تشهد إيران هذه الايام اضطرابات وصفت من قبل المتابعين بأكبر احتجاجات تواجه النظام الإيراني منذ عام 2009. ولوحت السلطات الإيرانية باستخدام القوة الصارمة في مواجهة من تصفهم بمثيري الشغب. لقد أعادت هذه الأحداث إلى ذاكرتى فترة من أهم وأصعب الفترات التى عايشناها فى إيران عندما كان والدى أحمد مهابة يشغل منصب المستشار الإعلامى المصرى فى ذلك الوقت .. كانت فترة عمله من أخصب الفترات، وأكثرها ازدحاما حيث تنبأ والدى منذ استلامه منصبه فى عام 1976 بسقوط الشاه، وقيام الجمهورية الإسلامية، والتى عاش مرحلة مخاضها، وعاصر أحداثها يوم بيوم .. كان والدى يتمتع بنظرة ثاقبة، ورؤية تحليلية بعيدة المدى، حيث توقع تصدير الثورة الإيرانية للمنطقة العربية، وسعى الغرب لاقامة جمهوريات إسلامية فى منطقة الشرق الأوسط لتأجيج الصراع بين السنة والشيعة، وهو ما شاهدناه فى أحداث ما يسمى بالربيع العربى، وهو ليس بربيع، بل رياح عاتية أتت على الأخضر واليابس .. لقد كتب والدى كتابا كشاهد عيان على أحداث الثورة الإيرانية بعنوان "إيران بين التاج والعمامة"، صنف من قبل المتابعين للشأن الإيرانى من أفضل ما كتب، وكان الكتاب مرجعا رئيسيا للباحثين والمتخصصين. وقد رأيت أنه فى ظل تطور الأحداث فى إيران أن أعود بالقارئ لبضع سنوات للوراء من خلال الكتاب ليرى كيف نشأت الثورة الإيرانية، ويربط بين ما حدث فى الماضى، وما يحدث الآن.. وسأتركم مع بعض مقتطفات الكتاب.
بالضجة والصخب, دخل آية الله الخمينى إيران فى فبراير عام 1979, بعد خمسة عشر عاما قضاها فى المنفى فى غياهب الصمت والنسيان .
وبنفس الضجة والصخب, ودع الإيرانيون آية الله الخمينى فى يونيو1989 عن عمر ناهز التاسعة والثمانين عاما بطقوس أشد ما تكون غرابة وندرة , فقد أودع المقربون إليه جسده فى نعش زجاجى , ووضعوه فى أكبر ساحة فى طهران عارى الوجه, يطوف حوله المريدون والحواريون, ثم سار خلفه نحو عشرة ملايين من البشر تزاحموا بالمناكب, وهم يلطمون الخدود، ويدقون الصدور, ثم لم يلبثوا أن انقضوا على الجثمان المسجى, متجاهلين جلال الموت ومهابة الموقف, ليمزقوا كفنه إربا إربا, ويحاول كل أن يظفر بطرف منه ليكون له حجابا يقيه من الشر ويحميه من الشيطان, كما يفعل المؤمنون بأستار الكعبة.
ثم قرر المتاجرون بالخمينى أن يبنوا عليه بنيانا تعلوه أرفع قبة فى إيران, تطاول قبر الإمام الرضا، والسيدة المعصومة, مطلاة بالذهب، وتشرف على قرية ملحقة, اختار لها ابنه أحمد اسما هو( روح الاسلام ), واختار لها آخرون اسما هو( مرقد الإمام), ويتكلف هذا الحرم المنيف سبعة مليارات من الدولارات فى بلد به خمسة ملايين عاطل, وستة ملايين هربوا خارج وطنهم .
