اختتم "رجب طيب أردوغان" عام 2017 بجولة إفريقية شملت السودان، وتشاد، وتونس، استغرقت أربعة أيام (24 –27) ديسمبر، وهي جولة ذات أبعاد اقتصادية وأمنية في آن واحد، حيث اصطحب معه 200 رجل أعمال، ووقع 21 اتفاقية تعاون بين أنقرة والدول الثلاث في مجالات مختلفة. وعلى المستوى الأمنى، وقع أردوغان اتفاقا مع الخرطوم لإدارة جزيرة "سواكن" في البحر الأحمر، كما اتفق مع تونس على تعزيز التنسيق الأمني والاستخباراتي. وقد تمكن "أردوغان" من تحقيق نتائج مهمة في هذه الجولة، أبرزها اختراق دوائر جديدة للأمن القومي العربي عبر تعزيز وجوده العسكري بالبحر الأحمر والأمني بشمال إفريقيا.
نتائج جولة أردوغان:
*السودان: وصل "أردوغان" للخرطوم في 25 ديسمبر 2017 وأجرى مباحثات مع نظيره السوداني "عمر البشير"، ليكون بذلك أول رئيس تركي يزور السودان منذ استقلاله عام 1956. وتم توقيع 12 اتفاقية بين الخرطوم وأنقرة، من بينها اتفاق لتأسيس بنك مشترك، واتفاقيات للتعاون في مجالات الزراعة والصناعة والطاقة والتعليم والصحة، فضلا عن اتفاق لإنشاء مجلس للتعاون الإستراتيجي بين الطرفين. ويبلغ حجم التجارة بين البلدين 500 مليون دولار، ويعتزمان رفعه ليصل إلى مليار دولار سنويًا.
وقد وقع البلدان اتفاقات للتعاون العسكري والأمني، بينها إنشاء مرسى لصيانة السفن المدنية والعسكرية بجزيرة "سواكن" السودانية بالبحر الأحمر التي حصلت أنقرة على حق إدارتها وتطويرها، وأعلن "أردوغان" عزمه إنشاء فندق ضخم بالجزيرة، يضم 300 غرفة. ونفى وزير الخارجية السوداني "إبراهيم غندور" منح الجزيرة لتركيا بشكل نهائي، وأكد أن السودان ستمنح تركيا فرصة الاستثمار في الجزيرة فقط، وهو ما سيتيح لتركيا الوجود عسكريًا لأول مرة على سواحل البحر الأحمر، منذ تفكك الدولة العثمانية في 1923، مما يمثل تهديدًا للأمن القومي العربي، حيث يمر 85% من تجارة ونفط الدول العربية عبر البحر الأحمر.
وبرغم احتفاء "أردوغان والبشير" بالزيارة ونتائجها، فإن المعارضة التركية كان لها رأي آخر، حيث انتقد رئيس كتلة حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض بالبرلمان النائب "أوزجور أوزال" تسلم أنقرة إدارة جزيرة سواكن لإعادة تأهيلها، وطالب أردوغان بالدفاع عن 18 جزيرة تركية استولت عليها اليونان بعد الحرب العالمية الأولى.
*تونس: كانت تونس هي المحطة الثانية في جولة "أردوغان" الإفريقية، حيث وصل إليها يوم 28 ديسمبر 2017، وعقد اجتماعات مع نظيره التونسي "الباجي قائد السبسي"، ثم عقد عدة لقاءات مع رئيس الوزراء "يوسف الشاهد"، ورئيس البرلمان "محمد الناصر"، ورئيس حركة "النهضة" "راشد الغنوشي" (الكتلة البرلمانية الأولى بالبرلمان 68 نائبا من أصل 217). وتعهد "أردوغان" بدعم الاقتصاد التونسي، وتعزيز التعاون الأمني بين البلدين، وأعلن عن منح الحكومة التونسية قروضاً ميسرة لدعمها بلغت قيمتها 30 مليون دولار. كما منحت أنقرة تونس قرضا يضاف إلى قرض سابق قيمته 300 مليون دولار. ويسعى البلدان لتضييق الفجوة في ميزان التبادل التجاري بينهما البالغ حاليًا مليارا و125 مليون دولار لصالح تركيا. كما تم عقد اتفاق لتعزيز التعاون الاستخباراتي والأمني بين البلين لمكافحة التنظيمات الإرهابية. وشهدت المباحثات توافقا تونسيا- تركيا حول ملفات مكافحة الإرهاب والقضية الفلسطينية والملف الليبي.
وقد انتقدت النخبة التونسية زيارة "أردوغان" لبلادهم، حيث نظمت نقابة الصحفيين التونسية وقفة تضامنية مع الصحفيين الأتراك المسجونين في أنقرة، ووصفت النقابة تركيا بأنها أكبر سجن للصحفيين في العالم، حيث اعتقلت عام 2017 ما يقرب من 149 صحفيا معتقلا بلا اتهامات قانونية واضحة، كما أغلقت عددا كبيرا من المؤسسات الإعلامية والصحفية بذريعة تأييد انقلاب عام 2016.
