بعد ما تعرضت استراتيجية "الاستحواذ الجغرافي" للجماعات الإرهابية إلى انحسار نسبي، إثر الضغوط العسكرية الإقليمية والدولية في منطقة الساحل الإفريقي، بدت هنالك تحولات لافتة نحو العودة إلى تكتيك "الإرهاب الجوال"،الذي يستهدف نشر هجماته على نطاق جغرافي أوسع، بما يصعب على قوى الأمن مواجهته. تجلى ذلك التكتيك في نمط الهجمات الإرهابية، خلال الآونة الأخيرة في مناطق، مثل شمال مالي، وشمال شرقي نيجيريا، وشرقي ليبيا، لاسيما أن المفارقة المشتركة بين تلك المناطق أن السلطات الأمنية أعلنت فيها إما هزيمة أو انحسار السيطرة الميدانية للجماعات الإرهابية.
ينطوي الملمح الأول لتكتيك "الإرهاب الجوال" على مهاجمة الأهداف، والاختفاء سريعا، دون الاستحواذ الجغرافي، أو حتى السيطرة الميدانية على منطقة بعينها، قد تكون هدفا مباشرا لضربات قوات الأمن. وتهدف جماعات الإرهاب من وراء ذلك التكتيك إلى مفاجأة، وإرهاق تلك القوات وإحداث خسائر مرتفعة، ثم الفرار إلى أماكن اختباء مختلفة ومتعددة، دون التمكن من رصد عناصرها.
فمثلا، لم يمنع الانحسار الجغرافي لـ "بوكو حرام"، وإعلان حكومة الرئيس محمد بخارى هزيمتها أكثر من مرة، بل ودخول معقلها الأساسي، خاصة غابة سامبيسا، من أن تعاود تلك الجماعة ممارسة الضربات الإرهابية بشكل منتظم في الأشهر الأخيرة. إذ شهدت مدينة ميدجوري ( شمال شرقي نيجيريا)خلال شهري يناير وفبراير 2018 هجمات متعددة لـ"بوكو حرام" تجاه معسكرات للنازحين، أو المساجد أو مدارس للفتيات. بالمثل، أيضا، أعلن تنظيم "داعش" في الصحراء الكبرى، الذي يقوده عدنان أبو الوليد الصحراوي، خلال شهر يناير 2018 ، مسئوليته عن هجوم انتحاري ضد قوة "برخان" الفرنسية في شرقي البلاد، بخلاف هجمات أخرى على ثكنات الجيش المالي، والتي أخذت طابعا تصعيديا، خلال الأشهر الأخيرة.
لم تسلم ليبيا أيضا من ذلك التكتيك، حيث أعقب الإعلان عن هزيمة التنظيمات الإرهابية في بنغازي شرقي البلاد، بروز النمط الهجمات الخاطفة والمفاجئة، كما الحال في شهري يناير وفبراير 2018، حيث شهدا تفجيرات انتحارية، وبسيارات مفخخة بالمدينة استهدفت مساجد ومدنيين، وطرحا تساؤلات حول ما إذا كانت هنالك مجموعات صغيرة متبقية في المدينة باتت لديها القدرة على لارهاق الجيش الوطني أم لا.
أما الملمح الآخر لتكتيك الإرهاب الجوال، فيتعلق بممارسة استعراض للقوة العابرة للحدود، عبر توسيع جماعات الإرهاب لنطاق هجماتها، بحيث لا تقتصر على المناطق العاملة فيها بالأساس، وذلك إما لتأمين أو استجلاب الدعم من جماعات إرهابية في دول أخرى. فعلى سبيل المثال، عاودت "بوكو حرام" في شهر يناير 2018 اختراق الحدود لتهاجم منطقة ديفا، جنوب شرق النيجر، حيث قتلت خمسة جنود بالمنطقة، وسرقت أغذية، وماشية من السكان المحليين. كذلك أيضا، تبنى تنظيم "داعش الصحراء الكبرى"، الذي أعلن ولاءه لتنظيم "داعش" في عام 2015، هجوما آخر لقوة خاصة أمريكية في شمال النيجر يعود تاريخه إلى شهر أكتوبر الماضي، مما مثل نوعا من تكريس للتفاعل الإرهابي العابر للحدود في المناطق الحدودية المشتركة بين مالي والنيجر، وبوركينا فاسو.
