تحليلات - عالم عربى

مستقبل التوازنات السورية بين محاربة "داعش" ومعركة إدلب

طباعة
تعددت أخيرا الجهود الدولية والإقليمية والمحلية للقضاء علي تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا، حيث أعلنت الخارجية الأمريكية عن انطلاق حملة ضد "داعش" في سوريا بمشاركة حلفائها، ممثلين في تركيا والأردن و"قوات سورية الديمقراطية– قسد". في الوقت نفسه، كشفت الحكومة العراقية عن قيامها بقصف جوي لمواقع "لداعش" داخل سوريا. 
من جانبه، بدأ الجيش السوري حملة لتطهير جنوب دمشق من مسلحي "داعش" والفصائل المعارضة. بموازاة ذلك، تلوح معركة مدينة إدلب التي باتت مقصدا للمسلحين الفارين من المناطق التي تعرضوا فيها لهزائم. لذا، فإن مدى نجاح هذه الجهود سيلقي بظلاله على خريطة الفاعلين الدوليين والتنظيمات الإرهابية ودورهم في رسم مستقبل التسوية السياسية بسوريا.  
جهود محاربة "داعش":
سيطر تنظيم "داعش" على ثلث مساحة سوريا والعراق في منتصف 2014، ثم بدأ في التراجع، وفقد السيطرة على تلك الأراضي بنهاية عام 2016، وتم إعلان هزيمة التنظيم في العراق بنهاية عام 2017، فيما نجحت كل من الدولة السورية وقوات "قسد" بشكل منفرد بإلحاق هزائم متتالية "بداعش"، وكان هناك سباقا بين الطرفين للسيطرة على المدن التي يهزم فيها التنظيم.
 وبرغم ذلك كله، فإن "داعش" لا يزال يحتفظ بالسيطرة علي مساحة تبلغ نحو 10 آلاف كم2، وتتكون من قرابة 30 قرية وبلدة صغيرة في شمال شرق سوريا، من بينهم أربع قرى شرق نهر الفرات، و22 قرية وبلدة تمتد من ريف دير الزور، وريف الحسكة الجنوبي، وصولاً إلى الحدود السورية – العراقية. ومن بين الجهود التي أعلنت مؤخرًا لمحاربة التنظيم ما يلي:
1) الحكومة السورية: حيث نجحت الحملة العسكرية التي بدأها الجيش السوري في منتصف أبريل 2018 ضد عناصر "داعش" لتطهير أحياء جنوب دمشق في تحقيق أهدافها. وبالفعل، بدأ تنفيذ إتفاق في 4 مايو  2018 يقضي بإجلاء عناصر داعش من 3 بلدات جنوب دمشق، وهي (يلدا، وببيلا، وبيت سحم، ويقطنها قرابة 100 ألف شخص)، كما أعلنت دمشق انتهاء عملية إجلاء مسلحي "جبهة النصرة"، الذي أعلن انضمامه "لداعش" من الأحياء الجنوبية لدمشق، وذلك كجزء من خطة الحكومة السورية لتأمين العاصمة ومحيطها بالكامل. ووفق الاتفاق بين الفصائل المسلحة والحكومة السورية، سيتم إخراج المسلحين وعوائلهم من مخيم "اليرموك" (يتمركز به عناصر "النصرة")، والبلدات الثلاث جنوب دمشق وترحيلهم إلى إدلب شمال غربي البلاد، مقابل تحرير المحاصرين في بلدتي (كفريا والفوعة) في إدلب، والبالغ عددهم نحو خمسة آلاف على مرحلتين، وتحرير مخطوفي بلدة اشتبرق في ريف إدلب أيضاً على مرحلتين، وعددهم 85 من النساء والشيوخ والأطفال، ويتم ترحيلهم لدمشق، حيث تحاصر جماعات مسلحة البلدتين (كفريا والفوعة الشيعيتين) منذ 2015. 
2) القوات الكردية – العربية: حيث أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية- قسد" (قوات كردية عربية تسيطر على نحو 30 % من مساحة سوريا، وتقدر عدد قواتها بنحو 60 ألف مقاتل، وتتمركز بالمناطق الكردية شمال سوريا) في الأول من مايو 2018 انطلاق المرحلة النهائية من حربها ضد تنظيم "داعش" لإنهاء وجوده في شمال شرق سوريا وتأمين الحدود مع العراق المجاور. وكانت "قسد" قد أوقفت قتالها ضد داعش في يناير 2018، عندما بدأت تركيا هجومها العسكري علي منطقة عفرين.
3) الحكومة العراقية: حيث أعلنت رئاسة الوزراء العراقية في السادس من مايو 2018 أن سلاح الجو العراقي شن غارات على مواقع لتنظيم "داعش" بمنطقة "جنوب الدشيشية" داخل الأراضي السورية. وسبق أن نفذ سلاح الجو العراقي غارات على مواقع "لداعش" داخل سوريا، بالتنسيق مع الحكومة السورية، بغية درء خطر التنظيم وإبعاده عن الأراضي العراقية، وألمحت بغداد إلى استمرار عملياتها ضد "داعش" في سوريا.
4) الولايات المتحدة: ففي الأول من مايو 2018، أعلنت الخارجية الأمريكية أن التحالف الدولي وحلفاءه المحليين بمن فيهم "قسد"، أطلقوا عملية عسكرية ضد المعاقل الأخيرة لتنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا. وتتركز العمليات العسكرية في شمال شرقي سوريا، وستقوم قوات التحالف الدولي بالغطاء الجوي لتتيح فرصة لقوات "قسد" لشن هجوم بري يمكنها من اقتحام المدن التي يسيطر عليها "داعش". واعترفت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، هيدر نويرت، في بيانها أن القتال "سيكون صعبًا"، وكشفت عن أن واشنطن ستتعاون مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومنهم تركيا، إلى جانب شركائها، إسرائيل والأردن والعراق ولبنان، لتأمين حدود تلك الدول من عناصر "داعش"، وأعلنت أن واشنطن ستعمل على إرساء الاستقرار في الأراضي المحررة من "داعش". 
5) الحكومة الفرنسية: حيث أعلن رئيس أركان الجيوش الفرنسية، فرنسوا لوكوانتر، في الرابع من مايو 2018 أن القوات الأمريكية لن تنسحب من سوريا قبل القضاء على تنظيم "داعش"، وكذلك أعلن وزير الدفاع الأمريكي، جيم ماتيس، أن باريس أرسلت قوات فرنسية خاصة إلى سوريا لتعزيز مهمة القوات الأمريكية في محاربة "داعش"، وأكد ماتيس أن القوات لن تنسحب قبل تحقيق السلام بسوريا. 
 
