صعود التنين الصيني على الساحة الدولية ، وتصدره المشهد الاقتصادي والسياسي، وحتى العسكري في العالم ، أثار من جديد المراكز البحثية لاستشراف أفق هذا الصعود في مواجهة "الغرب". وقد أثبتت الكثير من الأطروحات السياسية في هذا الشأن عدم دقتها، مثل تلك التي تحدثت عن صعود النمر الآسيوي، وكذلك التي عدت القرن الـ21 تتويجا لنصر سرمدي للحضارة الغربية التي تقودها حاليا الولايات المتحدة لتحكم العالم ، وتسوده بعد انهيار الكتلة الشيوعية في تسعينيات القرن الماضي. وإزاء تباين الرؤى والتحليلات، يقدم المفكر نيل فيرجسون، أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد، رؤيته في استشراف العلاقة بين الغرب والصين في كتابه الجديد "الحضارة: الغرب والآخرون".
ينطلق فيرجسون في أطروحته من هيمنة الغرب ليقدم رؤيته لتفسير التغير في توازن القوى العالمي، وترتكز هذه الرؤية على أن الغرب في مرحلة الأفول بعد أن بدأت الحضارات والدول الأخرى في استنساخ عوامل صعود الحضارة الغربية ، وبدأت تقلص الفارق بينها وبين الغرب.
وحدد فيرجسون ستة عوامل رآها صاحبة الفضل في تشكيل سطوة الحضارة الغربية وجعلتها المهيمنة على العالم كله منذ 500 سنة. وهذه العوامل هي المنافسة، والعلوم الحديثة، وحكم القانون، وحق الملكية الفردية، والطب الحديث، والمجتمع الاستهلاكي، وأخلاق العمل.
وفي حلقة نقاشية حول كتابه الجديد، نظمها معهد "شاتم هاوس" البريطاني في لندن، قدم أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد ملخصا لرؤيته عن العلاقة بين الغرب وبقية العالم، وكيفية اختلاف توازن القوى، والنتائج التي خلص إليها في كتابه.
انطلق فيرجسون متحدثا عن الغرب، باعتباره إحدى أبرز الظواهر التاريخية خلال مرحلة العصر الحديث، ولفت إلى أنه من منتصف الألفية بعد عام 1500 بدأ يظهر ما يعرف بـ"الغرب" حاليا.
ويرى فيرجسون أن عبارة "الحضارة الغربية" التي أصبحت متداولة على نطاق واسع في الفترة ما بين 1914، وحتى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، أصبحت تعد حاليا من أكثر المفاهيم المسلية، وبخاصة إذا أراد الشخص جمع معلومات عنها باستخدام محرك البحث "جوجل"، وذلك بسبب كثرة النتائج التي سيحصل عليها وتشعبها.
هذا المفهوم كان الأكثر شيوعا خلال الحربين العالميتين الأولي والثانية والحرب البادرة، لتصنيف بريطانيا والولايات المتحدة في حربهما الدعائية ضد ألمانيا وروسيا، وإن كانت الأخيرتان ليستا أقل غربية منهما.
وينبع "مفهوم الغرب" من عشرات الإمبراطوريات التي كانت تقع في منطقة أوروبا الغربية، والطرف الغربي من أوراسيا، وهذه الإمبراطوريات كانت قبل نحو 600 عاما عبارة عن ممالك فقيرة ودموية.
السؤال الذي يتمحور عليه الكتاب هو كيف تمكنت هذه الممالك الصغيرة، مثل بريطانيا، ناهيك عن اسكتلندا والبرتغال، من بناء امبراطورية ناجحة وكبيرة ، وأصبحت تسيطر علي 59% من مساحة اليابسة في العالم ، ونحو النسبة نفسها من سكان الأرض؟. وهذه الامبراطوريات الغربية استأثرت بما يقرب من 80% من الناتج العالمي.
