يظل شهر أكتوبر شاهدا عدلا على بطولات الجيش المصرى فى العصر الحديث. ففى مثل هذا الشهر، قبل نحو 45 عاما، حققت القوات المسلحة انتصارها التاريخى العظيم على إسرائيل لتتمكن من استعادة الكرامة والارض، بعد معركة لا تزال فنونها القتالية تدرس حتى اليوم فى أكبر المعاهد العسكرية والاستراتيجية فى العالم، ولا تزال تضحيات أبطالها تضاهى فى قوتها وعنفوانها سيرة أبطال الملاحم الشعبية فى التاريخ القديم.
تتزامن ذكرى حرب أكتوبر مع معارك التطهير التى تخوضها القوات المسلحة بالاشتراك مع قوات الشرطة على أرض سيناء ضمن العملية الشاملة ضد فئات التكفير والضلال ليواصل أبطال القوات المسلحة المصرية تقديم النموذج فى التضحية والفداء وحب الأوطان، مستلهمين فى ذلك روح نصر أكتوبر العظيم، التى يتوارثها أبناء القوات المسلحة جيلا بعد جيل، بعدّها كلمة السر فى تحقيق النصر.
تعيد الذكرى إلى الذاكرة العربية كل عام مشاهد حية عصية على النسيان، لبطولات قدمتها القوات المسلحة المصرية على جبهات القتال فى معركة التحرير والكرامة، وهى بطولات لم تخل من مشاهد عظيمة من الاداء العسكرى المبدع، فى البر والبحر والجو، شكلت معا اطارا جديدا للحرب التقليدية الحديثة، التى استوعبت فيها العبقرية المصرية، خلال سنوات قليلة، تكنولوجيا العصر، ووظفتها فى خطة عسكرية خلاقة، حققت الانتصار فى معركة كان كثير من الخبراء والمحللين العسكريين يعدونه من المستحيلات.
لا تتوقف الذكرى كل عام عند تلك المشاهد الملهمة، وانما تمتد الى ما تقدمه الذكرى من دروس ورسائل مهمة للمستقبل، من اهمها ضرورة أن يصبح الاستعداد التكنولوجى مكافئا للاستعداد القتالى، وان يحظى البحث العلمى والتطوير التكنولوجى بالقدر نفسه الذى يناله النشاط العسكرى المباشر، وهو ما تقوم به حاليا القيادة العامة للقوات المسلحة، من تحديث وتطوير عبر الاستفادة القصوى من التطور التكنولوجى فى مجال التسليح
المبادأة بالهجوم.
قامت خطة القتال المصرية فى الحرب على فكرة المبادأة بالهجوم واستخدام سلاح المفاجأة فى الحرب الشاملة، وقد نفذت تلك الخطة بامتياز كبير، اذ لم يكن الجيش الذى واجه النكسة العسكرية فى يونيو 1967 هو نفسه الجيش الذى انتصر فى أكتوبر 1973، فقد تمت إعادة بنائه فى اطار فكر جديد، وإدراك بأهمية التكنولوجيا الحديثة فى الأداء العسكرى. وقد مارست القيادة العسكرية، فى أثناء الاعداد للحرب، فكرا تجريبيا خلاقا، يبحث عن الصواب وسط الخطأ، من خلال العديد من التجارب، للوصول الى التناغم الصحيح بين عناصر الفعل المختلفة. وقد كان من الجوانب المهمة فى حرب العاشر من رمضان انها كشفت عن مستوى التعقيد والصعوبة فى إدارة منظومة القوة الحديثة، حيث تطلبت خطة المعركة تنسيقا محكما ودقيقا بين القوات الجوية والدفاع الجوى والمشاة والمدرعات. وقد كانت التجربة المصرية الرائدة فى التنسيق بين عناصر القوة وراء تبلور فكر القيادة والسيطرة والاتصال فى معركة الاسلحة المشتركة.
