شكَّل إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في السادس من ديسمبر 2017، والذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبدء عملية نقل السفارة الأمريكية إلى المدينة، تغييراً مفاجئاً في السياسة الأمريكية المُتخذة والمُعلنة في قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، ليطرح عدة تساؤلات حول دلالات توقيت القرار، ووضعيته القانونية، فضلا عن تداعياته على مستقبل التحولات في عملية السلام في الشرق الأوسط.
قضية محورية:
تمثل قضية القدس إحدى المسائل المحورية التي يتجنبها السياسيون عادة في الصراع العربي - الإسرائيلي، إذ إنها قضية بالغة الصعوبة والتعقيد، لأنها لا تتعلق فحسب بالهويات الوطنية للجانبين، بل تتعلق أيضا بالحساسيات الدينية. فعلى الرغم من قطع العديد من الرؤساء الأمريكيين السابقين وعودا خلال حملاتهم الانتخابية بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، بداية من هارى ترومان، وحتى باراك أوباما، فسرعان ما كانوا يغيرون مواقفهم فور تسلمهم السلطة، نظرا لتداعياته السلبية على جوهر عملية السلام في الشرق الأوسط.
فى المقابل، فإن الرئيس دونالد ترامب قرر الآن الإيفاء بالوعد الذي قطعه خلال حملته الانتخابية، ويرجع ذلك لسببين محتملين، الأول: أنه أحاط نفسه بأشخاص ملتزمين أيديولوجيا بدولة إسرائيل، دون إبراز أى تعاطف مع الجانب الفلسطيني. بينما السبب الثاني: يتعلق بأن إدارة ترامب أظهرت انقساما مثيرا للقلق في تعقيدات الصراع العربي- الإسرائيلي، وادعائها بالعمل على حل دائم للصراع، من خلال ما يتم ترويجه حول "صفقة القرن".
سياقات التغيير الأمريكي:
يأتي توقيت إعلان ترامب حول القدس، في ظل سياقات يراها الجانب الأمريكي داعمة لهذا القرار، ومنها:
(*) شرعنة الأمر الواقع: فقد دأب الجانب الإسرائيلي في السنوات السابقة على إعادة هيكلة الطبيعة الديموغرافية للقدس، من خلال سياسات التهويد، والتى دعمها تيار اليمين، عبر خطوات استباقية للإعلان، وتمثلت في: نشر الحواجز الأمنية حول مسجد الأقصى، منذ يوليو2017، وتكثيف عمليات الاستيطان، وذلك بإنشاء 12 ألف وحدة سكنية استيطانية في عام 2017 في القدس والضفة الغربية، وهو ما يمثل نحو أربعة أضعاف عدد الوحدات السكنية الاستيطانية التي تم إنشاؤها في عام 2016.
بالإضافة إلى إعادة صياغة مشروع "القدس الكبرى"، الذي تقدم به حزب البيت اليهودي في الكنيست، في أكتوبر 2017، حيث ينص على ضم المستوطنات المحيطة بالقدس المحتلة إلى حدود المدينة، ومن بين هذه المستوطنات التي كان من المقرر ضمها: "معاليه أدوميم"، و"بيتار عليت"، و"بسجات زئيف"، و"أفرات"، وسائر مستوطنات "جوش عتسيون"، وذلك تمهيدًا لإعادة طرحه للتصويت في الكنيست.
ومن ثم، فإن القرار الأمريكي لا يحمل سوى طابع رمزي مقارنة بالخطوات الواقعية للسيطرة الإسرائيلية على كامل القدس، فضلا عن أن خطوة ترامب جاءت تنفيذا للقرار الأمريكي الصادر عن الكونجرس عام 1995 بعنوان "تشريع السفارة الأمريكية في القدس".
(*) تصاعد أزمات الشرق الأوسط: حيث تحظى خريطة المنطقة العربية بتوترات صراعية على مختلف أبعادها المتداخلة وفواعلها المتشابكة، مما تُعد بمثابة "نافذة الفرص" لصانع القرار الأمريكى لتمرير قضية القدس، فى ظل تراجع الاهتمام العربى بالقضية الفلسطينية ، وكذلك لموازنة المعادلة الأمنية للجانب الإسرائيلى، بالتوافق الضمنى مع حزب الله فى لبنان على إقرار الهدنة، فى ظل إنخراط الأخير فى الداخل السورى. فضلا عن هيمنة ملف الإرهاب على الطاولة العربية، وما تبعها من تقارب ما بين إسرائيل ودول عربية لمواجهة التهديدات الأمنية.