*تشاد: اختتم "أردوغان" جولته الإفريقية في العاصمة التشادية نجامينا، وعقد لقاء قمة مع نظيره التشادي "إدريس ديبي"، ووقع عدة اتفاقات في ختام زيارته، شملت اتفاقات في المجال (الضريبي، والرياضي، والتعاون الفني، والتنمية، وحماية الاستثمارات، وتبادل المعلومات والأرشيف الدبلوماسي). وطلبت تشاد من تركيا أن تتعاون معها في مجال التنقيب عن النفط واستغلاله، كما طلب "ديبي" من "أردوغان" التعهد بتشييد مطار "جرمايا" بشمال تشاد، وبناء جسر فوق نهر "شاري".
وقد شهد الرئيسان اجتماع منتدى "الأعمال التركي- التشادي"، وأكدا تطابق مواقف البلدين إزاء القضايا الدولية، لاسيما مكافحة الإرهاب والنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، وأبعاد التسوية السياسية للملف الليبي، لاسيما قبل الانتخابات المزمع إجراؤها في ليبيا عام 2018. وفي نهاية الزيارة، أعلنت نجامينا إطلاق اسم "اسطنبول" على شارع السفارة الأمريكية بالعاصمة التشادية في مؤشر على قوة العلاقات بين تشاد وتركيا، وتطابق وجهات نظرهما في القضية الفلسطينية.
أهداف "أردوغان":
هناك العديد من الأهداف التي سعى "أردوغان" لتحقيقها من جولته الإفريقية، منها:
أولا- تعزيز الوجود الإقليمي: أكد وزير الخارجية التركي "مولود جاويش أوغلو"، خلال مرافقته "لأردوغان" في الخرطوم، أن أمن إفريقيا والسودان مهم جداً لتركيا. وشهدت الخرطوم عقد اجتماع بين رئيس أركان الجيش التركي الجنرال "خلوصي أكار" مع نظيريه السوداني الفريق "عماد الدين مصطفى عدوي"، والقطري الفريق "غانم بن شاهين الغانم" الذي يزور الخرطوم حالياً.
وبرغم ذلك، نفي "أوغلو" وجود محور بالمنطقة يضم تركيا وقطر وإيران، وهو نفي يفيد التأكيد، حيث إن أنقرة بدأت في الاعتماد على الوسائل "العسكرية" في تحركاتها داخل المنطقة العربية، فقد افتتحت قاعدة عسكرية عام 2017 في قطر والصومال، بالإضافة لقاعدة في العراق هي (معسكر "بعشيقة" بالموصل)، فضلا عن وجودها العسكري بشمال سوريا والعراق، بالإضافة لما يتردد عن وجود عدد من العسكريين الأتراك كمستشارين في ليبيا. وتعتزم أنقرة إنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن بالسودان. كل هذه التحركات التركية تهدد الأمن القومي العربي، لاسيما أمن البحر الأحمر الذي تصفه أدبيات العلوم السياسية بأنه بحيرة عربية يقوم بتأمينها (مصر والسعودية). ولذا، فإن وجود قوات عسكرية تركية على شواطئه يهدد أمن الدولتين.
ثانيًا- فتح دوائر جديدة للسياسة الخارجية: فالمتابع للشأن الخارجي التركي خلال عام 2017 سيجد أن "أردوغان" قد نجح في "توتير" علاقات بلاده مع معظم الدوائر القديمة للسياسة الخارجية التركية، فهناك توتر في العلاقات التركية- الأوروبية، لاسيما مع ألمانيا والنمسا، ومثيله مع السعودية والإمارات، إثر انحياز أنقرة للدوحة عقب الأزمة القطرية، وكذلك هناك توتر في العلاقات التركية- الأمريكية.
وهناك اتهامات مستمرة لأنقرة بالتدخل في الشأن الداخلي للعراق وسوريا. كما أن النفوذ التركي الإقليمي آخذ في التراجع عقب عام 2013 إثر سقوط نظام "الإخوان المسلمين" في مصر، وتراجع الإسلاميين في تونس واليمن وليبيا. ولذا، يسعى "أردوغان" لزيارة دول جديدة وتعزيز علاقات بلاده معها، حيث قام بزيارة عدة دول لأول مرة خلال عام 2017، ومنها أوكرانيا وصربيا واليونان واستونيا، فضلا عن زيارته لنصف الدول الإفريقية تقريبا.
ثالثًا- فتح أسواق جديدة للمنتجات التركية: لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد عقب انخفاض أسعار صرف العملة التركية "الليرة"، تسعى أنقرة للمشاركة في السباق الاقتصادي العالمي نحو السوق الإفريقي، فقد قام "أردوغان" بزيارة 24 دولة إفريقية خلال ثلاث سنوات منذ انتخابه رئيسًا للدولة في 2014. كما يرغب في تعزيز وجوده السياسي والعسكري للدفاع عن الاستثمارات التركية بالقارة السمراء التي تبلغ أكثر من 5 مليارات دولار.
