أثار البيان الختامي للقمة التي جرت بين رؤساء روسيا، وتركيا، وإيران في أنقرة، فى الرابع من أبريل 2018، تساؤلات حول معركة النفوذ الجارية في سوريا، ومصير التسوية السياسية، خاصة أن تلك القمة جاءت عقب تغيرات موازين القوى الميدانية في هذا البلد، حيث أكد ذلك البيان رفض كل المحاولات الرامية لإيجاد واقع ميداني جديد في سوريا تحت ستار مكافحة الإرهاب، كما تم الاتفاق على إحياء العملية السياسية، وإعادة النازحين.
كما تضمن البيان دعم زعماء الدول الثلاث للسوريين لإعادة تأسيس وحدة بلادهم، وأضاف أن تركيا وروسيا وإيران سيواصلون العمل معا من أجل القضاء على تنظيمات "داعش"، و"جبهة النصرة" و"القاعدة"، وجميع الأفراد والمجموعات والكيانات المرتبطة بها.
وأفاد البيان بأن الزعماء شددوا على أهمية التفريق بين التنظيمات الإرهابية المذكورة، ومجموعات المعارضة التي انضمت وستنضم إلى الهدنة لمنع وقوع خسائر بين المدنيين خلال مكافحة الإرهاب.
يأتي هذا في الوقت الذي قصفت فيه قوات النظام السورية مدينة دوما التي تعد جزءاً من الغوطة الشرقية التي يسيطر عليها جيش الإسلام، وفيلق الرحمن، وهيئة تحرير الشام، وسط تقارير حول أن ذلك القصف استخدمت فيه أسلحة كيماوية.
بموازاة ذلك، سيطرت تركيا وحلفاؤها على مدينة عفرين شمال حلب، بينما استطاعت قوات الحكومة السورية استعادة غوطة دمشق، والوصول إلى اتفاقات لإجلاء نحو 100 ألف مقاتل وعائلاتهم، من شرق العاصمة إلى شمال سوريا وشمالها الغربي. وفي ضوء ذلك، يحلل هذا التقرير أبعاد تقاسم النفوذ داخل سوريا، مبينا حدود التوافق والاختلاف بين أطراف الصراع، وتأثير ذلك فى الصراع ومحاولات التسوية.
خريطة تقاسم النفوذ:
تشير أحدث خرائط تقاسم النفوذ الداخلي في سوريا، الصادرة عن معهد دراسات الحرب في مارس 2018، إلى أن القوتين المؤثرتين الآن على الساحة السورية، بخلاف نظام بشار الأسد وحلفائه من حزب الله، وإيران، وروسيا، هما :
(*) القوة الأولي، قوات سوريا الديمقراطية الكردية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، والتي باتت تسيطر على مناطق شرق نهر الفرات التي تشكل نحو ثلث مساحة الأراضي السورية. وترجع أهمية هذه المنطقة إلى أنها تضم نحو 90% من إنتاج النفط، إضافة إلى 45% من إنتاج الغاز السوري.
ولم تكتف قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا، بالدفاع عن المناطق ذات الغالبية الكردية، بل بادرت بالهجوم على تنظيم داعش في مدن رئيسية، كما شاركت في الهجوم على دير الزور، وسيطرت على غالبية الجزء الشرقي من المدينة، إضافة إلى محاصرتها مدينة الرقة، معقل التنظيم، وأخرجته منها، كما حاولت الوصول إلى البوكمال، إلا أن النظام السوري حسم المعركة مبكراً لصالحه.
أما القوة الأخرى، فتتمثل في هيئة تحرير الشام - جبهة النصرة سابقا - والتي لا تزال تسيطر على 60% من مدينة إدلب في الشمال السوري، وتمكنت من عقد تفاهمات مع بعض القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا لتجنب الصدام معها، كما أنها لا تزال تستفيد من شبكة التمويل المعقدة للتنظيمات المرتبطة بتنظيم القاعدة، مما أتاح لها القدرة على الاستمرار والتسلح.
