عند الحديث عن التحالفات الدولية والإقليمية لـ"صناعة الفوضى" في المنطقة العربية، يتحتم علينا إعادة النظر فيما حدث خلال السنوات الـ7 الأخيرة (توضيحًا، وتفسيرًا، وتقييمًا)، لقطع الطريق على ملف شديد الخطورة يتحين الفرص من أجل العودة مجددًا، رغم أنه كاد يعصف بمصر والمنطقة معًا.
الوقوف أمام المسكوت عنه في نشأة حركات ومجموعات (بل وميليشيات مسلحة)، انزوى بعضها مؤخرًا بسبب الاستقرار الأمني، والوعي الشعبي (الآخذ في التنامي بعد سنوات عصيبة)، بينما لا يزال بعضها يقدم الدور المطلوب منه في الداخل المصري، وفي بعض البؤر الملتهبة عربيًا، أمر ضروري، لمعرفة مدى تقاطعها مع أطراف تعادي الديمقراطية والحياة نفسها.
في مصر، كان المخطط أكثر تعقيدًا، وصاحب نفس طويل.. جرى تحضير المشهد على مرحلتين (من 2000، حتى 2005.. ومن 2005 حتى يناير 2011).. ليس سرًا أن قطر كانت عاصمة إقليمية لهذا المخطط شديد الخطورة، ليس فقط بتوفير الدعم الإعلامي، أو الإسناد اللوجستي، لكنها عبرت عن نفسها بـ"حدث ضخم" تبدت نتائجه لاحقا.
استضافت الدوحة (المأمورة منذ انقلاب أميرها السابق حمد، على والده خليفة آل ثاني بتنفيذ كل ما يطلب منها دون مناقشة) منتدى شهير، حمل عناوين سياسية وحقوقية براقة، فيما هو واجهة لخطة عمل جهزتها المخابرات الأمريكية، أدت فيها قطر وتركيا، وجماعة الإخوان دورًا كبيرًا، كاد يغرق مصر في بحور من الدماء.
قبل الإعلان الرسمي عن باكورة إنتاج هذا المنتدى (حركة شباب 6 أبريل في مصر، وحركات مماثلة في تونس واليمن وسوريا وليبيا) لابد أن نقول كلمة حق، تفرضها الوقائع التى تمت على الأرض، وتمثل في الوقت نفسه تبرئة ضميرية لبعض العناصر شابة، التي وجدت نفسها في بؤرة المؤامرة، تم دفعهم للمشاركة فيها "بفعل فاعل".
تبرئة البعض (دون الوقوف أمام أسماء محددة) لا يعفيهم من المسؤولية (الأخلاقية، والسياسية، بل والجنائية...) عما حدث منذ فترة تأسيس حركة 6 أبريل حتى سنوات لاحقة، شارك فيها هؤلاء في تكدير المشهد العام، وتقديم خدمات (مباشرة، وغير مباشرة) لأجندات إقليمية ودولية، عبر تحويل مطالب شعبية مشروعة إلى مخطط لتعزيز "الاحتقان الاجتماعي".
الدفع بجميع العناصر من أجل إشعال فتنة شعبية، ومنحهم (بعلم قيادات في الحركة، معظمها ينتمي لجماعة الإخوان مباشرة) كل الدعم الإعلامي والسياسي، جعل معظم من يتصدرون المشهد العام من النخب لا يسألون أنفسهم: كيف يندمج الليبرالي اليساري واليميني المتطرف تحت راية واحدة؟.. السؤال لم يلفت نظر شباب الحركة (وأخواتها) بزعم الرغبة في التغيير!!!
تلك الملابسات كانت مقصودة من البداية، أن يتم الدفع بحركة 6 أبريل (ومعها مجموعات أخرى، يتصدرها الألتراس) لصدارة المشهد، فيما أخذت جماعة الإخوان (الشريك الرئيس في مشروع الفوضى المشار إليه) خطوة للخلف، أولًا: لعدم ضمان العواقب في حالة فشل المخطط، وثانيًا، للتضحية بكبش فداء تمثله هذه العناصر الشابة.
قبل الإعلان المباشر عن تأسيس حركة 6 أبريل (وغيرها من الحركات في المنطقة)، لم تكن الأغلبية الشعبية في مصر ومحيطها الإقليمي (في ظل حالة زخم مصنوعة ترفع شعارات التغيير) معنية بمن يزعزع المشهد، ولماذا يفعل ذلك؟ ومَن المستفيد من تساقط أبرياء تخضبت بدمائهم الطاهرة شوارع القاهرة والمحافظات؟.
لم يكونون معنيين بالوقوف أمام بداية المخطط؟ وكيف استمر؟ ومَن نفخ في نار الفتنة حتى تزداد اشتعالًا؟ ومَن حول السلم الأهلي والتعايش الشعبي إلى عمليات تخريب وتدمير ممنهجة؟.. مَن تجرأ على مهاجمة مؤسسات الضبط الاجتماعي (مقار عسكرية، وأمنية، وقضائية...)؟ ومَن يحاول إحراق الذاكرة الوطنية (المجمع العلمي، والجمعية الجغرافية المصرية...)؟
لم تكن لدى المؤسسات الوطنية (المدركة لحقيقة ما يتم) القدرة على توصيل الإجابات السليمة، أو إقناع الجماهير (أو مكاشفتها على الأقل) بهذه الأبعاد؛ لأن أطراف المؤامرة حرصوا منذ البداية على تطبيق أول نصيحة: جردوا الأنظمة الحاكمة في المنطقة من أدوات الدعم (التوافق السياسي- الحزبي.. التشكيك في الرسالة الإعلامية، والرموز الوطنية القادرة على الإقناع).