هذه حقيقة تاريخية مدهشة ، حيث إنه في عام 1411م لم يكن يتوقع أحد لهؤلاء الهمجيين والمتنازعين أن يحققوا أي شىء من هذا القبيل. ورغم هذا النجاح، فإن فيرجسون يرى أننا نعيش نهاية نصف ألفية من الهيمنة الغربية، وهذه النهاية تأتي على نحو متسارع للغاية.
ويضرب على ذلك بمثال، فإذا قمنا بجولة خاطفة على مستويات الدخول في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، فإن دخل الفرد في الولايات المتحدة كان يعادل ضعف دخل الفرد في الصين 30 مرة.
وإذا قارنا دخل أحد الأفراد الصينيين إذا قرر العيش في مدينة مثل نيويورك عام 1978، فإن النسبة ستكون 1 إلى 70 لصالح المواطن الأمريكي، ويمكن كذلك إجراء مقارنة مشابهة بين الهند وبريطانيا في تلك الفترة.
لكن منذ نهاية السبيعينات، فإن الفجوة بين الغرب وبقية العالم بدأت تضيق وتتقلص بشكل مفزع ، حتى وصل الفارق بين الصين والولايات المتحدة إلى 5 أضعاف فقط، وهذا الفارق تم تقليصه في فترة قصيرة.
لهذا، نحن نعيش عصر انحدار مذهل في الثروة الاقتصادية للغرب، وأيضا الأمر ينطبق على الجغرافيا السياسية. وبالتالي لم يعد ضربا من الخيال أن نقول إن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة من حيث الناتج المحلي خلال السنوات العشر المقبلة.
وإذا طبقنا ذلك الأمر على الدراسات السابقة، فسنجد أن بنك جولدمان ساكس توقع أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في عام 2040، في حين توقع وليام بيوتر من "سيتي بنك" الأمر ذاته ولكن في عام 2027.
" التطبيقات المهلكة"
خلاصة رؤيته، كما يطرحها فيرجسون، في العوامل الستة التي يراها صاحبة الفضل في تفوق الغرب. وأطلق المؤرخ على هذه العوامل اسم "التطبيقات المهلكة"، وهذه التطبيقات ليست مزعجة حتى يطلق عليها لفظ المهلكة ، لكنه أكد أنه صاغها على هذا النحو، لأن الناس دائما تميل إلى تذكر الأشياء المزعجة ليس أكثر، وبالتالي يمكن- من وجهة نظر فيرجسون- القول إنها ستة محددات أو أفكار.
1- التنافسية، فالنظام السياسي والاقتصادي المجزأ بدلا من النظام الإمبراطوري الكلي أثبت أنه مفيد جدا، ويضرب على ذلك بمثال هو أن التسابق على التجارة، وعلى الموارد الطبيعية كان له الفضل في ظهور عصر الاستكشافات.
2- الثورة العلمية ، حيث إن تطورات هائلة حدثت في فترة قصيرة بفضل إنجازات إسحاق نيوتن. فبمجرد فهم أحد قوانين ذلك العالم في الفيزياء، أصبحت المدفعية الأوروبية دقيقة في قذائفها ، وهو أمر مهم جدا في الحرب، ولكن التأكيد في هذا السياق على أن هذه الإنجازات لم تشمل كل أوروبا ، بل تركزت في القطاع الغربي فقط.
3- سيادة القانون، حيث قامت المؤسسات السياسية على أساس من سيادة القانون واحترام حقوق الملكية الخاصة، إذ إن المفكر جون لوك أكد أن مفهوم الحرية لا ينفصل مطلقا عن حقوق الملكية الخاصة.
كما أن توزيع الملكية الخاصة في أمريكا الشمالية على نحو متساو أسهم على نحو مدهش في إرساء أسس للديمقراطية قابلة للحياة لفترات طويلة بدلا من الديمقراطية على فترات قصيرة نسبيا.
4- تطور الطب ، فالطب الحديث الذي بدأ في بداية في وقت متأخر من القرن التاسع عشر، وزاد من متوسط عمر الإنسان إلى ثلاثة أضعاف. ومن الواضح أن هذا التطبيق يمنح ميزة للغرب على الجميع.