أضف لذلك، فقد تمكنت هيئة تحرير الشام من استغلال المخاوف التركية من القوة الكردية المتنامية في الشمال السوري وعقدت ما يشبه التفاهم مع تركيا، بحيث سمحت لقوات الاستطلاع التركية باستغلال المناطق الواقعة تحت نفوذها لمراقبة التحركات وأماكن الوجود الكردية، مقابل عدم التضييق على الهيئة أو تحدي سيطرتها على إدلب ومحيطها.
تنافس إقليمي– دولي:
اشتد التنافس بين القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة وروسيا وحلفائها على مناطق تقاسم النفوذ ذات الأهمية الجيوستراتيجية، حيث عمل الجيش الأمريكي على إنشاء عدد من القواعد العسكرية، خاصة في مدينة عين العرب كوباني، والتي بات يسيطر عليها حلفاء واشنطن، فيما حاولت روسيا وحلفاؤها تقاسم هذه النفوذ من خلال محاولات للسيطرة على شركات النفط وخطوط إنتاجها، وفيما يلي محاور تقاسم النفوذ داخل سوريا.
(*) المحور الأول- نظام الأسد وحلفاؤه( إيران، وحزب الله، وروسيا): فمع سيطرة قوات النظام السوري إلى جانب روسيا على الغوطة، يكون هذا المحور قد سيطر على نصف مساحة سوريا، وأكثر من 65% من السوريين الباقين في البلاد وشرايين الطرق الرئيسية والمدن الكبرى بعد استعادة شرق حلب نهاية 2016، ووسط حمص في 2014، إضافة إلى مدينتَي حماة وتدمر وسط البلاد، ودير الزور على نهر الفرات. لكن الأهم هو تأسيس قاعدتين عسكريتين روسيتين، ونشر منظومة صواريخ إس - 400، وتجريب نحو 200 سلاح جديد. وفي الوسط السوري، بقي ريف حمص تحت سيطرة فصائل معارضة، ويخضع لاتفاق خفض التصعيد برعاية روسية، وسط أسئلة عن مستقبله مقابل وجود تصميم روسي على السيطرة على شرايين الطرق الرئيسية.
وظهر هذا التصميم من خلال محاولات روسيا وحلفائها في تقاسم نفوذ الولايات المتحدة داخل سوريا عبر السيطرة على شركات النفط وخطوط إنتاجها، حيث قصف الطيران الروسي مواقع تابعة لقوات سوريا الديمقراطية، كما هاجم عدد من قوات مجموعة فاجنر الموالية لروسيا حقل كونوكو الذي يعد أكبر حقل نفطي لحلفاء واشنطن، وهو ردت عليه الأخيرة بقصف مضاد، الأمر الذي يشير إلى استمرار واشنطن للدفاع عن مناطق نفوذ حلفائها شرق نهر الفرات .
(*) المحور الثاني- الولايات المتحدة وحلفاؤها من قوى المعارضة، ويتضمن الوجود الأمريكي في سوريا، أربع مناطق أساسية، وهي: المنطقة الأولي في شرق الفرات، وذلك وفقا للاستراتيجية الأمريكية التي أعلنها وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون بالبقاء إلى أجل غير مسمى بهذه المنطقة لتحقيق عدد من المصالح، منها منع عودة ظهور مقاتلي تنظيم داعش، وتقليص النفوذ الإيراني، وقطع التواصل بين إيران وحزب الله عبر الحدود السورية - العراقية، والضغط على موسكو ودمشق وطهران لتحقيق انتقال سياسي في سوريا، وعودة اللاجئين والنازحين، ومنع استخدام السلاح الكيماوي.
أما المنطقة الثانية، فهي محافظة دير الزور التي تحتوي على أكبر الحقول النفطية في سوريا، كما تمتلك شركة كونوكو الأمريكية خطين لإنتاج الغاز من حقلي كونوكو والعمر، وتدر هذه الحقول يومياً 145 مليون قدم لمحطة جندر للكهرباء لإنتاج 400 ميجاواط، أي ما يعادل 40% من الكهرباء المنتجة من الشبكة السورية.