العودة للخطوة الأكثر درامية في هذا المشروع، تعيدنا مجددًا لـ"الدوحة".. فوسط اهتمام إقليمي ودولي كبير (بفعل الدعم والتخديم والإعلامي والسياسي من الأطراف الضالعة في المؤامرة)، استضافت قطر (التى تأكد بعد سنوات دورها الموثق في دعم الإرهاب) مطلع فبراير عام 2006 ما يسمى بـ"منتدى المستقبل".
شاركت الحكومتان (الأمريكية والقطرية) في الإعداد للمنتدى وتنظيمية على أعلى مستوى، فيما تؤكد المعلومات أن وكالة المخابرات الأمريكية هي مَن تولت عملية التخطيط والإشراف على تنفيذه من أوراق عمل وتوصيات، تم التمهيد لها سلفًا قبل هذا المنتدى بنحو ثلاث سنوات (تحديدًا بعد أيام من غزو العراق).
آنذاك، طرح د. سعد الدين إبراهيم (عراب حقوق الإنسان على الطريقة الأمريكية) قضية كانت حديث النخب في المشهدين السياسي والإعلامي العربي، بدأها بسلسلة مقالات (تمهيدية –تهديدية) عنوانها: "بيدي لا بيد عمر".. أي؛ هل يكون التغيير الديمقراطي (وفق رؤية واشنطن) بمبادرة من الأنظمة العربية نفسها؟، أم بتطبيقها بالقوة؟ (غزو العراق نموذجا).
عقلاء المشهد (أو مَن تبقى منهم على الأقل) لم ينجرفوا وراء "فكر الكاوبوي"، الذى عبر عنه سعد الدين إبراهيم في طرحه المثير للجدل، ربما لأنهم أدركوا مبكرًا أكذوبة الديمقراطية الأمريكية ومَن يروجون لها، لكن الحملة –العراب- التي ترجمتها مشيخة قطر عام 2006 بصورة تتوافق مع دور التدمير لـ"القوة الناعمة".
لم يكن بمقدور أكثر الناس تشاؤمًا وتشكيكًا (من غير المتابعين لسير المؤامرة، ومحاولة تمددها) توجيه أي اتهام لمنتدى "مستقبل التغيير في العالم العربي" الذى استضافته الدوحة، في ظل اسمه البريء (المتوافق مع عملية تحضير ناعمة، تجمع بين الحرفية الاستخباراتية، والتحركات التنظيمية من جماعة الإخوان بين الجماهير على الأرض).
كانت مهمة واشنطن حشد القوى الليبرالية لمؤازرة المشروع المشبوه، وتولت الدوحة الترتيب مع الإخوان من أجل تحويله إلى واقع، تستأثر فيه الجماعة بحكم مصر، وتغض الطرف عن خطة تقسيم "جيوسياسية" جديدة تستهدف المنطقة، تعتمد على إعادة توزيع الموارد الطبيعية بين قوى المصالح الدولية، مع ترك الشعوب لمصيرها المحتوم.
تم استدعاء زوج ابنة يوسف القرضاوي (!!) الذى كان يعيش في النمسا، آنذاك، إلى الدوحة والإشراف على تأسيس ما يعرف بـ"أكاديمية التغيير"، وهو اسم شديد البراءة، لكنه في واقع الأمر كانت الحاضنة الشيطانية التى تولت تهيئة الكوادر، والإشراف على عملية القيادة والسيطرة، والهيمنة على أحزاب، ومؤسسات إعلامية في مصر وخارجها.
دور "أكاديمية التغيير" انصب في البداية على تنفيذ الإطار الفكري والسياسي الذى وضعه القطري جاسم سلطان (يقال إنه ضابط في جهاز الاستخبارات القطرية، فضلًا عن أنه مراقب جماعة الإخوان السابق في الدوحة/ المرشد المحلي للتنظيم) صاحب ما يسمى بمشروع "النهضة" (الذي لا تزال مطبوعاته تباع عبر مكتبات مصرية حتى الآن).
شرعت "أكاديمية التغيير" في تدريب نشطاء وشباب عرب (في الدوحة، وعواصم أوروبية) على زعزعة استقرار الدول المستهدفة عبر سلسلة من التحركات الممنهجة (احتجاجات.. مظاهرات.. ثورات...) وفق سياسة استراتيجية أمريكية تم وضعها منذ مطلع الثمانينيات؛ لتقسيم وتفتيت الوطن العربي إلى دويلات دينية وعرقية، عبر عنه لاحقًا مشروع "الفوضى الخلاقة".
لم يلتفت البعض إلى أن أول نشاط عملي للأكاديمية، تمثل في تأسيس حركة 6 أبريل في مصر، على خلفية حشود جماهيرية شهدتها منطقة المحلة الكبرى، وسط دعم شامل، وترحيب من جماعة الإخوان، ما سمح للحركة بالمشاركة في عشرات المؤتمرات والندوات الإقليمية والدولية، رغم أنها كيان حديث نسبيًا، ولا توجد له أي صفة للحديث باسم الشعب المصري.
وجهت قطر (وحلفاؤها) كل الدعم لـ"أكاديمية التغيير"، وسط مزاعم بأنها "أكاديمية علمية بحثية، عربية الهوى، عالمية النشاط، تهتم بتحرير المجتمعات من قوى الاستبداد والظلم والديكتاتورية، حتى تكون هذه المجتمعات قادرة على ممارسة التغيير والتحول الحضاري"، فيما هي رأس المؤامرة، ومنبع الأفكار الهدامة، وممارسات كارثية تم العمل بها على الأرض، تستحق مقالًا آخر.