وجهت كل من الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وفرنسا فجر يوم السبت الموافق 14 أبريل ضربة ثلاثية ضد أهداف عسكرية في سوريا، تحت ادعاء أنها لتقويض الدولة السورية من إنتاج واستخدام السلاح الكيماوي، وهي ضربة استباقية قبل وصول لجنة منظمة حظر الأسلحة الكيميائية المقرر لها أن تقوم بجولتها صبيحة يوم السبت الذي حدثت فيه الضربات.
لتقييم تداعيات الضربة الثلاثية على سوريا، لا بد من التطرق إلى الوضع الحالي للنظام العالمي والإقليمي والداخلي في سوريا، ويتمثل في الآتي:
أولا- يشهد النظام العالمي مرحلة صراع بين الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى للإبقاء على النظام العالمي أحادي القطبية بما يضمن لها بسط نفوذها على مقدرات كل دول العالم، ومن ثم على القرار السياسي فيها، وتحدد لكل الدول الدور الذي يمكن لها أن تلعبه في النظام بما يحقق المصالح الأمريكية في المقام الأول، وبين الدول الكبرى التي ترغب في أن يكون النظام العالمي متعدد الأطراف (روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا).
ثانيا- على مستوى منطقة الشرق الأوسط: تشهد صراعا إقليميا على النفوذ في المنطقة بين كل من مصر والسعودية وتركيا وإيران وإسرائيل، ومن ثم يرسم حجم الدور الذي ستلعبه كل دولة بناء على مقدرات القوة الشاملة للدولة ومنها أدوات التأثير التي تمتلكها لتنفيذ سياستها الخارجية لبسط نفوذها في المنطقة، إضافة إلى اكتشافات النفط والغاز، والتي جعلت من المنطقة حلبة سباق بين القوى الإقليمية التي ترغب في مد خطوط الانابيب عبر أراضيها لتكون مركزا إقليميا للطاقة مثل سوريا وتركيا وإسرائيل ومصر، أو تستفيد من مد خطوط الأنابيب عبر العراق وسوريا مثل إيران.
ثالثا- الموقع الجيواستراتيجي لسوريا وتحالفاتها في المنطقة: فسوريا لديها اكتشافات نفطية وغاز كثيرة كما سيمكنها موقعها من أن تكون مركزا لمرور أنابيب الغاز في منطقة الشرق الأوسط وهو ما ترفضه تركيا وإسرائيل. في حين أنها سوف تساعد إيران لتصدير الغاز عبر أراضيها، وفي الوقت نفسه تريد أمريكا- وفق استراتيجيتها- أن تسيطر على انتاج الغاز فيها وفي المنطقة بأسرها عبر شركاتها وهو نفس الهدف الذي تسعى إليه روسيا وحتى تتمكن في سوق الغاز حتى لا تؤثر هذه الاكتشافات فى انتاجها منه كمصدر دخل مهم لديها ولتسيطر على سعره وكمية انتاجه على المستوى العالمي.
رابعا- استثمرت الدول الإقليمية والدولية الثورات العربية للحيلولة دون استفادة هذه الدول وشعوبها من عائد هذه الثروات المكتشفة، ومن ثم كان الدفع بدخول هذه الدول في حروب أهلية وإقليمية ودولية طويلة الأمد تضمن انشغال الانظمة والقوى الداخلية في الحروب لتحقيق مكاسب بغية الوصول للحكم في حين تعمل القوى الخارجية على تدمير البنية التحتية وإحداث فرقة بين طوائف الشعب المختلفة لإذكاء هذه الحروب وتجهيز الدول للتقسيم، ولتصبح أكبر مستورد للسلاح على مستوى العالم، وبالتالي تستفيد القوى الخارجية من استنزاف الدول العربية. وعندما يتم التوافق فيما بينها على النفوذ، يتم إدخال الدول العربية في مرحلة إعادة الإعمار وتعزيز الديمقراطية، على الرغم أن النموذج الواقعي لفشل هذه القوى هو الحالة العراقية، حيث لا يزال يعاني الشعب العراقي فيها أكذوبة الديمقراطية، وفي نفس الوقت تنهب ثرواته من قبل القوى الخارجية وسيطرتها على قراره السياسي.
