في إبريل الماضي أطلق البنك المركزي المصري مبادرة هي، في رأيي، الأهم والأكبر في تاريخ هذه المؤسسة العريقة، وأقصد بذلك مبادرة الشمول المالي. ولمن لم يحظ بمتابعة هذه المبادرة فالشمول المالي هو سعي المؤسسات المصرفية والمالية لنشر الخدمات المالية والمصرفية على أوسع نطاق، أي دخول أكبر عدد من المواطنين في النظام المصرفي، وتمتعهم بالخدمات المالية والمصرفية المتنوعة التي تقدمها هذه المؤسسات. ولابد هنا من التنبيه إلى أن هذه المبادرة لم تأت من فراغ، بل هي محور من المحاور الهامة لعملية الإصلاح الاقتصادي الذي تخوضه الدولة المصرية. فإذا عرفنا أنه في عام ٢٠١٤ كان ١٤٪ فقط من المواطنين المصريين يملكون حسابات بنكية، فلنا أن نتصور قدر الخلل الذي قد تتسبب فيه هذه النسبة الضئيلة جدا من تعويق عملية الإصلاح الاقتصادي، فثمة ارتباط حقيقي بين الإصلاح الاقتصادي من جهة وتمثيل هذا الإصلاح في القطاع المصرفي والمالي. فكلما زاد تمثيل هذا الإصلاح في القطاعات المصرفية والمالية، كلما انتشرت آثاره وشعر به المواطن في أرجاء البلاد. ولهذا كان تدشين هذه المبادرة تدليلاً على جدية صناع السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية في مصر في خلق مسار إصلاح اقتصادي حقيقي، وأنه لن يكون إصلاح مؤشرات فحسب (كما كان في الماضي)، بل سيكون إصلاحاً عاماً وشاملاً وحقيقياً.
لقد نجح طارق عامر محافظ البنك المركزي في خوض مرحلة من أصعب مراحل الإصلاح الاقتصادي، وأدار فيها الدفة بنجاح بتنسيق متميز مع السلطة السياسية، فكان استحقاقه لجائزة ولقب أفضل محافظ بنك مركزي في المنطقة. كذلك ازدادت في عهده نسبة المصريين المالكين لحسابات بنكية لتصعد من ١٤٪ إلى ٣٢٪ في العام ٢٠١٧. ولكن مازال هناك الكثير للقيام به من أجل تحسين هذه النسب، خاصة أن نسبة كبيرة من الحسابات الحالية تقع تحت تصنيف الحسابات الخاملة underbanked أو قليلة الاستخدام للخدمات المصرفية والبنكية المتاحة.
وهذا يجرنا للحديث عن الاسم الآخر في عنوان هذا المقال وهو ريتشارد ثيلر صاحب جائزة نوبل التذكارية في الاقتصاد للعام ٢٠١٧. ولعلها من قبيل الصدفة الحسنة أن يحصل هذا الاقتصادي الكبير على نوبل كي نلتفت إليه وإلى ما يمثله من أفكار في مجال الاقتصاد والمالية. فعالم الاقتصاد الأمريكي ريتشارد ثيلر أُشتهر بأنه أبو الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics، وهذا الفرع من الدرس الاقتصادي هو ما أود أن ألفت النظر إليه هنا. فإذا ما حاولنا إيجاز الطرح الأساسي لهذا الفرع من الاقتصاد، فيمكننا القول إنه الاقتصاد الذي يهتم بالفرد وميوله وأذواقه، ونوازعه النفسية، ورغباته، وبيئته الاجتماعية، وأثر كل ما سبق في سلوكه وقرارته الاقتصادية والمالية. ومن الجدير بالذكر أن مجال الشمول المالي هو من أكثر المجالات التي استفادت من النجاحات الكبيرة التي حققها الاقتصاد السلوكي. وإذا ما اخذنا في الاعتبار طبائع الشعب المصري، وسطوة التدين الشكلي المنغلق والأعراف والتقاليد المتوارثة، وارتفاع نسبة الأمية (ما يقرب من ٣٠٪) وتباين التوجهات السكانية إزاء الخدمات البنكية والمالية وفقًا للنمط الاقتصادي السائد جغرافياً (فعلى سبيل المثال سنجد أن توجهات سكان المحافظات التي تعتمد على السياحة تختلف عن توجهات سكان المحافظات التي يسود فيها نمط الحياة الزراعية الفلاحية أو المحافظات التي ينتشر بها نمط الأعمال الخدمية!)، سنكتشف أن هناك احتياجًا ماسًا لمعرفة كيف يفكر المواطن المصري اقتصاديًا وماليًا، وكيف يمكن تصميم الحملات الداعية للشمول المالي - وبالتبعية الخدمات المتعلقة بهذا الشمول - وفقًا للجغرافيا، والكثافات السكانية، والنمط الاقتصادي السائد، ومستوى التعليم، والنوع (نسبة مشاركة المرأة في الاقتصاد في الأماكن المستهدفة بالحملات مثلاً) وغيرها من الإجراءات الضرورية لنجاح هذه المبادرة.
