اختارت امريكا الانسحاب من "صداع" دور الوسيط في عملية السلام الفلسطينية-الاسرائيلية بعد "العرض" الساذج الذي اختار الرئيس الامريكي ترمب تقديمه على طريقة "الكاوبوي" متحديا العالم برصاصاته الطائشة، الامر الذي يفرض على الدول العربية البحث عن بدائل موضوعية في توقيت ازدياد اشتعال المنطقة نتيجة قرار ترمب اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الامريكية اليها. المعروف عن دوائر صنع القرار الامريكي أنها تبنت خطابين, احدهما داخل مكاتبها المغلقة, والاخر المعلن امام العالم وشاشات "الميديا", لكن وصل الامر إلى تأجيج المزيد من النار في منطقة لا يزال عدد من دولها خاضعا للاقتتال والفوضى, بل حتى افشال كل خطوة ايجابية تنجح مصر في تحقيقها لاختراق الجمود الذي وضعت فيه عملية السلام لعقود, كما حدث خلال الفترة الاخيرة من توحيد بين سلطة الحكم الذاتي وحماس وباقي الفصائل الفلسطينية المختلفة .
مقابل الدور الامريكي العبثي, استعادت القوة الروسية خلال الاعوام الماضية تأثيرها في المنطقة بعدما اكتفت بدور المتفرج لعقود. وتوالت زيارات اطراف الأزمة في ليبيا إلى روسيا التي سارعت الى تنشيط دورها في التسوية السياسية وتقديم دعم عسكري للجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. وهو موقف يضاف الى سلسلة الخطوات الجادة التي تبنتها روسيا تجاه دول المنطقة العربية والحرب ضد التنظيمات الارهابية. التقارب بين رؤى مصر-روسيا, وتحديدا حول ليبيا وسوريا، لم يأت من فراغ، اذ تقوم روسيا بدور محوري في التسوية السياسية, وتقديم الدعم لحفتر- حين تقاعست دول العالم عن دعمه بالسلاح- وهي تضع أمامها خطأ فبراير 2011 الكارثي عندما اطاح حلف شمال الاطلنطي (الناتو) بالقذافي, و انفرد بادارة مشهد بلغ قمة الفشل في ليبيا. مزاحمة روسيا للنفوذ الامريكي والاوروبي في سوريا وليبيا اكتسبت جديتها من مواقف موضوعية تهدف الى تهدئة المنطقة و التعامل مع الجانب العربي وفقا لمستوى ازدياد تأثيره نتيجة التحالف الذي نجحت مصر في تشكيله بعد 30 يونيو، والداعم لارادة الشعب المصري. على النقيض, لم تلق المنطقة العربية سوى الاستخفاف من الطرف الامريكي منذ الحرب على العراق عام 2003, ليتواصل مسلسل عبث الاخطاء ثم الاعتذارات الفارغة من اي مضمون .
الالتقاء المصري-الروسي لم يقم فقط على تاريخ معاصر من العلاقات الحميمة, وقد عادت لتترسخ خلال الاعوام الاربعة الماضية، وهو ايضا مبني على ادراك واقعي لازمات و حلول المنطقة بعيدا عن حدة اختيارات حادة من اخطر تبعاتها تغذية وحشية التنظيمات الارهابية في سائر دول العالم. كلا الزعيمين, السيسي وبوتين، ينأى بنفسه عن اجواء المغامرات, مفضلا صيغ الحكمة والممكِن في قاموس السياسة، الامر الذي دفع بوتين الى تطبيق التوازن المطلوب بين علاقاته مع ايران. في الوقت ذاته، حدث اختراق سياسي و اقتصادي تمثل في مفاوضات- ظلت شبه مقطوعة عبر التاريخ المعاصر- مع السعودية ودول الخليج. كما راقبت روسيا عن كثب مراحل تحرير العراق من تنظيم داعش عبر تقديم معلومات استخبارية و عسكرية, بالاضافة الى جهودها فى اثناء اندلاع الأزمة الاخيرة بشأن الوضع النهائي لاقليم كردستان .
امام تحقيق هذه النجاحات خلال سنوات قليلة، تبرز اهمية طرح روسيا كطرف بديل مطلوب منه الاستحواذ على دور اكبر في عملية السلام. روسيا تحتفظ بعلاقات متوازنة مع طرفي النزاع. المبدأ، بالتاكيد, سيلقى ترحيبا عربيا مطلقا, بينما العراقيل متوقعة والرفض منتظر من الجانب الاسرائيلي. إن اللحظة الحالية تجمع الرأي العالمي ومنظماته الدولية على التوافق مع الموقف العربي, وهو ما يبدو السلاح السياسي الوحيد في يد الطرف الاخير, كما لا بد من الاقرار بوجود تيار لا يستهان به في اوروبا, بل حتى الحليف الوحيد لاسرائيل-امريكا- ضاق ذرعا بالمماطلات الاسرائيلية، وما تجره من عنف يرتكب باسم هذه القضية. انسحاب امريكا يفرض التوجه نحو مسار مختلف يحمل فرص حقيقية للسلام. ووجود هذا الدور الروسي قد يمثل نقطة بداية ناجحة-اذا استغلت عربيا- للوصول الى اتفاق مع جبهة اوروبية-روسية أو إحدى منظمات المجتمع الدولي، أو حتى على غرار الاتفاق الامريكي-الاوروبي مع ايران المعروف (5+1), خصوصا بعدما اثبتت اللجنة الرباعية الدولية منذ تشكلت عام 2002 عدم جدواها على ارض الواقع .
النجاح الملموس للدور الروسي في المنطقة اقترن ايضا بقناعة تفتقدها القاعدة الحاكمة لصناعة القرار الامريكي. النظرة الضيقة الى المصالح الامريكية تعتمد على رؤية "العين" الواحدة وفقا لمنطق "الاطراف الاخرى تذهب الى الجحيم ثمنا تحقيق مصالحنا"، خلافا للبراجماتية الروسية بمفهومها الاشمل القائم على تبادل المصالح دون زعزعة الاستقرار, وهو الضامن لنجاح أي التعاون مع دول المنطقة العربية. بعيدا عن نظريات المؤامرة, أدارت روسيا سياساتها الحازمة منذ عام 2011 وفق قناعة ان نماذج مثل جماعة الاخوان- او غيرها على اختلاف المسميات- لن تحقق المستقبل الانسب لعلاقاتها ومصالحها مع دول المنطقة، خلافا لما تبنته امريكا واوروبا التي رحبت بعض دولها, بينما غض الطرف الآخر النظر، مفضلا التمسك بنظرته السطحية للارهاب و الفصل بين جماعة الاخوان وغيرها من التنظيمات الارهابية، رغم ان شظايا نيران الارهاب لا يزال يصيب عددا كبيرا من العواصم الاوروبية والمدن الامريكية, رافضة استيعاب النتائج الكارثية للعام الظلامي الذي سرقت خلاله الجماعة مصر, والانتكاسة الاقتصادية التي واكبت سيطرة حزب النهضة الاسلامي في تونس, وسيطرة التنظيمات الارهابية على كل البلاد التي شهدت فراغا أمنيا وسياسيا.