كان من نتائج كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال افتتاحه حقل "ظهر" الأسبوع الماضي، عن أن أهمية ترسيم الحدود مع كل من تركيا وقبرص، بدء العمل في حقل ظهر، ليؤكد أن المجال الجيوبوليتيكي في الأمن القومي لا يمكن أن يتجزأ عن الأمن القومي بمفهومه الشامل، فهو يحقق أيضا الأمن الاقتصادي للدولة من منطلق الحرص التام على المصلحة العليا للبلاد، وهذا ما تحقق أيضا خلال ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية بعد ذلك. فالمصلحة الوطنية يجب تحقيقها بالأسلوب الأمثل.
ويعتمد المجال الجيوبوليتيكي فى دراسته على الجغرافيا السياسية (أى دراسة الموقع وما عليه من بشر وموارد طبيعية) حيث إن مفهومها يتضح من العلاقة بين الجغرافيا والسياسة بصفة عامة لتأثير وتأثر كل منهما بالآخر. والجغرافيا السياسية هي العلم الذي يبحث في تأثير الجغرافيا فى السياسة، أي الطريقة التي تؤثر بها المساحة، والتضاريس والمناخ فى أحوال ومصائر وطموحات الدول، وكذا عادات وطبائع وسلوكيات السكان والناس. فبسبب الجغرافيا، كانت أثينا إمبراطورية بحرية، وبسببها أيضا كانت إسبرطة أقرب في طبيعتها إلى القوة البرية، وبسبب الجغرافيا أيضا، تمتعت الجزيرة البريطانية في القرن الثامن عشر بحرية الملاحة في البحار، وبسبب الموقع الجغرافى وبعده النسبى كان سببا فى تحقيق كثير من مخاطر الأمن القومى للولايات المتحدة الأمريكية.
والجغرافيا السياسية ليست هى فقط تأثير الجغرافيا فى السياسة، ولكن أيضا تأثير السياسة على الجغرافيا، أى أنها تأثير متبادل ومترابط ترابطا وثيقا. فهناك الكثير من القرارات السياسية التي غيرت الوجه الجغرافي لمناطق كثيرة بالعالم كشق القنوات الكبرى، وإنشاء الأنفاق الكبيرة عبر الجبال او البحار (النفق البحرى تحت بحر المانش بين إنجلترا وفرنسا)، ومثلا في مصر كان قرار إنشاء قناة السويس سياسياً واقتصاديا وعسكريا ترتب عليه تغير في شكل وتضاريس المكان، وهو الجغرافيا وبالتالى على السياسة، حيث تأكد الصراع السياسى بين الدول الكبرى صاحبة المصالح وكذا بين مصر صاحبة المكان والموقع الاستراتيجى... ولذا فإن طبيعة وخصائص هذا المجال تظهر فى
أنه يعمل على دراسة استغلال وتأثير الحقائق الجغرافية (الموقع-التضاريس-المناخ) لكيان ما من منظور سياسي على مصالح الكيان، مع مراعاة مصالح الكيانات الأخري، المشاركين في الأهداف نفسها، والمتأثرين من الاستغلال السياسي للوضع الجغرافي. وتكمن أهمية هذا المفهوم في عنصرين، أولهما: إن الدراسات الجغرافية ستوضح و تبرز المزايا والعيوب معاً، أو نقاط القوة والضعف، وهي بذلك تضع بدائل للقرار السياسى لقيادة هذا الكيان مبكراً، فيمكن اتخاذ الأفضل لتحقيق مصالحه وأمنه القومى. وثانيهما: هو اكتشاف نقطة التصادم المحتملة مع الآخرين عند تعارض المصالح والأهداف، من حيث المكان والزمان، بما يساعد على الإعداد لها مسبقاً، على ضوء ما وضح من مزايا وعيوب للحصول على أفضل النتائج، التي تحقق الأمن القومي للكيان أو الدولة.
كما يتكون هذا المجال من حجم الدولة، وشكلها، والعلاقة بينهما (مع توضيح درجة عمق الدولة، بعيداً عن الحدود وموقع العاصمة)، والعلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها فى المجال العسكري. والعوائق الطبيعية، والاتساع المتاح للتجمعات السكانية، والموارد الطبيعية وتوزيعها، وقرب ذلك من الحدود (مع ارتباطها بالعلاقات مع دول الجوار، لمعرفة تأثير العدائيات المحتملة فيها، سواء التجمع السكاني، أو مناطق استغلال الموارد الطبيعية)، والمناطق، والهيئات، والأهداف الصناعية ذات الأهمية الحيوية، والمنافذ البرية والبحرية للدولة، وأطوال وجودة شبكة الطرق الداخلية ودرجاتها وارتباطها مع شبكات الدول المجاورة، ومدى تمتع حدود وسواحل الدولة بحماية طبيعية، وشكل سواحل الدولة وطولها وصلاحيتها للاستغلال، سواء فى الأنشطة العسكرية (الصلاحية للإبرار)، أو في الأنشطة الاقتصادية (موانئ وأرصفة شحن وتفريغ)، وأهمية موقع الدولة بالنسبة للدول ذات المصالح الحيوية في الإقليم. والعلاقات التاريخية والعرقية والأيديولوجية مع الشعوب المجاورة (صديقة أو معادية)، وتأثير كل الحقائق والعلاقات المتشابكة، وانعكاسات تلك العلاقات على الأعمال الحربية والقوات المسلحة.
وهناك حقيقة جغرافية مهمة تعكسها الدراسات الجيوبوليتيكية عن مكان ما لكيان ما، إذ لا يجوز إهمال ما تمليه وتؤكده الخصائص الجغرافية من حقائق، فإما أن تستغل أهميتها بأفضل شكل، أو يتخذ إجراء وقائي حيال ضعفها (وهو ما يغفل عنه معظم السياسيين، وينتج عنه قصور تحقيق الأهداف القومية المرجوة)، وقد ينتج عنه كذلك تهديد للأمن القومي، إذا لم يتخذ الإجراء المناسب للوقاية ومقاومة المخاطر.
عندما قال الرئيس إن الدول لا تدار بالكلام، فإنه كان يقصد أن هناك مصالح عليا للدولة يجب تحقيقها من أجل حماية الأمن القومي الذي لا يعرف عنه شيئا كل من يتصدرون المشهد في الوقت الراهن.