بؤرة المسلحين في إدلب:  
أصبحت مدينة إدلب (مساحتها 6 كم2 وتقع في شمال غرب البلاد) بمنزلة بؤرة لتجمع الفصائل المسلحة المعارضة للدولة السورية، بمختلف انتماءاتها السياسية والدينية والأيديولوجية، حيث يرحل إليها جميع عناصر الفصائل المسلحة، بعد هزيمتهم من قبل الجيش السوري في وسط وجنوب سوريا، وهنا تبرز عدة مشكلات ستتعرض لها إدلب في المستقبل القريب، مما دفع الأمم المتحدة للتحذير من تدهور الوضع الإنساني بها، حيث:    
1) تغيير ديموجرافي: فخلال عام 2017، تم ترحيل جميع عناصر الجماعات المسلحة التي عقدت اتفاقات مع الحكومة السورية لإدلب، وهذه الجماعات بالطبع (سنية) كانت تتمركز في جنوب دمشق، ووسط سوريا. وفي المقابل، يتم الآن ترحيل الشيعة المحاصرين في إدلب إلى دمشق بغية إحداث "تغير ديموغرافي" يهدف لتمركز الشيعة في الساحل الغربي السوري، والأكراد والسنة في شمال البلاد، مما يشير إلى وجود خطة لتقسيم سوريا على أسس عرقية طائفية. ومن الأمثلة على ذلك، إنه تم تهجير عناصر "هيئة تحرير الشام" (كانت موالية لتنظيم "القاعدة" الإرهابي) لإدلب، وكذلك أعلن في 2 مايو 2018 عن بدء تنفيذ الإتفاق بين عدد من الفصائل المسلحة، ومنها "هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)" من مخيم اليرموك جنوب دمشق لإدلب، وكذلك إخراج الفصائل المسلحة من مدينة الرستن لجرابلس شمال البلاد، بغية فتح الطريق الدولى "حماة – حمص" للمرة الأولى منذ 7 سنوات.
2) اقتتال داخلي واغتيالات: حيث إن وجود الفصائل المسلحة المعارضة في إدلب سيضاعف الفوضى الأمنية بالمدينة، وستلجأ تلك الفصائل إلي الاقتتال الداخلي للسيطرة علي المدينة، وهو ما حدث بالفعل منذ نهاية فبراير 2018، مما دفع تركيا (الدولة الضامنة لإدلب، والتي تتعهد دوما بتحريرها من الإرهاب، وهي على صلة بمعظم الفصائل المسلحة التي تم ترحيلها للمدينة، وفق التقارير الاستخباراتية الدولية) للتدخل لوقف الاقتتال بين تلك الفصائل ومطالبة "جبهة النصرة" على القبول بهدنة دائمة مع "جبهة تحرير سوريا". كما شهدت إدلب مقتل أكثر من 10 قياديين للفصائل المسلحة المتناحرة على يد مجهولين، وذلك بعد توقف الاقتتال بين "جبهة تحرير سوريا" و"هيئة تحرير الشام" المتنازعتين على مناطق النفوذ في الشمال السوري، مما ينذر بأن الوضع الأمني بالمدينة يتجه للمزيد من التصعيد والفوضى والتدخلات الخارجية.
3) تحذير أممي: حذر مستشار الأمم المتحدة للشئون الإنسانية في سوريا، يان إيجلاند، خلال مؤتمر صحفي عقده في 3 مايو2018 من حدوث "حرب في إدلب"، ووجه رسالة لروسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية بضرورة السيطرة على الفصائل المسلحة بها لمنع تفاقم الوضع الأمني. كما حذر من تدهور الوضع الإنساني بالمدينة، التي أصبحت مكتظة بالسكان إثر ترحيل الآلاف من المسلحين وعوائلهم إليها، في حين لا تحتمل بنيتها التحتية مثل هذه الأعداد، كما أن قطع الطرق يمنع إيصال المساعدات الإنسانية لإدلب، مما ينذر بأزمة إنسانية حادة ستعانيها المدينة، حال استمر وضعها الحالي دون احتواء سياسي وأمني. 
 