الظروف التي سبقت تنفيذ الضربة:
1-الحرب السيبرانية الروسية: وجهت العديد من الدول الغربية اتهامات لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية والفرنسية واختراق الاستفتاء الخاص ببقاء بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، وتم اختراق وزارة الخارجية الألمانية ووزارة الدفاع في بولندا، وقرصنت الحكومة في ليتوانيا، وعانت استونيا موجة من الهجمات الالكترونية، مما يعني أن روسيا تشن حربا سيبرانية ضد أمريكا والدول الأوروبية، وهو ما يعني ايضا أنها أكثر تقدما عن هذه الدول في هذا المجال، وأنها قادرة على اختراق كافة المنظومات الأمنية والدفاعية، وكافة الأنظمة التكنولوجية والمعلوماتية لدى كل هذه الدول، أي أن روسيا تتفوق تكنولوجيا على دول العالم في مجال يضمن لها التفوق بل وتعطيل تقدم هذه الدول وقتما تشاء. ومما لاشك فيه أن التفوق التكنولوجي سوف يحدد ترتيب الدول في النظام الدولي، فضلا عن أن هذا التطور قادر على توجيه مصير دول من خلال السيطرة على مصير الحكومات والدول وأيضا التحكم في مصير ومستقبل منظمات دولية مثل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى محاولة روسيا استعادة نفوذها في دول شرق أوروبا من خلال دعم الأحزاب الشعبوية التي ظهرت فيها مقابل الأحزاب الليبرالية الموالية للغرب، فضلا عن تحجيم سيطرة روسيا على الغاز المصدر إلى أوروبا، خاصة بعد الدرس المستفاد من قطع روسيا عن أوروبا الغاز فى أثناء قضية أوكرانيا، وبالتالي ترفض أوروبا أن تكون روسيا المصدر الوحيد للغاز، وبالتالي اتجهت إلى دول الشرق الأوسط للحصول على حصة لها في النفط والغاز المكتشف، كما رفضت أن يكون خط الغاز لأوروبا عبر السيل الشمالي الذي تم مده مباشرة من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، بالإضافة إلى إعلان بوتين أمام الكرملين عن امتلاك روسيا لأسلحة استراتيجية جديدة ستقلب موازين القوة في العالم.
2- دور فرنسي في سوريا: ظهرت ارهاصات دور فرنسي مع غزو تركيا لمدينة عفرين السورية، وسعي فرنسا لاستصدار قرار من مجلس الأمن يشجب فيه الغزو التركي، وهو ما يعد رغبة فرنسية لاستعادة دورها في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط وأيضا إيجاد دور دولي لها في النظام العالمي.
3-قضية سكريبال: اتخذتها أمريكا والغرب ذريعة لتحجيم دور روسيا العالمي، وتصفية الحسابات معها، حيث اتهمت بريطانيا روسيا بمحاولة تسميم سيرجي سكريبال، الجاسوس الروسي المزدوج في 4 مارس 2017 باستخدام غاز أعصاب ينتج في روسيا فقط، الأمر الذي ترتب عليه طرد أمريكا والدول الأوروبية وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي للدبلوماسيين الروس بغية الضغط على روسيا، مما استوجب بالأخيرة بالرد المماثل.
4- الضربة الإسرائيلية: وجه سلاح الطيران الإسرائيلي ضربة لقاعدة عسكرية تسمى التيفور وهي قاعدة إيرانية فيها مخازن أسلحة وعمليات تجميع وتصنيع للطائرات بدون طيار وتتمركز فيها كتيبة الرضوان التابعة لحزب الله، ويتم تدريب فني للكوادر على يد خبراء إيرانيين. كما شهدت القاعدة تجارب لنماذج متطورة من هذه الطائرات لزيادة مدى طيرانها بما يمكنها من الوصول لإسرائيل، ومن ثم كانت هدفا لإسرائيل، ولتوصيل رسالة لتحجيم الدور الإيراني في سوريا، وللحيلولة دون أن تكون إيران دولة جوار مباشر لها، خاصة مع وجود قاعدة عسكرية إيرانية بالقرب من هضبة الجولان المحتلة.
5- الأسلحة الكيميائية: قبل أن يحقق النظام السوري انتصاره الاخير في منطقة الغوطة الشرقية، والاستيلاء على مدينة دوما، ظهرت مقاطع من فيديو بأن ثمة هجوما كيميائيا من قبل النظام على المدنيين في دوما. وقد جاء هذا الادعاء متزامنا مع انتصار النظام في الغوطة الشرقية. ورغم عدم ثبوت أي أدلة على استخدام هذا السلاح الكيماوي من قبل النظام وعدم السماح لجهة محايدة للتحقيق، تمت الضربة العسكرية الثلاثية، وهذا ما يفتح المجال للتساؤل: هل النظام السوري بحاجة لاستخدام السلاح الكيماوي وهو يستعد للسيطرة على آخر معاقل المسلحين في الغوطة، ويربح الحرب في محيط دمشق الواسع؟ ومن ثم في حالة إثبات استخدام السلاح الكيماوي وعدم إثبات استخدام النظام له، فإن المشهد سوف يتطور للأخطر وهو وصول السلاح الكيماوي لأيادى الإرهابيين، وأنهم استخدموه لتقويض تقدم النظام في دوما، آخر معاقلهم.
