نستكمل ما بدأناه فى الحلقة الماضية من رصد التطوارات الأوضاع فى إيران من خلال مقتطفات من كتاب إيران بين التاج والعمامة الذى كتبه والدى المستشار الإعلامى أحمد مهابة الذى كان شاهد عيان على الثورة الإيرانية. لقد أراد والدى بهذا الكتاب أن يكون سجلا دقيقا ينقل الواقع بأمانة ويسجل الأحداث بتجرد، ويدلى بشهادة من يكتمها فإنه آثم قلبه، مستهدفا به أن يكون عونا لكل من يريد أن يستوعب التجربة الإيرانية، ويستفيد منها الدرس والعبرة، دون أن يكون الهدف منه دفاعا عن هذا أو طعنا فى ذاك لأن إيران ذاتها ليست هى الهدف من هذا الكتاب، وإنما الهدف أن يكون آية لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ..
لقد اعترفت الأجهزة الخبيرة بأن لحظة الانفجار فى إيران، رغم حتميتها، قد جاءت قبل أوانها الذى كان مقدرا لها، لو تركت الأمور تجرى فى أعنتها دون أفعال أو ضغوط أو تآمر. وليس أدل على ذلك من شهادة المخابرات المركزية الامريكية التى سجلتها فى تقرير لها فى أغسطس 1977، حيث أكدت "أن إيران ليست فى حالة ثورة ولا تمر بموقف يمكن وصفه بأنه مرحلة سابقة على الثورة".
كذلك أكدت الشىء نفسه وكالة مخابرات الدفاع الأمريكية فى تقرير لها فى 28 سبتمبر 1978 تقول فيه "إنه من المتوقع أن يظل الشاه فى السلطة الفعلية طوال السنوات العشر القادمة".
ثم شهادة ثالثة لأحد مهندسى السياسة الخارجية الأمريكية، هنرى كيسنجر، حيث يقول "إن الشاه كانت لديه من الوسائل ما يستطيع به السيطرة على الموقف، والبقاء فى السلطة عشر سنوات أخرى، ولكن عدم تيقنه من حقيقة الموقف الأمريكى، والرسائل والمواقف المتضاربة للرئيس الأمريكى وحكومته هو الذى جعل مقاومته تنهار".
وثمة فى التاريخ الإيرانى البعيد والقريب مصداقية على ذلك. فلقد اختار أصحاب المصلحة فى إيران –كما يقول الدكتور على شريعتى المفكر الإيرانى المعروف– لكى تكون بوتقة لإشعال الصراع بين السنة والشيعة لخلق معركة تلهى المسلمين عن معركة الإسلام الحقيقية ضد الصهيونية، وضد اغتصاب فلسطين، لأن نهوض الدولة الصفوية التى فرضت المذهب الشيعى على إيران شرقى الدولة العثمانية وإثارتها للمعارك ضد العثمانيين، إنما كانت ضربة من الخلف وجهت للمسلمين، بالتعاون مع الدول الاستعمارية الغربية بصفة خاصة، مما ولّد حساسية لا يستهان بها بين إيران وجيرانها العرب .
وعندما تصادم الاستعمار البريطانى والروسى مع النفوذ الألمانى على أرض إيران خلال الحرب العالمية الثانية، وظن الحلفاء أن (رضا شاه الكبير) منحاز نحو الألمان، أطاحوا به من فوق العرش وألقوا به فى غياهب النسيان، ليموت على فراشه، وهو الضابط الشجاع، كما يموت البعير، ثم جاءوا بابنه ليكون دمية يحركونها كما يشاءون.
ولما تصادم الاستعمار البريطانى والأمريكى على أرض إيران عام 1951 للاستحواذ على ثروتها البترولية، جيئ بالدكتور محمد مصدق ليلعب دورا محددا سلفا، وهو طرد الاستعمار البريطانى من إيران، فلما أداه بمهارة ألقى به مندوب المخابرات المركزية (كيرميت روزفلت) خارج السلطة، ووقف الرجل بملابس نومه أمام المحكمة يدافع عن نفسه، ثم لقى حتفه جراء مرض السرطان الذى أصابه فى حلقه .
وفى عهد الرئيس الأمريكى (جون كيندى) عندما أراد الشاه أن يتعامل مع شركة (إينى) الإيطالية للبترول والمملوكة للدولة، ليضع نموذجا للتعاون بين دولة ودولة، الأمر الذى سيكون بالضرورة على حساب احتكار الشركة الغربية للبترول الإيرانى، أعد كيندى العدة مع (تيمور بختيار)، المدير السابق لجهاز السفاك، الذى تعاون بدوره مع (روح الله خومينى)، وذلك عام 1963، لإحداث انقلاب ضد نظام حكم أسرة بهلوى، لولا أن الشاه تراجع متعظا برءوس الذئاب الطائرة ولسان حاله يقول للرئيس الأمريكى
(لا تؤاخذنى بما نسيت قد بلغت من لدنى عذرا).
