تابعنا فى الحلقة الماضية كيف أن رياح التغيير فى إيران بدأت نسائمها تهب مع ظهور المرشح للرئاسة الأمريكية جيمى كارتر قبل –حتى- أن يصل الى سدة الحكم .. وكيف رسم مستشاره للأمن القومى، بريجنسكى، خطوط التغيير، والتى تمحورت حول تصعيد رجال الدين ودعمهم حتى ينجحوا فى قلب نظام الشاه والاستيلاء على الحكم .. سنتابع فى هذه الحلقة كيف بدأت الولايات المتحدة فى تحضير البديل لنظام الشاه وكيف بدأت إعادة ترتيب أوراق المنطقة .. ومن خلال المتابعة قد تجدون أنفسكم تلقائيا تعقدون مقارنة بين ماضى المنطقة وحاضرها وتستنتجوا تطابقا كبيرا بينهما.. فماذا حدث؟
لقد بنت المخابرات المركزية الأمريكية قرارها بإسقاط نظام الشاه على عدة عوامل واسباب يرجع أولها إلى حياة الشاه التى بدأت فى العد التنازلى، لا لانه قد تعدى او قارب النصف الثانى من العقد السادس من عمره، فقد عمر غيره زمنا قارب الثمانين عاما، وهو على رأس السلطة فى بلاده، مكتمل القوة بالغ التأثير فى السياسة العالمية ..
لكن الأمر كان أهم من ذلك، إذ يكمن وراءه سر لم يعرفه سوى عدد قليل جدا من كبار الأطباء والإخصائيين فى الولايات المتحدة، وهو أن شاه إيران قد عولج فى عام 1974 فى أحد مستشفيات الولايات المتحدة من المرض الخبيث الخطير (السرطان).
ومن المؤكد أن هؤلاء الأطباء، وحتى الشاه نفسه، قد باتوا على يقين من أنه، وقد تسرب السرطان الى جسم الشاه، فإن الأمر قد أصبح واضحا أنه إذا استطاع الشاه أن يقاوم المرض بعض الوقت، مستفيدا من التقدم الطبى الحديث والإمكانيات المتاحة له، وبسبب معنوياته التى بلغت أوجهها، بعد أن تدفقت أنهار الثروة البترولية عليه، وأصبحت إيران التى تعد رابع دولة منتجة للبترول فى العالم وثانى دولة مصدرة له، أحد أعضاء الأوبك المؤثرين فى سياسة الطاقة فى العالم، وباتت هذه الثروة تلهب طموح الشاه وآماله فى أن تقفز إيران عبر سنوات قليلة إلى ما يسميه الشاه "بعصر الحضارة الكبرى"، إلا أن تلك المؤثرات الإيجابية كلها كانت ستظل محدودة الأثر أمام خطورة المرض الخبيث، الأمر الذى جعل أنه لا مناص من التفكير الجدى فى إيران ما بعد الشاه، وهذا النوع من التفكير لم يجل بخاطر المخابرات الأمريكية فحسب، وإنما شغل اهتمام الشاه نفسه وسيطر عليه إلى الحد الذى جعله يتخذ قرارا دستوريا مهما، وهو أن تتولى زوجته الشهبانو فرح الوصاية على ولى العهد أو بمعنى آخر على عرش إيران، بحيث تتولى هى زمام الحكم إذا ما أصيب الشاه بعجز جزئى أو كلى يقعده عن ممارسة السلطة، أو إذا خلا العرش بموته ..
ومن هنا بدأت الشهبانو فرح تمارس دورا نشطا وإيجابيا فى إدارة دفة الحكم بالبلاد، وأصبحت شئون الدولة يعرضها عليها رئيس الوزراء، وتنزل كل يوم إلى مكتبها، سواء فى القصر أم فى قلب العاصمة، لتستقبل القيادات السياسية، كما أصبحت تقوم بجولات متتابعة فى أنحاء إيران لزيارة القرى، وتفقد المشروعات الصناعية والعمرانية وغيرها ..
وعلى الجانب الأمريكى فقد أضفت الأحداث إلى جانب هذا السبب أسبابا أخرى أبرزته ودعمته، وفى مقدمة هذه الأحداث التحول المفاجئ الذى وقع فى أقدم وأعرق نظام ملكى قام على سلطة الفرد المطلقة، ألا وهو حكم الإمبراطور العجوز هيلاسلاسى إمبراطور الحبشة، الذى أطاح به انقلاب عسكرى وضع حدا لوريث حكم النجاشى فى هذه المنطقة من العالم ..
هذا الانقلاب الذى أحدث تطورا جذريا فى السياسة الإثيوبية، وفى الوضع الدولى للحبشة، حيث انتقل الحكم فيها آنذاك من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أحضان الكنيسة إلى أحضان الشيوعية الملحدة، ومن النفوذ الأمريكى إلى النفوذ السوفيتى، وأصبحت أكبر قاعدة أمريكية للاتصالات اللاسلكية فى العالم والموجودة فى أسمرة فى أيدى عملاء موسكو، الأمر الذى كان يوجب –بداهة- على مخططى السياسة والاستراتيجية فى الولايات المتحدة أن ينظروا بعمق فى إعادة ترتيب الأوراق والتأكد من ثبات أقدامهم فى مناطق أخرى من العالم، لها نفس أهمية وحساسية الحبشة بالنسبة للمصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط ..