لقد مر المواطن المصري خلال السنوات السبع الماضية باضطرابات عنيفة جعلت ثقته في مؤسسات الدولة في حال من التذبذب، وأورثته نظرة تشاؤمية عززها تراجع الاقتصاد، وارتباك بعض مؤسسات الدولة وتقاعسها عن أداء مهامها الأساسية، فكان لذلك انعكاسه السلبي على نظرة المواطن المصري إلى مؤسسات الدولة الاقتصادية والمالية بالتبعية. وإذا ما أضفنا تكالب جميع هذه الظروف على نظرة المواطن للمستقبل، وزيادة مشاعر الخوف وعدم اليقين من القادم، فلنا أن نتخيل أهمية دراسة التوجهات النفسية والسلوكية للمواطن المصري، ليس بصفته مواطنًا فحسب ولكن، وهو الأهم، بصفته عميلاً محتملاً لجميع المؤسسات المالية داخل مصر. لهذا لابد من اغتنام الفرصة التي وفرتها مبادرة الشمول المالي، مع الاستعانة بمبادئ وإجراءات الاقتصاد والتمويل السلوكي، للقيام بإحصاءات ودراسات قطاعية جديدة وصفية واستدلالية وتنبؤية تتسم بالعمق والتوسع، كي تتوفر لدى القائمين على هذه المبادرة وغيرها من المبادرات المستقبلية البيانات والمعطيات التي توفر لصانع السياسات العامة في مصر أرضًا صلبة، وثقة في القرارات التي سيتخذها.
إن الأهمية التي يمثلها الشمول المالي في مسار التنمية الاقتصادية كبيرة ومحورية بلا أدنى ريب، وإذا أضفنا إلى ذلك تعقد النسيج السلوكي والنفسي للمجتمع المصري من وجهة النظر الاقتصادية والمالية، سندرك أن تبني السيد طارق عامر محافظ البنك المركزي لاستراتيجية مبنية على فهم ودراسة سلوك المواطن المصري المالي ستكون خطوة غاية في الأهمية. ولعل الاستئناس بنجاحات الشمول المالي الرقمي في دول مثل كينيا ورواندا والهند، التي نجحت في نشر الخدمات المالية والمصرفية في المناطق الصحراوية والفلاحية النائية بصورة غير مسبوقة، سيكون خطوة على الطريق الصحيح. كذلك فإن تشكيل فرق عمل بحثية تدرس الاقتصاد والتمويل السلوكي دراسة مكثفة وتطبيقية في المعاهد والمؤسسات العلمية الراقية في الداخل والخارج (خاصة المملكة المتحدة)، وتأسيس جائزة متميزة لأفضل دراسة أو تطبيق رقمي يهدف إلى تعزيز الشمول المالي في مصر، كل ذلك سيجعل من مبادرة الشمول المالي مبادرة استثنائية رائدة وتأسيسية في تاريخ العمل المؤسساتي المالي في مصر والمنطقة. نحن أمام فرصة سانحة قد تجعل من مصر ومؤسستها المالية الأهم قصة نجاح رائدة يتحدث عنها العالم .. فلنغتنمها!