سياقات مفسرة
بقدر ما يعكس تكتيك الإرهاب الجوال تكيفا ميدانيا لجماعات الإرهاب، وسقوطا لرمزية تجربة التوطن الداعشي في سوريا والعراق إبان محاولة تأسيس دولته المزعومة، ومد ولاياتها إلى إفريقيا وآسيا، فإنه يشي بتداخل الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي مع ظواهر الجريمة المنظمة، والعوامل القبلية، حيث يصعب عمليا ممارسة ذلك التكتيك الإرهابي، دون ظهير اجتماعي يوفر الملاذات الجغرافية المتحركة عقب الهجمات الخاطفة.
الأهم من هذا وذاك نشوء تقاربات بين جماعات إرهابية مختلفة المشارب والانتماءات الداعشية والقاعدية. فبينما فشلت الأولى في منطق التوطن الجغرافي، فإن الثانية تمارس خبرة الإرهاب الجوال منذ عقود بالمنطقة، دون إعلان خلافة إسلامية على جغرافيا بعينها، كما حال تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي. وبرغم الخلافات الأيديولوجية بين تلك الجماعات، فإنها تقاربت على خلفية وجود عدو مشترك، من جهة، وتوظيف التشابكات العابرة للحدود لتغذية بعضها بعضا سواء، عبر عناصر التجنيد أو التمويل أو التدريب، من جهة أخرى.
يجد ذلك التقارب الداعشي – القاعدي في الساحل الإفريقي تجليا في إعلان تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى" خلال شهر يناير2018 أنه سيتعاون مع هذا التحالف القاعدي الذي يقوده إياد أغ غالي ضد من سماهم ـ"الكفار". كما يمكن فهمه بأنه استجابة لتلك التنظيمات لرص صفوفها في مواجهة تنامي التحركات العسكرية الدولية المتنامية في الساحل الإفريقي لمكافحة الإرهاب، خاصة في ضوء تسارع وتيرة إنفاذ قوة دول الساحل الإفريقي الخمس ( موريتانيا، والنيجر، ومالي، وتشاد، وبوركينا فاسو)، مع اجتماع باريس في ديسمبر الماضي، حيث يفترض أن تكون تلك القوة جاهزة بكامل طاقتها في مارس القادم.
أضف لذلك أن ثمة تنافسا دوليا عسكريا للوجود في الساحل الإفريقي، سواء من الولايات المتحدة عبر قاعدة أغاديز في شمال النيجر، أو إعلان ايطاليا ارسال قوة عسكرية إلى النيجر، أو حتى ألمانيا وبريطانيا اللتين تسعيان للوجود، سواء في النيجر أو مالي عبر الدعم اللوجيستي العسكري، في ظل ترابط مكافحة تهديد الإرهاب مع الهجرة غير الشرعية القادمة من إفريقيا إلى أوروبا.
على الجانب الآخر، تستغل جماعات الإرهاب الطبيعة الرخوة والمتداخلة قبليا للحدود في الساحل الإفريقي لتفعيل الإرهاب الجوال. فمثلا، فإن جماعة كـ" بوكو حرام" تعتمد غالبية أعضائها على قبيلة الكانوري التي تمتد عبر الحدود إلى النيجر وتشاد والكاميرون، وكذلك، الأمر بالنسبة لجماعات جهادية ذات أبعاد قبلية، مثل أنصار الدين الطوارقية في شمال مالي، والتي لها تواصلات مع جنوب ليبيا، وشمال النيجر وبوركينا فاسو.
مثل هذا التشابك انعكس في توسيع الجماعات الإرهابية في شمال مالي لنطاق هجماتها العابرة للحدود لتشمل بوركينا فاسو والنيجر، خلال عامي 2016 و2017، خاصة أنها دعمت قوتها عبر ما يسمى بتحالف "نصرة الإسلام والمسلمين"، والذي شكله الزعيم الطوارقي إياد أغ غالي في مارس 2017 من أربع جماعات إرهابية في الساحل الإفريقي تدين بالولاء لتنظيم القاعدة، وهي: إمارة منطقة الصحراء الكبرى، وتنظيم المرابطين، وجماعة أنصار الدين، وجبهة تحرير ماسينا.
معضلة التشتيت لا الإجهاز
بيد أن تكيف جماعات الإرهاب مع السياقات المحيطة عبر التحول نحو نمط الإرهاب الجوال يطرح معضلة مدى فعالية استراتيجية مكافحة الإرهاب إجمالا في الساحل الإفريقي. فبالنظر إلى التدخل الفرنسي عبر عملية "سيرفال" في يناير 2013 لمنع سيطرة تحالف جهادي - طوارقي على شمال مالي، يتضح أنه لم يقدر على منع استمرار الهجمات الإرهابية خلال السنوات الأربع الماضية، والتي أخذت وتيرة متصاعدة في الآونة الأخيرة، سواء ضد القوات الأممية ( مينوسما)، أو قوة "برخان" الفرنسية أو القوات المالية.