رابعًا- مواجهة حركة "جولن": منذ نهاية عام 2013 يخوض "أردوغان" حربًا ضروسا ضد حركة "الخدمة" (هي حركة مجتمع مدني عابرة للحدود نشأت في تركيا في الستينيات من القرن الماضي علي يد المفكر الإسلامي "فتح الله جولن"). وفي منتصف عام 2016، اتهم "أردوغان" الحركة بتدبير الانقلاب العسكري ضده دون أى دليل قانوني ملموس على ذلك. ومنذ ذلك التاريخ، يقوم "أردوغان" بمحاصرة أنشطة الحركة التي تملك مئات المؤسسات التعليمية والإعلامية والتربوية في 160 دولة بالعالم، بينها دول إفريقية، وتقدم خدماتها تطوعيًا للطلبة للنهوض بهم. وقد دعا "أردوغان" تشاد وتونس لغلق مؤسسات الحركة، بعدما وافق السودان على غلقها عام 2017 ، ورحل لأنقرة رجل أعمال تركيا قام بتمويل "مدارس الخدمة".
تنافس إقليمي:
برز خلال عام 2017 تنافس عربي- تركي علي تعزيز الوجود الإقليمي في الدوائر العربية والمتوسطية والإفريقية. وتعد جولة "أردوغان" الإفريقية رد فعل على تحركات عربية مؤثرة إقليميًا، رأت فيها أنقرة اختراقًا لدوائر الأمن القومي التركي. ومن تلك التحركات:
نجاحات مصرية: حققت القاهرة عام 2017 نجاحات إقليمية متعددة حيث عززت التحالف الثلاثي المتوسطي بين مصر واليونان وقبرص التي تعده تركيا خصما لها، وكذلك حققت القاهرة نجاحات كوسيط في الأزمة السورية، وتمكنت من عقد عدة اتفاقات لوقف الهدنة بين المعارضة والنظام السوري، فضلا عن عقد اتفاق المصالحة الفلسطينية. وعلى المستوى الإفريقي، قام الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" بزيارة عدد كبير من الدول الإفريقية. وكانت آخر جولاته لأربع دول في أغسطس 2017 شملت تشاد، وكانت زيارته ناجحة، وتم عقد عدد من الاتفاقات الثنائية بين القاهرة ونجامينا. واختتم العام بعقد اتفاق مصالحة بين الفرقاء بجنوب السودان، وتحرك فاعل للدفاع عن قضية القدس بالأمم المتحدة.
اهتمام مصري بالبحر الأحمر: عقد بالقاهرة في 11 ديسمبر 2017 مؤتمر "الدول المشاطئة للبحر الأحمر"لأول مرة، وألقى وزير الخارجية المصري "سامح شكري" كلمته التي دعا فيها لضرورة الحفاظ على البحر الأحمر كنقطة تماس بين الجوار العربي والإفريقي، ولأنه من أهم طرق الملاحة الدولية التي تنقل نحو 15% من التجارة العالمية، كما يعيش في دوله أكثر من 200 مليون نسمة. ودعا إلى إنشاء إطار مناسب يرسي قواعد تعاون اقتصادي إقليمي متناغم يحقق المنفعة المشتركة لدول إقليم البحر الأحمر ومحيطه، ويقوم بالتصدي للتحديات الأمنية في المنطقة.
دعم خليجي لإفريقيا: أعلنت الإمارات والسعودية في 13 ديسمبر 2017 عن دفع 130 مليون يورو لتمويل القوة المشتركة لدول الساحل الإفريقي من أجل محاربة التنظيمات الإرهابية، وذلك خلال المؤتمر الدولي لدعم القوة المشتركة لدول الساحل الذي عُقد في باريس برعاية الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون". وتهدف أبو ظبي من تلك الخطوة إلى تعزيز وجودها الإفريقي، حيث إنها تقدم دعما اقتصاديا ولوجيستيا لإريتريا والصومال.
ختامًا، نجد أن صانعي القرار العربي كانوا مدركين للتحرك التركي، ولتداعيات جولة "أردوغان"، حيث انتقد وزير الدولة للشئون الخارجية بالإمارات "أنور قرقاش" تصاعد النفوذ التركي والإيراني بالمنطقة، وأكد أن الدولتين لن تتمكنا من قيادة الدول العربية. كما كان التنسيق الإماراتي - المصري في أعلى صوره، من خلال زيارة وزير الخارجية المصري "سامح شكري" لأبوظبي، غداة توقيع اتفاق "سواكن" وعقد لقاء مع نظيره الإماراتى الشيخ "عبد الله بن زايد آل نهيان" يوم 28 ديسمبر 2017، بحثا فيه الأوضاع العربية والإفريقية وأمن منطقة القرن الإفريقى، باعتبارها امتدادا لأمن البحر الأحمر والأمن القومى العربى، وجددا رفضهما لكل أشكال التدخل الأجنبى فى شئون المنطقة والدول العربية من خارج الإقليم.
وشكل ذلك الأمر رسالة مباشرة "لأردوغان" بأن تحركاته المهددة للأمن القومي العربي لن تمر بلا رادع أو رد. ولذا، فإن عام 2018 سيشهد المزيد من جولات التنافس الإقليمي العربي- التركي.