كان أبى أحمد مهابة يبلغ من العمر 33 عاما، عندما تسلم منصبه كملحق إعلامى لأول مرة فى تونس عام 1964 .. أول دولة عُرضت عليه كانت دولة شيلى، لكن بعد تفكير، رفض أبى .. شعر بأن شيلى ليست فى حاجة لمصر الآن كاحتياج الدول العربية والإفريقية التى تخلصت لتوها من الاستعمار .. أفصح أبى عما يدور بخلده لوزير الإعلام فى ذلك الوقت الدكتور عبدالقادر حاتم، فعرض عليه د. حاتم التوجه الى تونس .. وافق أبى فورا والحماس يملؤه، والأفكار والأحلام تتسابق فى مخيلته. كان يؤمن إيمانا عميقا بأن دور مصر مع دول عانت الاستعمار هو دور حيوى وأصيل .. هو ليس بدور بقدر ما هو واجب ملزم .. فمصر تضطلع بدور تنويرى وإرشادى لا غنى عنه .. وكان يؤمن إيمانا راسخا بفكرة الشقيقة الكبرى التى لا تتخلى عن أشقائها وقت الشدة .. هكذا كان قدر مصر، وهكذا كان أبناؤها أدوات فى تلبية نداء القدر .. شد أبى الرحال إلى تونس تسبقه أفكاره وأحلامه، حاملا معه مبادئ ثورة 52، حيث كان يعتبرها خريطة طريق لمصر والأمة العربية فى ذلك الوقت .. وحيث كان الزعيم جمال عبد الناصر بطلا وملهما للشعوب العربية التى عانت الأمرين من الاستعمار وتشويه الهوية العربية، وربما كانت هذه هى المشكلة التى واجهت ابى فى تونس الخضراء.
وصل أبى إلى تونس، وبدأ على الفور فى إنشاء مركز إعلامى يضم الثقافة والفن والسياسة .. وأصبح المركز فى يوم وليلة قبلة للشباب التونسى الذى كان متلهفا للتعرف أكثر على الكتاب والفنانين المصريين، وكان أيضا مبهورا بالحضارة المصرية .. لكن لا تأتى الرياح دوما بما تشتهى السفن .. كانت العلاقة بين الرئيس التونسى بورقيبة والرئيس جمال عبد الناصر متوترة منذ عام 1957 بعد لجوء أحد المعارضين إلى مصر، وازدادت العلاقات توتراً عقب خطاب بورقيبة الشهير في مدينة أريحا الفلسطينية، ودعوته إلى الحوار مع إسرائيل على أساس قرار تقسيم فلسطين الصادر عام 1948. اعتبر هذا الخطاب خروجاً عن الصف العربي ولاءاته الثلاث: "لا صلح، ولا اعتراف، ولا تفاوض مع العدو". كان أبى يملؤه الحماس العربى القومى. وبطبيعة الأحوال والمنصب كان يتبنى قلبا وقالبا وجهة نظر مصر ويحاول طرحها وشرحها للشباب التونسى، مما أثار حفيظة وقلق النظام التونسى فطلب ترحيل أبى باعتباره شخصا غير مرغوب فيه .
وبالفعل، أنهى أبى خدمته بتونس بعد عام قضاه هناك .. لكن الوزير عبد القادر حاتم رفض أن يعود أبى إلى القاهرة مكسور الخاطر وقرر رد اعتباره فورا فطلب منه التوجه إلى الجزائر التى كانت قد أنهت للتو حربها مع المستعمر الفرنسى.
انتقل أحمد مهابة إلى الجزائر وقد ازداد تحديا وقوة وخبرة، وإذا جاز التعبير نستطيع أن نقول إن التجربة التونسية أثقلته دبلوماسيا حيث علمته أن يكون أكثر هدوءا وحنكة .. قرر أبى أن يستكمل حلمه فى بناء مركز إعلامى يليق باسم مصر ودورها وبدأ رحلة البحث عن مبنى يستطيع أن يحتوى حلمه .. فوقع اختياره على مبنى مكون من أربعة طوابق فى مواجه المركز الثقافى الفرنسى الذى كان يعد الأضخم والأكبر تأثيرا فى ذلك الوقت فى الجزائر .. وقرر أبى أن يخوض تحديا كبيرا فى مواجهة بقايا الاستعمار .. بعد أن وافقت الحكومة الجزائرية على منح مصر المبنى. خاطب أبى فورا أكبر مكتب هندسى فى مصر المملوك للمهندس سيد كريم فى ذلك الوقت وطلب منه أبى إعداد المبنى على طراز مصرى خالص .. فأرسل المهندس كريم إلى الجزائر مقاولا وسبعة عمال لتنفيذ المطلوب، وتم استخدام الرسوم الفرعونية والأرابيسك فى تزيين المركز، كما تم إرسال سجادة بطول 12 متراً صنعت خصيصا للمركز تحمل نقوشا فرعونية .. تم إنشاء مكتبة ضخمة تضم أكثر من 6000 مؤلف من أمهات الكتب فى جميع التخصصات والمجالات، مما جعلها قبلة للباحثين والمثقفين، كما تم إنشاء قاعة سينما ضخمة كانت تعرض كل يوم خميس أحدث الأفلام المصرية، وكان الإقبال على قاعة السينما مذهلا كل خميس، حيث كانت طوابير الجمهور الجزائرى تغلق الشارع .. كما تم إنشاء قاعة محاضرات كبيرة استضافت رجال السياسة المصريين والفنانين ورجال الدين والوزراء ليلقوا محاضرات على الشباب والمثقفين الجزائريين .. وعين أبى على كل قاعة موظف مسئول عن متابعة أدق التفاصيل .. كان المركز يفتح أبوابه فى تمام التاسعة صباحا .. لكن قبل أن يفتح أبوابه للزائرين كان أبى يحضر يوميا فى الثامنة صباحا بمنتهى الدقة والاستمرارية ليشرف بنفسه على كل صغيرة وكبيرة، من حيث النظافة والنظام .. سبب هذا المركز المصرى صداعا للمركز الفرنسى، حيث سحب البساط من تحت قدميه، من حيث الإقبال الجماهيرى والتفاعلى .. وذهب حلم أبى إلى أبعد من هذا، حيث طلب من مصر تزويده بسيارة سينما ضخمة تجوب أنحاء الجزائر لعرض الأفلام الروائية والوثائقية عن مصر، وتمت الموافقة على طلبه وأرسلت السيارة بالفعل، لكن بعض الوزراء فى الجزائر اعترضوا على الفكرة، وتم رفض الإفراج عن السيارة فى الجمارك وأعيدت إلى القاهرة مرة أخرى .. هكذا كان مفهوم الدبلوماسية عند أبى، وهكذا كان مفهوم رفع راية مصر وخدمتها .. استمر أبى فى خدمة مصر فى الجزائر لمدة عشر سنوات .. كلما انتهت مدته وهى أربع سنوات يتم مدها لسنوات أخرى بسبب النجاح الباهر الذى حققه فى الجزائر .. عندما استعيد الذكريات حول دور الهيئة العامة للاستعلامات، ودور أبنائها الحيوى الداعم للرؤية والسياسة المصرية فى الخارج، أحزن كثيرا إلى ما آلت إليه هذه المؤسسة الوطنية .. رحم الله والدى، ورحم كل من خدم هذا الوطن بإخلاص وحب عظيمين .