صحيح أن التدخل الفرنسي منع بالأساس السيطرة الميدانية للجماعات الإرهابية على شمال مالي في العام 2012، لكنه بالمقابل لم يجهز عليها، بل وأسهم في تشتيتها، حيث لجأت عناصر، سواء من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي أو أنصار الدين أو غيرها، إلى الجبال، خاصة في كيدال شمال مالي. ولذلك، عاد أولئك الإرهابيون مرة أخرى أكثر قوة بهجمات عنيفة جوالة، حتى إن أحد التقارير الغربية يحصي مقتل 133 من جنود حفظ السلام الأمميين في شمال مالي في هجمات للإرهابيين منذ وجود القوة الأممية بالمنطقة في أبريل 2013.
وإن كان ذلك لا ينفي بالمقابل أن الدعم الإقليمي والدولي للحكومة النيجيرية، عبر القوة متعددة الجنسيات، والتي تضم دول بحيرة تشاد ( تشاد، والنيجر، ونيجيريا، وبنين) قد أسهم في تقزيم سيطرة جماعة "بوكو حرام" على مدن عديدة في ولايات بورنو، وأداماوا، ويوبي في شمال شرقي نيجيريا.
تأثيرات ممتدة
يصب تصاعد تكتيك الإرهاب الجوال في اضعاف وإرباك جهود الحكومات وتحالفاتها الإقليمية والدولية لمكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي. فمثلا، أفقدت هجمات "بوكو حرام" المستمرة في شمال شرق نيجيريا اعلانات حكومة الرئيس النيجيري محمد بخاري مصداقيتها حول هزيمة الجماعة. بالمثل أيضا، فإن استمرار الهجمات الإرهابية في شمال مالي وتوسعها للوسط يعيق إنفاذ اتفاق السلام والمصالحة في هذا البلد، والذي وقع في عام 2015.
في الوقت نفسه، تبعث التنظيمات الإرهابية عبر هجماتها الجوالة المتصاعدة برسالة، مفادها أنها لا تزال قوية، وأن الانشقاقات لم تنل من بنيتها التنظيمية. ولعل ذلك برز واضحا في ظهور زعيم "بوكو حرام" أبى بكر شيكاو، في شريط فيديو في مطلع يناير 2018، ليقول إن جماعته لم يلحق بها أذى، بل تضمن الشريط لقطات تظهر فتيات مختطفات من بلدة تشيبوك لا يزلن بحوزة الجماعة منذ أبريل 2014، برغم الإفراج عن بعضهن، في إطار صفقة بين الحكومة والجماعة.
ويعطي ذلك الظهور لشيكاو رصيدا أعلى لدى حركة الإرهاب العالمي، خاصة في إفريقيا، خاصة أن "بوكو حرام" كانت قد تعرضت قبل عامين إلى انشقاق مجموعة بقيادة أبى مصعب البرناوي التي ترفض مهاجمة المدنيين، وتركز أكثر على الأهداف العسكرية، حتى لا يؤثر ذلك فى قدرة الجماعة على تجنيد أعضاء جدد فيها، وفضل "داعش" البرناوي على شيكاو في أغسطس 2016 ليكون حاكما لولاية مزعومة في غرب إفريقيا.
في الأخير، فإن تكتيك الإرهاب الجوال في الساحل الإفريقي يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الجهود العسكرية الإقليمية والدولية ستسهم وحدها في اجتثاث ظاهرة الإرهاب من المنطقة، أم إنها ستشكل محفزا لتكيف الإرهابيين وانتقالهم إلى أطوار وتكتيكات جديدة من العنف؟. فعلى سبيل المثال، شنت نيجيريا خلال شهر يناير 2018عملية عسكرية إقليمية مع النيجر وتشاد والكاميرون تحت اسم "اللكمة العميقة 2"، ضد عناصر "بوكو حرام"، وأسفرت العملية عن استسلام المئات من عناصر الجماعة.
ومع ذلك، ظلت هجمات "بوكو حرام" مستمرة، وسط تبريرات لحكومة الرئيس بخاري بأنها مجرد هجمات منعزلة، وأنه حتى الدول التي تملك أفضل الأجهزة الأمنية، لا يمكنها منع المجرمين من تنفيذ هجمات إرهابية، وهو ما يستدعى بالأساس تركيز الفواعل الإقليمية والدولية، بالتعاون حكومات دول الساحل، على تفكيك الحواضن المحلية، وإزالة المظالم التنموية والمجتمعية التي تحد من ظهور الإرهاب، سواء أكان متوطنا أم متجولا.