فى رسالته إلى رئيس المؤتمر اليهودى، كتب وزير الدفاع الاسرائيلى الاسبق موشى ديان يقول: "إن السلام الذى تريده إسرائيل تحقق بالفعل بعد حرب 67، لذا فنحن لسنا بحاجة إلى سلام رسمي، غاية ما نرجوه هو تثبيت الواقع الذى فرضته حرب يونيو 67". وقد كانت تلك الكلمات تعكس الى حد كبير التصورات الاسرائيلية عن الوضع فى سيناء، إذ كان الجميع يدرك وقتها أن الوضع سيظل على ما هو عليه بعد الحرب، وأن مصر أمامها جيلان على الاقل، حتى تستطيع أن تعيد بناء جيشها مرة أخرى، وخوض صراع مسلح لاستعادة أرضها التى احتلت. وقد لعبت تلك الافكار دورا كبيرا فى تغذية الغرور الذى بدأ يتسرب إلى نفوس القادة الإسرائيليين، الذين اعتقدوا انهم باتوا أصحاب جيش لا يقهر، وانهم قادرون على تدمير أى دولة فى منطقة الشرق الأوسط، تحاول أن تقف أمام اطماع دولتهم.
عزيمة الأبطال
بالتوازى، كان الشارع المصرى يعيش حالة إحباط شديد، نتيجة لما حدث فى يونيو، إذ لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع، فى تلك الفترة، ومع موجات المد الحماسى السياسى خلال الحقبة الناصرية، أن إسرائيل باستطاعتها أن تتغلب على مصر وتحتل سيناء، قبل أن تنقلب الأوضاع فى ساعات. لكن مثل هذا الاحباط لم يتسرب إلى نفوس الابطال فى قواتنا المسلحة، بل ان تلك اللحظة زادت من عزيمة الابطال لاسترداد الأرض والكرامة، وأن يثبت هؤلاء الرجال أنهم خير أجناد الأرض، وقادرون على تحقيق نصر غال على إسرائيل وتلقينهم درسا لن ينسوه فى فنون الحرب والقتال.
يجمع كثير من المحللين والخبراء العسكريين على أن القوات المسلحة لم تكن هى المسئولة عن الهزيمة التى لحقت بالامة العربية فى حرب يونيو عام 67، وانها كانت ضحية أخطاء سياسية، فى وقت شهدت فيه المنطقة توترات شديدة، بلغت ذروتها فى بدايات عام 1967 عندما بدأت سحب التصادم فى منطقة الشرق الأوسط تتجمع، وتطورت الأحداث بسرعة باتجاه احتمالات صدام مسلح كبير، لهدف رئيسى وحيد هو القضاء على زعامة مصر واحباط دورها كدولة محورية فى المنطقة التى كانت تغلى وسط صراعات داخلية بين الدول العربية بعضها بعضا، فضلا عن انفجار العديد من المشكلات داخل اسرائيل نفسها، التى كانت تعانى ارتفاع معدلات البطالة، وهبوط معدل الاستثمار، وارتفاع نسبة المهاجرين، وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية حينذاك للبحث عن حدث سياسى وعسكرى كبير، لتحويل انتباه الإسرائيليين إليه، حتى لو كان هذا الحدث هو الدخول فى حرب ضد العرب. والحقيقة ان اسرائيل لم تعدم حيلة فى ذلك، اذ كانت الذريعة الحاضرة هى تصاعد أعمال الفدائيين، وقيام سوريا بتصويب مدافعها فى الجولان باتجاه اسرائيل التى بدأت فى حشد قواتها على الحدود السورية، بل الاشتباك بالنيران وهو ما دفع القيادة السياسية فى مصر الى اتخاذ قرارات غاية فى الأهمية والخطورة، منها اعلان حالة الطوارئ ورفع درجة استعداد القوات المسلحة واعلان التعبئة العامة، وطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من نقاط الحدود وتجميعها فى قطاع غزة، قبل أن يصل الامر الى ذورته في3 مايو 67 باعلان مصر رسميا عدم السماح بمرور السفن الإسرائيلية، أو السفن التابعة لدول أخرى، تحمل مواد استراتيجية لإسرائيل وهو ما اعتبرته الأخيرة قرارا يمثل تهديدا صريحا لأمنها القومي.
