أجمع، كما تمسكت القاهرة بموقفها القاضي بدعم الدولة الوطنية والجيش الوطني كسبيل لحل النزاعات الإقليمية الراهنة في سوريا وليبيا، واليمن، هذا فضلا عن نجاح مصر في طرح عدة مبادرات دولية وإدارتها لمجلس الأمن بنجاح خلال الفترة من 2015 إلى 2017، وكذلك رئاستها للاتحاد الإفريقي، مما عزز موقف مصر بين الدول الإقليمية المهمة (كتركيا ،إيران) وأصبح هناك ثقل مصري إقليمي كبير تسعى الدول الكبرى للاستفادة منه في دعم مواقفها الإقليمية.
استقرار سياسي: نجحت الحكومات المصرية خلال السنوات الأربع الماضية التي شهدت الولاية الأولي للرئيس السيسي في تحقيق أعلي معدلات الاستقرار بسرعة كبيرة، وكذلك نجحت في تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، وبالتزامن تم تطوير الجيش المصري ليحتل المرتبة العاشرة فى العالم عام 2017، والثالثة عشرة عام 2018، هذا الاستقرار السياسي الذي تحقق بسرعة كبيرة دفع موسكو كي تختار مصر دون غيرها فى العالم لإنشاء منطقة صناعات روسية فى منطقة قناة السويس، ستكون الأولي خارج الأراضى الروسية، وستصبح بوابة الصادرات الروسية للدول الإفريقية، كما أن توقيع عقد إنشاء محطة الضبعة لتوليد الطاقة الكهربائية في مصر يعد من أكبر المشاريع الروسية فى العالم.
السياقان الإقليمي والدولي:
تجاوزت الزيارة كونها تعزز علاقات بين دولتين مهمتين، وأصبحت حدثا دوليا بارزا سيكون له العديد من التداعيات في السياقين الإقليمي والدولي ويرجع هذا إلي:
السياق الإقليمي: ثمة تطابق للرؤية المصرية - الروسية حول آليات معالجة القضايا الشرق أوسطية الراهنة، ومنها علي سبيل المثال .. القضية الفلسطينية، حيث تدعم القاهرة وموسكو الحل القائم علي إعلان الدولتين على حدود 1967، وهذا يتكرر في الشأن السوري والليبي، واليمني، حيث تدعم الدولتان الحفاظ علي الدولة الوطنية، ودعم الجيش الوطني، والقضاء على جميع الفصائل والميليشيات المسلحة الموجودة بالدول العربية بفعل التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية. كما أن هناك اتصالات مستمرة وتنسيق متواصل بين القاهرة وموسكو للتصدي للإرهاب ورفض السماح بانتقال الإرهابيين من مناطق عدم الاستقرار إلى دول أخرى وهذا ينطبق علي الفصائل المسلحة الموجودة في مدينة إدلب السورية حاليا، دفع هذا التطابق الرئيس بوتين كي يراهن علي الدور المصري لإعادة التوازن المفقود، في الشرق الأوسط، فمصر الدولة الوحيدة التي لم تدعم تنظيمات مسلحة في دولة أخرى، ولم تتدخل في الشأن الداخلي للدول الأخرى بعكس جميع الدول الإقليمية الفاعلة بالشرق الأوسط.
ويهدف بوتين كذلك للحصول على الدعم المصري في عدة ملفات إقليمية مهمة تضطلع فيها روسيا بدور كبير، ومنها التسوية السياسية السورية، والمبادرة الروسية لحل القضية الفلسطينية المزمع الإعلان عنها قريبا، وكذلك التدخل الروسي في الملف الليبي الذي ربما يكرر الحالة السورية بعد دعوة أطراف ليبية لموسكو للتدخل مباشرة لإنهاء النزاع بين الميليشيات المسلحة هناك. في المقابل، سيتيح التعاون الاستراتيجي الوثيق بين موسكو والقاهرة تعزيز فرص الأخيرة في الانضمام لمجموعة البريكس التي تقودها روسيا دوليا وتشمل (روسيا، الصين، البرازيل، جنوب إفريقيا، الهند)، وكذلك ستعزز فرص مصر للتعاون الاقتصادي والثقافي مع دول الاتحاد الأوراسي والاتحاد السوفيتي السابق.
السياق الدولي: المواقف الروسية والمصرية متطابقة كذلك في الساحة الدولية، حيث إنها تدعو لتشكيل نظام عالمى متعدد الأقطاب أكثر عدالة وديمقراطية، يقوم على ما تضمنه ميثاق منظمة الأمم المتحدة من قواعد أساسية للعلاقات بين الدول، وإصلاح منظمة الأمم المتحدة، وتسوية مختلف النزاعات والصراعات عبر السبل السياسية والدبلوماسية، وتوحيد المجتمع الدولى من أجل التصدى للإرهاب والتطرف، ودعم نظام حظر أسلحة الدمار الشامل، وتأمين مراعاة حقوق شعوب المنطقة فى التحكم فى مصائرها.
وختاما، نجد أن زيارة الرئيس السيسي لموسكو حققت جميع أهدافها، وأعادت "العصر الذهبى" للعلاقات بين الدولتين، ولذا فإن التعاون الاستراتيجي بين موسكو والقاهرة سيؤدي إلى تعزيز الموقع الإقليمي والدولي لكلتا الدولتين، وسيحقق لهما العديد من المصالح الاستراتيجية، وكذلك سيدعم الاستقرار الإقليمى والعالمي.