دلالات متعددة: 
هناك العديد من الدلالات التي يمكن استنتاجها من كثافة التحركات الميدانية لأطراف الملف السوري الخارجية والداخلية، يمكن إيضاحها على النحو الآتي:
1) دلالات التوقيت: إذ إن تزامن إطلاق الحملة الأمريكية والعراقية والسورية للقضاء علي "داعش" لم يكن مصادفة، بل إنه يعكس سعي واشنطن وحلفائها لتحقيق أهدافها. أولها: استغلال الأجواء العامة داخليًا ودوليًا لتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، وفرض مزيد من الانخراط في العمليات المسلحة هناك، بعد نجاح الضربة الجوية المحدودة التي وجهتها واشنطن للمنشات السورية في دوما بعد الزعم بوجود أسلحة كيماوية فيها. وثانيها: منع الرئيس السوري بشار الأسد أو حلفائه من استغلال المناطق المحررة من "داعش" وبسط سيطرته عليها، حيث تسعى واشنطن وحلفاؤها لاسيما "قسد"، وتركيا لمنع الجيش السوري من الوجود في شمال البلاد لأن ذلك سيهدد وجودهم العسكري ونفوذهم السياسي هناك. ثالث الأهداف يتعلق بأن تعزيز الوجود العسكري والفرنسي بشمال سوريا سيساهم في موازنة الوجود التركي المكثف بتلك المناطق، كما أنه سيمثل عامل ضغط على دمشق قبل استئناف مفاوضات جنيف.  
2) تحرير سوريا: حيث تسعى الحكومة السورية وحلفاؤها، خاصة روسيا وإيران، إلى استكمال تحرير سائر المدن السورية من سيطرة الجماعات الإهابية والفصائل المسلحة، لاسيما في محيط دمشق، حيث بلغت مساحة سيطرة الجيش والحكومة السورية إلى 60 % من الأراضي السورية البالغ مساحتها 185 ألف كم2. وتهدف دمشق لبسط سيطرتها على أكبر مساحة من الأراضي السورية قبل استئناف محادثات جنيف لتفرض علي المعارضة السورية والمجتمع الدولي أمرًا واقعًا، وبالطبع يدعمها في ذلك حلفاؤها في موسكو وطهران. ويتفق ذلك مع اقتناع المجتمع الدولي الذي يؤكد أن حل الأزمة السورية سيتم سياسيا واستبعدت الحل العسكري للأزمة.
3) معركة إدلب القادمة: تشير كل المؤشرات إلى أن المعركة القادمة بسوريا ستكون في إدلب شمال غرب البلاد، كما أن مستقبل المدينة سيتأثر بجملة من التعقيدات العرقية والعشائرية والسياسية التي تنتمي لها الفصائل المعارضة المسلحة. وقد تعهد الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" في السادس من مايو 2018 بتطهير المدينة من الإرهابيين، وامتداد عملياته العسكرية لتشمل "إدلب ومنبج وتل رفعت" بعد سيطرته على مدينتي (الباب، وعفرين) الكرديتين بشمال سوريا. وفي المقابل، أعلنت مصادر روسية وإيرانية أن العام الحالي سيشهد القضاء علي تنظيم "جبهة النصرة"، وهو يتمركز في إدلب الآن. وبالطبع، فإن الجيش السوري، بعد بسط سيطرته الكاملة على دمشق ومحيطها وتطهيرها من الجماعات الإرهابية وفصائل المعارضة، سيتجه لتطهير الشمال السوري ويبدأ من إدلب. 
نستنتج مما سبق أن مستقبل التسوية السياسية السورية مرتبط بنتائج ثلاث معارك ميدانية، الأولى بدأت بالفعل، وهي القضاء على خلايا "داعش"، وهذه ينخرط فيها جميع الأطراف السورية. والثانية ستكون في جنوب سوريا، حيث إن طرفي المعركة هما إسرائيل وإيران. والثالثة، وهي الأهم، الصراع حول مدينة إدلب، والتي تستعد لمعركة عسكرية وسياسية لتقاسم النفوذ بين الأطراف الفاعلة بالأزمة السورية، وستكون اليد العليا في تلك المدينة لتركيا لأنها الدولة التي تدعم معظم فصائل المعارضة فيها، وربما تقوم أنقرة بمقايضة التخلي عن ذلك الدعم، مقابل الحصول على مكاسب سياسية في الشمال السوري.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. منى سليمان

    د. منى سليمان

    باحث أول ومحاضر فى العلوم السياسية