وكان طبيعيا أن تأتى إيران فى المقدمة باعتبارها إحدى المناطق الاستراتيجية العازلة بين الشرق والغرب، وأحد خطوط الغرب الدفاعية المتقدمة فى مواجهة الاتحاد السوفيتى، كما أنها تعتبر الحارس اليقظ والقوى لمعابر البترول، شريان الحياة للحضارة الغربية، بالإضافة إلى أنها رجل الشرطة الموكول إليه أمر الاستقرار فى هذه المنطقة الحساسة من العالم ..
وقد كان من الممكن أن تكون الخطوة الدستورية التى اتخذها الشاه بتعيين الشهبانو فرح وصية على عرش البلاد كافية لإدخال الطمأنينة على نفس مخططى السياسة الأمريكية، لأنها تشكل عنصر استمرار النظام الامبراطورى وتبقى على نظام الحكم فى إيران فى قبضة الولايات المتحدة، بحيث لا تفاجأ فى طهران بمثل ما فوجئت به فى أديس أبابا، إلا أن الأقدار شاءت أن تقدم من الأمثلة ما يؤكد مخاوف الولايات المتحدة على مصالحها فى إيران، ويعمق اقتناعها بأن التغيير فى نظام الحكم قد بات أمرا لا مفر منه ..
والمثال هذه المرة يأتى من الأرجنتين، حيث كانت تجربة تولى إمرأة للسلطة فى البلاد بعد زعيم قوى وتاريخى، تجربة لها محصلة سلبية ونتائج مخيبة للآمال. فقد عجزت إيزابيلا، زوجة الرئيس بيرون زعيم الأرجنتين، الذى عاد من منفاه الطويل محمولا على أعناق وأكف الجماهير الأرجنتينية، عن مواجهة المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية المعقدة بعد وفاة زوجها بالصورة التى لم تملك إزاءها إلا الفرار بعد الفشل الذريع فى التعامل مع هذه المشاكل والميراث السياسى الثقيل ..
ولم يكن بوسع مخططى السياسة الأمريكية تجاهل هذا المثال الصارخ فى الارجنتين والذى أفزعهم، ولهذا لم يكن من شأن قرار الشاه تعيين الشهبانو فرح وصية على العرش، أن يغير تفكيرهم فى ضرورة تغيير النظام الملكى فى إيران، لاسيما أن ملفات المخابرات المركزية الأمريكية تسعفهم بالأمثلة التى استطاع بها الجهاز ومن وراؤه الحكومة أن يركب موجة الأحداث قبل أن تغمر أمريكا وتطويها، فقد نجحت المخابرات الأمريكية فى أن تسبق الأحداث فى باكستان بالقيام بانقلاب عسكرى، وجاءت بأحد جنرالات الجيش الباكستانى وهو الجنرال أيوب خان على رأس الحكم فى البلاد لتغيير مسار الأحداث لمصلحتها، ولكى تمتص نقمة الجماهير الغاضبة والمطحونة، التى يخطف بريق الثورة، حتى لو كانت مفتعلة، أبصارها، فلا تلبث أن تهدأ وتستكين وقتا، تستطيع فيه السياسة الأمريكية أن تستعيد توازنها وتعيد ترتيب أوراقها من جديد ..
ونفس الشئ حدث فى اندونيسيا حين استطاعت المخابرات الأمريكية أن تقوم هناك كذلك ولنفس الأسباب، بانقلاب صورى بعد أن خشت من سيطرة الشيوعيين على الحكم فى البلاد، فأتت كذلك بأحد جنرالات الجيش، وهو الجنرال سوهارتو وكذلك مثال ثالث فى شيلى حين دبرت انقلابا أدى الى مقتل الرئيس الشيلى سلفادور الليندى الذى كان متهما بأنه شيوعى ومعادى لمصالح الولايات المتحدة ..
بل إن تجربة المخابرات الامريكية فى إيران ذاتها كانت خير مشجع لها فى المضى قدما فى مخططها، حين نجحت فى تحطيم الدكتور مصدق عندما عهدت الى كيرميت روزفلت الذى دخل الى إيران من نقطة حدودها مع العراق عند قصر شيرين ليقوم بأحداث الانقلاب ضد مصدق ويأتى بالجنرال فضل الله زاهدى رئيسا للوزراء، والذى القى القبض على مصدق وأعوانه وأعاد الشاه محمد رضا بهلوى الى عرشه بعد أن خشيت الولايات المتحدة من ركوب الشيوعيين لموجة الحماس الوطنى التى خلقها مصدق، ثم يستولون على الحكم ..
طبيعى أن كل تلك التجارب والخبرات كانت لابد أن تنتهى بالمخابرات الأمريكية الى النتيجة التى اقتنعت بها، والقرار النهائى الذى توصلت إليه، وهو ضرورة تغيير نظام الحكم فى إيران، ووضع حد لحكم أسرة دام خمسين عاما، كرست جانبا مهما منه فى عهد الشاه محمد رضا بهلوى كحليف مخلص للولايات المتحدة، وكخادم أمين لها، حتى رأت أنها ورقة قد استهلكت وأن طموحات الشاه الوطنية، يمكن أن تأتى بعكس المطلوب منها ... وللحديث بقية .