دفعت الهزيمة المفاجئة التى منى بها الجيش فى يونيو 67 الكثير من بلدان العالم، حتى الاصدقاء منهم، الى القول إن مصر لن تقاتل، وإن أمامها عشرات السنين من أجل اعادة تنظيم جيشها مرة أخرى. لكن الارادة والعزيمة داخل القوات المسلحة كان لهما رأى آخر، فقد أخذت مصر منذ اللحظة الأولى لانتهاء الحرب فى الاعداد الفورى لخوض معركة كبرى، يكون النصر حليفها، وكان من الطبيعى والحتمى أن تبدأ فى رفع الروح المعنوية، والعمل على البناء النفسى والمعنوى للمقاتلين. وقد تم ذلك بالتزامن مع بدء مرحلة تعويض القوات المسلحة ما فقدته من أسلحة ومعدات عسكرية، وهو ما حدث فى فترة زمنية قصيرة، بما شمله ذلك من عملية بناء الخطوط الدفاعية غرب القناة.
شهدت حرب الاستنزاف، التى تلت نكسة يونيو الخاطفة، بعض الأعمال العسكرية الايجابية من قبل ابطال القوات المسلحة المصرية، وهى الاعمال التى رفعت من معنويات القوات، وأكسبتها الثقة فى نفسها مرة أخرى. ففى الساعات الأولى من صباح أول يوليو، تقدمت قوة مدرعة إسرائيلية على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس من مدينة القنطرة شرق فى اتجاه الشمال بغرض الوصول إلى بور فؤاد، وكانت القوة المصرية التى كلفت بالتصدى للقوة المدرعة الإسرائيلية عبارة عن فصيلة من وحدات الصاعقة مزودة بالأسلحة الخفيفة والقذائف المضادة للدبابات، حيث اشتبكت معها، وألحقت بها خسائر فادحة من القوات والمعدات، وأجبرتها على التراجع جنوبا، وفشلت القوات الإسرائيلية فى احتلال بور فؤاد.
وفى يومي14 و15 يوليو67، قامت مجموعة من الطائرات المصرية بشن عدة هجمات مركزة وخاطفة ضد القوات الإسرائيلية المدرعة والميكانيكية على الضفة الشرقية للقناة، وكانت تلك الهجمات الجوية مفاجئة للإسرائيليين، وفى الوقت نفسه كانت اضافة جديدة لرفع الروح المعنوية للقوات المصرية. ثم جاء يوم21 اكتوبر من عام67، حيث استطاع أحد لنشات الصواريخ المصرية اطلاق صاروخين على المدمرة الاسرائيلية إيلات، وإغراقها مما غير من المفاهيم البحرية العالمية، وأثبت أن القوات المسلحة لن يهدأ لها بال إلا بعد أن تحقق النصر وتستعيد الأرض مرة أخرى.
ثم جاءت المرحلة الثانية من مراحل التخطيط داخل القوات المسلحة، وهى الدفاع النشيط وهدفها تقييد حرية القوات الإسرائيلية فى التحرك العسكري، والمناورة والاستطلاع وتكبيدها أكبر خسائر فى الأفراد والمعدات. ومن أهم الأهداف ايضا عدم السماح لإسرائيل بتحويل خطوط المواجهة إلى خطوط دائمة تقوم بتحصينها وحشد القوات فيها وتثبيت أقدامها. ومن الوسائل التى استخدمتها القيادة المصرية فى ذلك الوقت هى النيران المكثفة للمدفعيات والهاونات بجميع أعيرتها لضرب الأهداف الاسرائيلية ضربا غير مباشر، واستخدام المدفعية المضادة للدبابات، ومدافع الضرب المباشر على الأهداف المرئية على الخط الدفاعى الأمامي. وكان من الضرورى أيضا خلال تلك المرحلة القيام ببعض الأعمال التعرضية المحدودة فى شكل قناصة وكمائن عمل الضفة الشرقية للقناة.