وتقع المنطقة الثالثة شرقي حلب في الشمال السوري، حيث أكدت واشنطن التزامها مع حلفائها – قوات سوريا الديمقراطية- بإرسال مسئولين عسكريين إلى منبج شمال شرقي حلب، في إشارة منها لمنع تقدم للجيش التركي، وسط استمرار المفاوضات بين أنقرة وواشنطن للوصول إلى ترتيبات حول منبج التي تضم دوريات عسكرية أمريكية تفصل المقاتلين الأكراد عن حلفاء تركيا، كما تضم مركزاً عسكرياً روسياً في ريفها يفصل الأكراد عن قوات الحكومة السورية.
وتتركز المنطقة الرابعة في جنوب سوريا، والتي تخضع لاعتبارات أخرى، أهمها اتفاق هامبورج بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب الذي أكد عدم وجود قوات غير سورية في مناطق هدنة الجنوب في درعا والقنيطرة والسويداء، مما يعني استبعاد التنظيمات التي تدعمها إيران، خاصة حزب الله عن حدود الأردن وخط فك الاشتباك في الجولان المحتل، كما تضمن الاتفاق تأسيس مركز رقابة في عمان لتنفيذ الاتفاق واحتفاظ المعارضة بسلاحها الثقيل والخفيف، وتحديد خطوط القتال، وبدء تبادل تجاري مع مناطق النظام السوري، وتشكيل مجلس محلي معارض، فضلا عن احتمال عودة اللاجئين من الأردن أو نازحين قرب الحدود.
ووافق الطرفان على الاتفاق الذي أدى، بالنسبة للولايات المتحدة، إلى القضاء النهائي على وجود القوات والمقاتلين الأجانب من المنطقة لضمان سلام أكثر استدامة. أما بالنسبة إلى روسيا، فمثل هذا الاتفاق يقضي نهائياً على وجود جبهة النصرة وجيش خالد التابع لتنظيم "داعش" جنوب سوريا.
وقد لا يعني كثيرا ما يحدث في دوما للولايات المتحدة، حيث تبعد عن المناطق التى لديها مصالح مباشرة فيها، وهى الشرق السوري، أي ما يطلق عليه "سوريا المفيدة"، حيث مناطق البترول وأنابيب الغاز، والجنوب السوري لحسابات أمنية خاصة بحلفائهم (إسرائيل والأردن).
يأتي تهديد الولايات المتحدة بالرد على قصف قوات النظام السوري، بالتزامن مع الحديث حول حشد للجيش السوري باتجاه الجنوب تحديدا مدينة "درعا"، وبالتالي فإن أي ضربة أمريكية حاليا للجيش السوري لن يكون هدفها إنقاذ دوما، بقدر ما تستهدف إعاقة تقدم الجيش السوري باتجاه الجنوب ودرعا تحديدا.
(*) المحور الثالث- تركيا وحلفاؤها، حيث تطمح تركيا لتأسيس جيب يمنع التواصل بين إقليمين كرديين شرق نهر الفرات وإقليم عفرين، وكان طموحها بأن يكون مساحة هذا الجيب 5 آلاف كيلومتر مربع، إلا أن موسكو لم تسمح لها إلا بنحو 2100 كيلومتر مربع. وبالرغم من هذا الاختلاف، فقد أعطت موسكو ضوءًا أخضر للمرة الثانية لتركيا بشن عملية عسكرية شمال تركيا حملت اسم غصن الزيتون للوصول إلى مدينة عفرين بهدف منع وصول الأكراد إلى البحر المتوسط. وسيطر بالفعل الجيش التركي على عفرين، بالتزامن مع دخول قوات الحكومة السورية إلى جنوب غوطة دمشق. وتستهدف تركيا السيطرة على تل رفعت المحاطة بالجيش الروسي وقوات دمشق، وتجري مفاوضات للاتفاق على ترتيبات الانتشار التركي بالتزامن مع قيام دورية تركية باستطلاع شمال حماة وجنوب إدلب بعمق 200 كيلومتر من حدود تركيا.