والواقع أنه لم تعرف ثورة فى العالم مثلما عرفته الثورة الإيرانية من أحكام متضاربة، وتقييمات متعارضة. ذلك أن الأقلام التى تناولتها قد ترواحت بين التعصب والمصلحة, حتى ضاعت الحقيقة بين المؤيد والمعارض, الأمر الذى يوجب على المرء أن يقف بنزاهة وموضوعية وقوف شحيح ضاع فى التراب خاتمه, لأن ما وقع فى إيران بسلبياته وايجابياته قد وقع، وسيمضى وقت طويل قبل أن يتأكد نجاحه، أو يكرس فشله. لكن ثمة مجتمعات أخرى مماثلة للمجتمع الإيرانى فى دول العالم الثالث حبلى بالصراعات ومشحونة بالأزمات، بحيث يوشك الوضع أن ينفجر, وأن يكون للحدث الإيرانى فيها شبيه ونظير, لاسيما تلك الدول الإسلامية التى يضرب أصحاب المصلحة فيها من القوى الداخلية والخارجية على الوتر الدينى الحساس، ويتخذون منه سيفا مسلطا على رقاب القائمين على أمر هذه المجتمعات, موظفين ما تزخر به من الإحباط النفسى، والتدهور الاقتصادى، وغياب الديمقراطية، وانتشار الفساد، ومتاجرة القلة بأقوات الكثرة ليؤججوا عواطف البسطاء من الناس، ويتلاعبوا بمشاعر المحرومين لقلب الأوضاع، وتغيير الأنظمة.
لقد جاءت الثورة الإيرانية بما لها وبما عليها كمحصلة لتجربة للحكم الوطنى فى إحدى دول العالم النامى, حيث أراد القائم بالأمر فيها، وهو الشاه, أن يعيد بناء الحياة على أرضه، وأن يرفع شعبه إلى مشارف العصر، وأن يقفز به نحو الحضارة الكبرى فى زمن وجيز بإيقاع لا يتناسب مع ضعف البنية الأساسية للمجتمع الإيرانى، ولا مع التراكمات المترسبة نتيجة لعمليات السلب والابتزاز من جانب القوى الكبرى صاحبة المصلحة البينة فى إيران، والهوى الجامح, والتى دأبت على تحريك الدمى، حسب هواها، وشد الخيوط وفق مصالحها, بينما يقف الحاكم الوطنى تتقاذفه أمواج المشاكل فى بلده بين واقع مؤلم، وأمل طموح, كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه .
ففى إيران حينما أراد الشاه أن يعمل لحساب شعبه, وأن يصحح مسار التجربة الوطنية فى بلده, فتحوا عليه أبواب كل شيء, ثم أخذوه بغتة، وألقوا به خارج وطنه كالفأر الميت, ولم ينعه ناع، ولا ضجت عليه البواكى .
ولعل ما يكسب الثورة الإيرانية هذا القدر من الأهمية بالنسبة لنا، نحن العرب, أنها جاءت بعد حرب أكتوبر, التى وضعت إسرائيل فى حجمها الطبيعى, وفندت مزاعمها حول نظرية الأمن، والذراع الطويلة، والقوة التى لا تقهر, كما أبرزت قوة وفاعلية سلاح البترول العربى الذى أحسن استخدامه ضد الدول التى وقفت مع اسرائيل ضد العرب, كما ابرزت إمكانية أن تصبح منظمة الاوبك قوة ضاغطة على الحضارة الغربية, وهى المنظمة التى كان شاه ايران صقرها الجارح الذى نادى بالتوازن بين اسعار البترول واسعار السلع المصنعة, وألغى من جانب واحد اتفاقه مع اتحاد شركات البترول الغربية ( الكونسورتيوم ) ليضع أساسا جديدا للعلاقات الدولية فى مجال الطاقة, تسترد به الدول المنتجة سيادتها على ثروتها القومية، ووارادتها الوطنية، وقرارها السياسى, الأمر الذى أثار عليه النقمة وفجر ضده الغضب .
وأهم من ذلك أن الشاه أراد أن يستوعب الدروس المستخلصة من هذه الحرب، وأن يستفيد من انعكاستها على المنطقة من حوله, واقتنع بأهمية وضرورة الانفتاح على جيرانه رغبة فى تعاون مثمر وسعيا لحسن الجوار, لكن ذلك فتح عليه أبواب المتاعب، واستعدى عليه أصحاب المصالح الذين اعتبروه قد خرج عن المدار الذى رسم له ولغيره من حكام دول العالم الثالث.. وللحديث بقية.