5- المجتمع الاستهلاكي، والذي بدونه لم تكن هناك جدوى من الثورة الصناعية والتي كانت اختراعا غربيا بدورها بحسب فيرجسون.
6- أخلاقيات العمل، وهو الذي جعل الناس يعملون ساعات أكثر من قبل، ولكن بشكل أكثر كفاءة من ذي قبل.
هذه التطبيقات وقعت على نحو خاص في العالم الغربي فقط، وسعى المؤرخون وعلماء الاجتماع إلى شرح لماذا نشأت هذه التطبيقات في الغرب وحده دون أي مكان آخر، ولكن ما يريد فيرجسون التركيز عليه هو بدء عملية "تحميل" downloading لهذه التطبيقات فى بقية العالم.
عملية التحميل هذه قطعت شوطا طويلا في عصر ميجي في اليابان والتي تعد أول مجتمع غير غربي يقوم بنسخ هذه التطبيقات، وحاليا نرى المجتمعات الآسيوية الضخمة مثل الصين والهند تقوم هي الأخرى بتحميل هذه التطبيقات.
فعلتها الصين على حد تعبير فيرجسون، الذي قال "إنها حققت نجاحا مذهلا، وأصبحنا نشهد في حياتنا أسرع وأكبر ثورة صناعية".
ودفع تحميل تلك التطبيقات الصين إلى الأمام. فسابقا وعلى الرغم من أن الصين تمثل خمس البشرية وكانت بالكاد تصل إلى 2 أو 3% من الاقتصاد العالمي، فإنهاا خلال وقت قريب جدا ستكون أكبر اقتصاد في العالم، وتتجاوز الولايات المتحدة التي تحتكر المرتبة الأولى كأكبر اقتصاد في العالم منذ عام 1872.
خلال السنوات الأربع الماضية، عاني الغرب أزمة مالية لم تضر فقط بثروته ولكن ربما بشرعيته ومصداقيته، وحتى الثقة بالنفس في الغرب الذي يستخدم الآن عبارة "إجماع واشنطن"، في إشارة إلى أن الغرب الآن أصبح يقتصر على ما يدور في واشنطن.
في معرض تفسيره لتأثير هذا التراجع فى العلاقات الدولية، خاصة فيما يتعلق بالصين، لفت فيرجسون إلى رؤية وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر لهذه العلاقة في كتابة الجديد عن الصين.
ويرى كيسنجر أنه على الرغم من الطفرة الكبيرة في عهد ماو والطفرة الاقتصادية التي أطلقها الرئيس الصيني دينج زياوبينج، فلا تزال تقاليد كونفوشيوس متجذرة في نظام الحكم في الصين. وبالتالي، فإن التفكير القائل إن هناك عرفا خاصا بالحضارة الصينية هو رأي في غاية الأهمية، إذا أراد تحليل وضع الصين المعاصرة.
فالصين، كما يرى كيسنجر ، قوة مختلفة عن القوى العظمى في الغرب، وامبراطوريات الغرب. وهدف الصين ليس تحقيق الإمبراطورية أو السلطة بالمعنى المفهوم في التقليد الغربي ولكن هدفها هو تأسيس نفسها بوصفها "جنة الأرض" على الأقل في آسيا والمحيط الهادى.
وبالتالي كما يقول كيسنجر ، فإن المرء لا يستطيع التنبؤ بالقرار السياسي في الصين، خاصة على صعيد السياسة الخارجية، فهي تتصرف فيما يتعلق بالعلاقات الدولية بطريقة مختلفة عما هو متعارف عليه في تقاليد العلاقات الدولية.
فصناع القرار في الصين لا هم واقعيون ولا مثاليون ، وهم لا يسعون إلى توازن القوى ، ولا يسعون إلى أي من الأهداف التي يقرها فن الحكم والدبلوماسية في العالم الغربي.
لكن صناع القرار، بحسب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، يسعون إلى تحقيق التوازن بين ما يمكن أن نشبهه بالطابع البربري والطابع الناعم.