شهدت حرب الاستنزاف العديد من الاعمال البطولية التى استبقت حرب العاشر من رمضان، وقد شهدت تلك الفترة تنفيذ خطة أعمال عسكرية مكثفة، استخدمت فيها النيران المركزة والثقيلة للمدفعية ضد تحصينات خط بارليف، وصاحب ذلك تنفيذ العديد من الغارات البرية والعمليات الخاصة بواسطة قوات الصاعقة، حيث كانت تقوم تلك العناصر بعبور قناة السويس ليلا، ثم طورتها لتتم نهارا وتهاجم النقاط القوية، والتحصينات والدوريات، والأهداف العسكرية وتدمرها ثم تعود للضفة الغربية. وبلغت هذه العمليات قوتها فى يوم10 يوليو69، حيث قامت قوة مصرية فى وضح النهار باقتحام موقع إسرائيلى حصين فى لسان بور توفيق، ودمرته، وألحقت بالإسرائيليين خسائر فادحة فى الأرواح والمعدات. وقد واصلت القوات المسلحة استراتيجيتها طويلة الأمد، فى ظل استمرار شن القوات الجوية غاراتها ضد الأهداف الإسرائيلية شرق القناة.ـ كما قامت القوات البحرية بضرب أهداف برية من البحر فى رمانة وبالوظة، فى وقت قامت فيه قوات الضفادع البشرية بتدمير ميناء إيلات وإغراق السفن العسكرية به فى عملية نوعية باهرة النتائج.
ومع بداية عام70 ، بدأت مصر بناء شبكة ضخمة لصواريخ الدفاع الجوي لمواجهة الطيران الإسرائيلى الذى كان دائم الاغارة على المدن المصرية، لتبدأ بعد شهور معدودة مرحلة سقوط الطائرات الإسرائيلية. وقد فوجئت القيادة الإسرائيلية فى الاسبوع الاول من شهر يوليو 1970 بسقوط عدد كبير من طائرات الفانتوم فى أثناء محاولتها توجيه ضربات ضد مواقع مصرية، وهو ما عرف فى الادبيات الصحفية فى مصر والشرق الاوسط بـ "أسبوع تساقط الفانتوم". وقد تمكنت القوات المصرية بعد تركيز هائل للإمكانات والجهود، وبالروح العالية والتضحيات، من استكمال نظام دفاعها، واقامة شبكة قواعد الصواريخ، وتم احتلال الخط الأمامى لحائط الصواريخ غرب قناة السويس قبل الواحدة من صباح يوم8 أغسطس عام70 وهو اليوم الذى كان محددا لوقف اطلاق النار طبقا للمبادرة الأمريكية.
كان العمل داخل قواتنا المسلحة يجرى على قدم وساق، حيث تم وضع دراسة كاملة لتوقيتات المعركة، وخطة للخداع الاستراتيجى لإبعاد أنظار الإسرائيليين عن الحرب. وقد نجحت هذه الخطة حتى إن كثيرين باتوا مؤمنين الى درجة اليقين بأن مصر لن تقوى على خوض معركة جديدة، وانها لن تستطيع عبور قناة السويس، وتحطيم خط بارليف المنيع، الذى كان يفتخر به الإسرائيليون، ويؤكدون دوما أنه لا يمكن تحطيمه حتى ولو بقنبلة ذرية.
وقد استمرت خطة الخداع حتى يوم السادس من أكتوبر، وهو اليوم الذى انشقت فيه السماوات عن الصواعق، وتفجرت الارض بالبراكين، إيذانا بفتح أبواب انتصار عظيم، لتسترد مصر أرضها وكرامتها من جديد، وتلقن الإسرائيليين درسا لن ينسوه مدى ما قُدر لهم من بقاء على الأرض العربية.