قال وينستون تشرتشل: "إن الأمريكان لا يسلكون الطرق الصحيحة لحل المشكلات إلا بعد أن يستنفدوا جميع الطرق الخاطئة".
ومن الواضح أن التهديدات الأمريكية للدول الرافضة للقرار الأمريكي الخاص بالقدس لا تخرج عن تلك المقولة. فقد طبقتها "نيكى هايلى"، عقب تصويت 128 دولة في الجمعية العامة ضد قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
ويبدو أنها لم تكن المرة الأولى التي تهدد فيها الإدارة الأمريكية مخالفيها، بل سبق وأن خرجت الكثير من التهديدات المماثلة، ولكن الجديد في الأمر، هو أنها خرجت من السر إلى العلن، وأصبحت أسلوب مميز للإدارة الأمريكية فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، أو على الأخص في إدارة القضية الفلسطينية، فقد تعددت التهديدات الأمريكية في أكثر من مناسبة.
مواقف متشابهة:
في فبراير 2017، وعقب تصريحات أدلى بها قادة فلسطينيون بمقاضاة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، بسبب نشاطها الاستيطاني في الضفة الغربية، والقدس المحتلة، هددت إدارة الرئيس دونالد ترامب بإغلاق مكتب منظمة التحرير بواشنطن، ووقف كافة المساعدات المالية التي تقدمها للسلطة الفلسطينية.
في أكتوبر الماضي من العام نفسه، وفور توقيع حركتى "فتح" و"حماس"؛ في مقر المخابرات العامة المصرية بالقاهرة، اتفاق المصالحة الوطنية برعاية مصرية، هدد مسئولون أمريكيون السلطة الفلسطينية بقطع المساعدات المالية المقدمة لها، في حال انضمام قوات من فصائل المقاومة إلى أجهزتها الأمنية في قطاع غزة.
وفي بداية ديسمبر 2017، وبعد استخدام حق الفيتو لإجهاض مشروع القرار الذي طرحته مصر في مجلس الأمن، والذي يطالب الولايات المتحدة بسحب اعتراف الرئيس دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل، هدد الرئيس ترامب بقطع المساعدات عن الدول الرافضة لقراره.
وقبل انعقاد الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة، هدد الرئيس ترامب الدول التي تنوى التصويت ضد قراره، وعقب التصويت، هددت نيكى هيلى، السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة الدول الرافضة للاعتراف الأمريكي بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، خاصة تلك الدول التي تتلقى مساعدات أمريكية، ومنها مصر، وأفغانستان، وباكستان، والأردن، وكينيا.
دلالات مهمة:
قد يكون من السابق لأوانه القول إن الرفض الدولي للقرار الأمريكي حول القدس يعكس تراجعا لافتا للنفوذ الأمريكي في الأمم المتحدة. إلا أن تصويت الجمعية العامة الأخير حول القدس، يعكس تراجعا واضحا في نفوذ الولايات المتحدة، ليس على مستوى المنظمة الدولية فحسب، بل على المستوى الدولي أجمع.
فقد أظهر التصويت الدولي ضد القرار الأمريكي مدى عجز الولايات المتحدة عن فرض مواقفها على المجتمع الدولي كما كان يحدث في السابق، وأنه لم يعد بمقدورها تمرير قراراتها بالطرق المعهودة، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء إلى أسلوب التهديد، وأحيانا الابتزاز، وهو سلوك ارتبط بإدارة الرئيس ترامب بشكل خاص. فقد سبق وهددت الولايات المتحدة في مارس الماضي بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، على خلفية تبني المجلس قرارات تنتقد السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، بعد التقرير الذي أصدرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا)، والذي خلص إلى أنه ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن إسرائيل مذنبة بتطبيق سياسات وممارسات الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.
كما أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من منظمة اليونسكو، بعد انتقادات متكررة لقرارات تبنتها المنظمة واعتبرتها معادية لإسرائيل، وكانت الإدارة الأمريكية قد علقت تمويلها للمنظمة، بعد قبول عضوية فلسطين في اليونسكو في 2001.
ومن دلالات المواقف السابقة يتبين فشل الولايات المتحدة في إقناع أي من الدول، لاسيما من حلفائها التقليديين لتأيد قراراتها في مجلس الأمن، أو الجمعية العامة، وهو ما يعكس العزلة الأمريكية فيما يخص قضية القدس.
ورغم ذلك الفشل، فإنه من الملاحظ إصرار الولايات المتحدة على تجاهل القانون الدولي، والذي يفرض على جميع الدول الامتناع عن إنشاء بعثات دبلوماسية في مدينة القدس الشريف، عملا بقرار مجلس الأمن رقم 478 الصادر عام 1980.
كما يبدو واضحا التناغم الأمريكي والإسرائيلي الشديدين، في إنهاء حل الدولتين، والقضاء على كل الاتفاقيات والقرارات الدولية التي تؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
حدود استمرار الخضوع للتهديدات الأمريكية:
على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال القوة الأولى في العالم؛ ولا تزال توجه حركة النظام العالمي، فإنها لم تعد بذات النفوذ الذي كانت تتمتع به عقب انتهاء الحرب الباردة؛ حيث تشير الدلائل إلى تراجع قدرتها على حشد التأييد الدولي لها، بل وتواجه بضغوط دولية تتمثل في رفض الانصياع لقراراتها، لعل من أبرزها رفض الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
كما أن الولايات المتحدة لا يمكنها الاستمرار في تهديد دول العالم وابتزازها في السر والعلن، وهو ما سيكون له عواقب وخيمة على سمعتها كوسيط للسلام، وعلى دورها على الساحة الدولية. في الوقت نفسه لا تستطيع الولايات المتحدة قطع مساعداتها عن الدول التي تتلقى تلك المساعدات، لأنها تقدم لخدمة المصالح الأمريكية بالأساس.
وبالتالي، يتضح أننا بصدد مرحلة جديدة للصراع العربي - الإسرائيلي، صارت فيها الولايات المتحدة بشكل معلن وصريح مع إسرائيل، جنبا إلى جنب، ويبرهن للعرب أن وثوقهم في الولايات المتحدة منذ اتفاق أوسلو وطيلة أربعة عقود من الوساطة لم يكن في محله، وأن عليهم البحث عن وسائل مجدية.
وعلى العرب السعي إلى إفشال السياسات الأمريكية المنحازة لإسرائيل، والمناوئة للمصالح العربية، إلا أن ذلك يتطلب أولا الخروج من دائرة الابتزاز الأمريكي الذي يمارس ضدهم، وأن يتحركوا بصورة عملية لمناهضة الضغوط الأمريكية التي قد تسعى إلى إجبارهم على القبول بخطتها، الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية يوما ما.