بيد أن فيرجسون يرى أن هناك تفسيرا آخر لطريقة التفكير في الصين الجديدة، وهو أن الصين بجانب أنها لم تقم فقط بتحميل التطبيقات الغربية السابقة ، الأمر الذي جعل منها معجزة اقتصادية، ولكنها قامت أيضا بتحميل التصور الغربي للقوة ، والذي من شأنه أن يجعلها تتصرف بطرق مختلفة عن الأساليب التي كانت تفكر بها في السياسة الخارجية في الماضي.
لتفسير هذا التصور، ضرب فيرجسون بمثال، هو حاجة الصين لتأمين إمدادات السلع والخامات، الأمر الذي أجبرها على اتباع الأساليب الإمبريالية. ففي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يقول فيرجسون: سترى علامات على طابع استعماري في شخصية الصين.
وأضاف: "لقد عدت لتوي من رحلة إلى زامبيا، وإنه لمدهش تماما أن نرى هناك ليس فقط مستعمرة صينية صغيرة، بل مطاعم ومحلات تجارية وربما أكثر من ذلك مناجم في حزام النحاس، وعمال متخصصون في صهر النحاس، ومزارع مملوكة للصينيين لإنتاج فول الصويا.. وهلم جرا. وهذا ما يحدث في بلد واحد فقط.
هذا الطابع الاستعماري مرئي في جميع أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء، وأيضا في أجزاء من أمريكا الجنوبية وأجزاء أخرى من آسيا. والطابع الاستعماري واضح أيضا على الجانب الاقتصادي، حيث اتسمت الأسواق في السنوات الأخيرة بالتقلبات، خاصة في عام 2008 . وما تبعه من ارتفاع حاد لأسعار السلع في شهر نوفمبر من عام 2010 أمر مثيرة للقلق جدا، لأن جزءا كبيرا من ارتفاع أسعار السلع الأساسية هو زيادة الطلب الصيني عليها.
في الوقت نفسه، فإن الصين قامت بتكديس ما يقرب من 3 تريليونات دولار من احتياطات العملة الدولية، كنتيجة لاستراتيجيتها للتدخل من أجل حماية عملتها الضعيفة.
الصين على مدى المستقبل القريب سيتباطأ نموها ، لكن الحزب الشيوعي سيسعى للحفاظ على احتكاره للسلطة. والسؤال هو كيف يمكن للنظام الصيني أن يحصل على الشرعية ، إذا كان لا يستطيع أن يحقق نسبة نمو بالسرعة التي يسير بها الاقتصاد الصيني حاليا وهي نحو 10% سنويا؟.
إجابة هذا السؤال - كما يرى فيرجسون - ستكون من خلال القومية التي قال إنها واحدة من أهم العوامل المتنامية في السياسة الصينية اليوم.
في واشنطن، يقول فيرجسون إنه عندما يتحدث الأمريكيون عن هذه القضايا، يقولون إننا في حاجة إلى الصين أكثر من حاجة الصين إلينا، وهذا ما أطلق عليه فيرجسون لقب "الصينو أمريكان Chi-America" ، ويشير هذا المصطلح إلى علاقة المنفعة المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة.
لكن فيرجسون لا يعتقد أن هذا المفهوم صحيح، ويؤكد أنه رغم أنه استخدم هذا المصطلح للمرة الأولى قبل أربع سنوات كنوع من التلاعب بالألفاظ في شرح العلاقة بين الصين والولايات المتحدة، فإنه لاحقا تبين له أن الصين تجاوزت ذلك، وأصبحت تميل للطابع الإمبراطوري.
الخلاصة - كما يقول فيرجسون- هي أن "الصينو أمريكان" مصطلح مات ، ونحن دخلنا في عالم جديد، أعتقد أن الصين ستكون فيه أكثر حزما وأقل هدوءا".
للمزيد من التفاصيل في النص الأصلي :
Niall Ferguson, The West and the Rest: the Changing Global Balance of Power in Historical Perspective, Chatham House, 9 May 2011 http://www.chathamhouse.org.uk/files/19251_090511ferguson.pdf