6-الوضع الداخلي لترامب: يواجه الرئيس الأمريكي اتهامات داخلية بالتعاون مع روسيا في الانتخابات الرئاسية والسماح لها بالتدخل في نتيجتها لصالحه، وهو الأمر الذي- في حالة ثبوته- من الممكن أن يحول دون اكمال ترامب لفترته الرئاسية، وبالتالي هي محاولة منه ليبدو أنه يحارب روسيا في سوريا من ناحية، ولشغل الرأي العام الأمريكي عن هذه القضية وعن الفضائح الأخلاقية الخاصة به، وللتغطية على عدم استقرار إدارته في ظل التغييرات الكثيرة لمعاونيه من ناحية أخرى.
7-ملف كوريا الشمالية: من المتوقع أن يكون هناك اجتماع بين رئيس كوريا الجنوبية كيم جونج أون، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شهر مايو القادم، للتوصل إلى تفكيك كوريا الشمالية لبرنامجها النووي، وبالتالي يمكن القول إن ترامب يحاول من خلال الضربة الموجهة لسوريا الضغط على إيران لإحداث التعديلات التي تريدها أمريكا على الاتفاق النووي الإيراني، ليكون بمثابة انتصار لإدارة ترامب، والتي من شأنها أن تصب في صالح الملف النووي الكوري.
أهداف الضربة:
1-تقويض التقدم الذي أحرزه النظام السوري، حيث سيطر على حوالي نصف مساحة سوريا (شرق حلب- وسط حمص-دير الزور- حماه- تدمر) ويسكن فيه حوالي 65% من الشعب السوري.
2-إطالة أمد الأزمة السورية والحيلوية دون وصولها للحل السلمي وإفشال ما تم التوصل إليه في الاجتماع الثلاثي الروسي- الإيراني- التركي في أنقرة في 4 أبريل الحالي، حيث اتفق رؤساء تلك الدول على مواصلة التعاون فيما بينهم بهدف إحراز تقدم في المسار السياسي، وتحقيق هدنة دائمة بين أطراف النزاع.
3-عدم ترك الولايات المتحدة والدول الأوروبية فراغا لروسيا والتأكيد على عدم انسحاب أمريكا من روسيا والنيل من حزب الله وإيران.
4-ارتباط تحقيق الاستقرار ومستقبل سوريا بالتنسيق مع أمريكا وحلفائها.
دلالات الضربة:
1-إخفاقها في إسقاط النظام السوري، حيث روجت الحملة الإعلامية في أمريكا والدول الغربية بأن هدفها اسقاط النظام السوري، حيث تعمد الرئيس السوري أن يذيع شريط فيديو فى أثناء ذهابه لعمله ووجوده في مكتبه لمباشرة أعماله، وهو يرسل رسالة للعالم بأن ما كانت تروج له أمريكا من اسقاطه لم تنجح في تحقيقه.
2-نجاح الدبلوماسية السرية: والتي كانت مستمرة بين الجانبين الأمريكي والروسي وبين روسيا وإيران. فمن ناحية، لم توجه الضربات إلى أهداف إيرانية، مما يفتح الباب أم تكهنات بأن ثمة تقدما سوف يتم إحرازه على صعيد الاتفاق النووي الإيراني لصالح أمريكا، وهو ما سيعد مكسبا لأمريكا، بالإضافة إلى أن نقل النظام لأسلحته الدفاعية إلى القاعدة الجوية الروسية في حميم يعني تقليل الخسائر في جانب النظام السوري، فضلا عن تجنب الدخول في حرب بين السلاح الأمريكي والروسي.
تداعيات الضربة:
1- تقوية النظام وزيادة قدرته على الحفاظ على مكتسباته، حيث تمكن النظام السوري من التصدي للصواريخ الغربية، إذ تمكنت الدفاعات السورية من التصدي للهجوم الغربي باستخدام صواريخ وأنظمة جوية سوفيتية قديمة صنعت قبل 30 عاما منها أنظمة S-125 و BUKو S-200 الدفاعية الجوية، وفقا لما نقلت وكالة أنباء سبوتنيك الروسية، حيث تصدت منظومات الدفاع الجوي للصواريخ وأسقطت بعضها.
2-تكريس دور جديد لأمريكا وبريطانيا وفرنسا في مسار التسوية السياسية القادم بالتنسيق مع روسيا وإيران وتركيا.
أخيرا، يمكن القول إن كل ذلك يحدث في سوريا، ويشارك فيه ويؤيده دول عربية، في حين يرفضه البعض الآخر. وقد تزامنت الضربات مع عقد القمة العربية في الرياض في 15 أبريل التي يصعب أن يخرج منها قرار موحد لصالح الشعب السوري في ظل التناقضات العربية.
يمكن القول أيضا إن الضربات الغربية لسوريا لن تكون الأخيرة، وسوف يكون لكل ضربة قادمة أسبابها وظروفها، وفقا للتوازنات الدولية والإقليمية. فالقضية السورية مستمرة، لأنها سوف تحدد من خلال استمراريتها شكل التوازنات على الأرض السورية، والتوازنات الإقليمية، كما سيرسم على أرض سوريا شكل النظام العالمي.