ويعد تدخل تركيا وانتزاعها لعفرين من أيدي الأكراد ضمن إطار التفاهمات الروسية – التركية، ويندرج في إطار هدف آخر للمنطقة العازلة المطلوبة تركياً، وهو إبعاد الأكراد عن الحدود التركية بالتوازي مع التفاهمات بين اللاعبين الخارجيين والمقايضات بين الأراضي السورية.
كما أن هناك اتفاقا في الخطاب الرسمي لدمشق، وموسكو، وأنقرة، وطهران، وواشنطن، على الرغبة في وحدة الأراضي والسيادة السورية أي أن العملية السياسية سوف تكون بقيادة سوريا مع فرض القوي الدولية تفاهمات على السوريين، حكومة ومعارضة.
فيما تسيطر هيئة تحرير الشام على مفاصل المنطقة الأكثر حيوية لإدلب، حيث تسيطر على الشريط الحدودي ومعبر باب الهوى، بالإضافة إلى مدينة إدلب، مركز المحافظة، وتتحكم في الحواجز الحدودية مع تركيا التي تتدفق البضائع والسلع عبرها من وإلى إدلب، وتؤمِّن تمويلها من خلالها، بينما تنتشر فصائل أخرى إسلامية منافسة لها في مناطق أخرى.
وأرجع تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، في فبراير2018 ، قوة الهيئة إلى تكوين مصدر للدخل والتوظيف من خلال سيطرتها على الشريط الحدودي مع تركيا، فيما تمكنت قوات الحكومة السورية مؤخراً من استعادة السيطرة على مطار أبو الضهور العسكري، وعشرات القرى والبلدات في ريف إدلب الجنوبي الغربي شمال حماة، ويرتبط مصير إدلب بقدرة تركيا على توسيع نفوذها شمال غرب سوريا، وتقليص نفوذ هيئة تحرير الشام الأقوى ميدانياً، وتؤيد تركيا وجود منطقة عازلة قرب أراضيها، لمنع استقبال نازحين جدد، نتيجة أي هجوم محتمل للنظام السوري على إدلب المكتظة سكانياً.
ومع بدايات 2018، تشكل تحالف جديد تحت مسمى جبهة تحرير سوريا، ضم كل من حركة أحرار الشام الإسلامية وحركة نور الدين الزنكي. وشن هذا التحالف المدعوم من تركيا هجوماً على مواقع تابعة لهيئة تحرير الشام وتمكّن من طردها من عدد من المناطق، أبرزها مدينتا أريحا ومعرة النعمان. لكن يبدو إلحاق الهزيمة بهيئة تحرير الشام دون مشاركة تركيا مباشرة إلى جانب الفصائل المعارضة في إدلب أمراً صعباً، وبالتالي، فإن حسم مصير إدلب قد يمر بقتال داخلي جديد.
فى الأخير، إن هناك رغبة لدى النظام السوري وحليفه الروسي في خوض معركة تحرير لسوريا من كافة الجماعات الإرهابية، فيما تطالب روسيا الولايات المتحدة وتركيا بضرورة التنسيق مع الحكومة الشرعية في دمشق، حيث تشارك النظام اعتبار التدخل الأمريكي والتركي غير شرعي، وسيكون هذا جزءاً أساسياً من الخطاب السياسي الصادر من قبل النظام السوري، إلا أنه عملياً يبدو أن مناطق النفوذ الجغرافي في سوريا باتت ترسم بالدم والسلاح وتفاقمات القوى الإقليمية والدولية، وتشمل سيطرة الحكومة على نصف مساحة البلاد، بينما يهيمن حلفاء الولايات المتحدة على ثلثها، فضلا عن تقاسم المعارضة وتركيا الـ 20% المتبقية من هذه المساحة.