لكن يبدو أن الشاه نسى فى بداية السبعينيات الدرس، وارتكب نفس الخطأ، بل لعله أفدح، ألا وهو إصدار قراره فى يوليو1973 بالتأميم الكامل لثروته القومية من البترول، فألقوا به خارج الحلبة .
فإذا رجعنا لآية الله الخمينى، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر نفوذه الطاغى فى الشارع الإيرانى، عندما تميز بين زملائه بالحوزة العلمية الشيعية فى مدينة (قم) بالطبيعة الثورية ومقاومة الفساد والتصدى وحده لجبروت السلطة، حين رفض أن ينهض واقفا للشاه عندما دخل على رجال الحوزة الدينية فى مدينة (قم)، فلطمه (على منصور) رئيس الوزراء آنذاك على وجهه فلم تطرف له عين، بل ظل محتفظا بوقاره فى غيظ مكتوم، وتصميم على الانتقام، ولم يمض سوى أسبوعين حتى قتل (على منصور) على يد بعض تلاميذ الخمينى ..
ولكننى لا أعتقد أن الخمينى نفسه كان يأمل أو يظن أن ما حدث له يمكن أن يحدث بهذه السرعة البالغة، وهذه العالمية الواسعة النطاق، التى قام على خدمتها أعظم خبراء الحرب النفسية، وسوقتها أكبر أجهزة الإعلام والاتصال والصحافة فى العالم سعة وانتشارا، حتى جعلوا من الخمينى أسطورة تستعصى على الفهم وتتجافى مع العقل، لأن هذه القوى الدولية التى تضافرت على نصرته ليست بالقوى التى يشغلها طموح الشعب الإيرانى، أو ترغب فى حل مشكلاته، وأن مصالحها لو كانت قد حتمت عليها غير ذلك لحولت الخمينى إعلاميا إلى إرهابى مجنون ومتعصب متطرف، يريد أن يهدم المعبد على من فيه .
لقد شاء لى قدرى أن أكون واحدا ممن عاشوا مرحلة المخاض الثورى فى إيران خلال الفترة من أول يناير 1976 حتى أول ديسمبر 1979، كنت خلالها مستشارا إعلاميا لسفارة مصر فى إيران، ولم أغادرها إلا بعد دعوة الرئيس السادات لشاه إيران لقضاء أيام للراحة والعلاج فى مصر، فأمرنا بمغادرة إيران خلال ساعات قليلة حفاظا على حياتنا ..
وكانت الأحداث الساخنة المتلاحقة تفرض علىّ –كمراقب- التحليل والتقييم والمتابعة. لقد رأيت الشاه وهو فى عنفوان سلطانه وقمة مجده، ثم رأيته وقد هلك عنه سلطانه وتنكرت له الأيام، فأصبح مهيض الجناح زائغ البصر شارد الذهن، يغادر بلاده، وهو يحمل حفنة من ترابها، ثم ينحنى ليرفع ضابطا خر باكيا ليقول له (قم فإنك ستهتف غدا مع من يقول الموت للشاه) وصعد الى طائرته التى حلقت به وسط ضباب الغيب وصوب المستقبل المجهول
كما أننى رأيت آية الله الخمينى، وهو عائد بعزة المنتصر يكاد مريدوه أن يخروا له سجدا، لا يرددون إلا اسمه ولا يرفعون إلا صوره، كأن الأرض قد أصبحت قبضته، وأن السموات مطويات بيمينه ..
لقد عشت وأسرتى أياما كنا نتنقل خلالها بين غرف المنزل زحفا على الأيدى والأرجل، ويحتم علينا شعورنا بالخطر أن نجلس ظهورنا للحائط اتقاءً للرصاص الطائش المتناثر من حولنا فى كل مكان، فى بيوت ليس لها إلا نوافذ زجاجية، وكان صغارنا يفقيون فى الليل البهيم على أصوات المدافع والرصاص وصرخات الضحايا المذعورين فى شوارع طهران ومكبرات الصوت المعلقة على قمم المآذن تعلن الجهاد المقدس وتعيد إذاعة ما سجلته بالنهار طوال الليل، والنيران مشتعلة فى إطارات السيارات وأكوام القمامة فى مداخل الشوارع والأزقة فى طهران، وكانت المدارس تستغيث بنا نحن أولياء الأمور لكى ننقذ أطفالنا من الخطر الذى يوشك أن ينقض، حين تستعد قوات الجيش الزاحفة للاشتباك مع أمواج الجماهير الغاضبة وبذلك كنا، أردنا أم لم نرد، شهودا على العصر.