(*) تلاشى احتمالية التصعيد: حيث يعول الجانبان الأمريكي، والإسرائيلي على حالة الضعف العربي غير المسبوق، في ظل انشغال دول الإقليم بإعادة هيكلة الثوابت الداخلية للدولة الوطنية عقب الثورات العربية، فضلا عن التصدى لتبعات ظهور وتمدد التنظيمات الإرهابية المختلفة والموالين والداعمين لها، بالإضافة إلى حالة الانقسام والتشتت الفلسطينى حول إنهاء المصالحة الفلسطينية - الفلسطينية على الرغم من إنجاح الخطوات الأخيرة باتفاق القاهرة في أكتوبر2017.
تداعيات مُحتملة:
أثارت خطوة ترامب الأخيرة بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية ردود فعل عربية وإسلامية غاضبة، ومن المحتمل بروز تداعيات أخرى لتلك الخطوة، منها:
1. تجميد عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والمعروفة إعلاميا بـ "صفقة القرن"، حيث لحق بقرار ترامب الدعوة إلى سحب المبادرة العربية للسلام، برغم أنها لا تزال قائمة حتى اليوم، فضلا عن دفع العلاقات العربية – الإسرائيلية إلى إعادة التفاوض على أسس جديدة. فجوهر الإعلان الأمريكي يدحض فكرة استئناف المفاوضات، دون التأكد من أن القدس الشرقية بأهميتها الرمزية والدينية، لن تكون عاصمة لدولة فلسطين. وهو ما قد يقوض الهوية السياسية الفلسطينية بشكل مطّرد من قبل الديناميكيات الدينية الإقليمية، التي تتضمن طرفا شيعيا وآخر سنيا يستغل كل منهما عملية السلام لمصلحته الخاصة .
2. العودة بالقضية الفلسطينية إلى النقطة صفر كرد فعل على قرار ترامب الأخير بشأن القدس، وذلك في ظل الدعاوى المطالبة بحل السلطة الفلسطينية؛ بالإضافة إلى الانسحاب من اتفاقية أوسلو والتزاماتها، وسحب الاعتراف بإسرائيل.
3. سيؤدي إعلان ترامب إلى "مأزق قانونى"، بإبطاله للعديد من قرارات مجلس الأمن، والتي لم تعترف مطلقا بالقدس عاصمة لإسرائيل، فضلا عن مخالفته لقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 1947، والقاضي بقيام دولتين (يهودية وفلسطينية) ومنح القدس وضعاً قانونياً خاصاً تحت وصاية الأمم المتحدة. وبالتالي، فإن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سيُعد تبنياً لرؤى وسياسات اليمين الإسرائيلي، وتخليا عن التزامات اتفاقية أوسلو. وهذا قد يُعني التخلي عن بصيص أمل أخير في تحقيق السلام المنشود.
4. سيمنح قرار ترامب الضوء الأخضر للمتطرفين بالإقليم العربى لإحداث مزيد من التوترات؛ ففي حالة إيران، ستجد في هذا القرار ذريعة نحو استكمال تهديدها بإنهاء الاتفاق النووي، خاصة مع تصاعد ورقة العقوبات الأمريكية، منذ أكتوبر الماضى، وستمنح المتشدّدين الشرعية لتهميش الاتجاهات المعتدلة والإصلاحية في البلاد، بالإضافة لإعادة إيران إنتاجها لشعاراتها المضادة للغرب وحلفائهم بالمنطقة، وكذلك سيستغل الإرهابيون القرار الأمريكي ضد العرب الذين يتخذون مواقف معتدلة مع الجانب الغربي، وذلك بادعاءاتهم بحماية المقدسات الدينية، والتصدي للاحتلال والقوى الدولية الداعمة له، بما يضيف مزيدا من التوترات بداخل "الدول الوطنية" بالإقليم العربى.
5. إعادة التوضيح لازدواجية الرسالة بـ"إعلان ترامب" بهدف التهدئة. فعلى الرغم من أن الخطوة التي اتخذتها الولايات المتحدة تشرعن لأمر واقع فرضه المحتل الإسرائيلي في القدس، فإنه يلاحظ أن خطوة الولايات المتحدة لا تعني تسليمها بسيادة إسرائيل على مدينة القدس بأكملها. فقد ذكر ترامب في قراره تأكيده على مبدأ "حل الدولتين"، وأن على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني التفاوض بشأن المسألة السيادية المتعلقة بالحدود، وأن الولايات المتحدة لن تملي عليهما رؤيتها الخاصة.
في النهاية، أصبح التساؤل الرئيسى على خلفية التداعيات الحالية والمُحتملة للقرار الأمريكى الأخير: "كيف يمكن إعادة "القدس" إلى طاولة مفاوضات الحل النهائى؟"، ولعل إجابة ذلك التساؤل تكمن في التحركات العربية بالجلسة الطارئة بمجلس الأمن المنعقدة فى 8 ديسمبر 2017، وما تلى ذلك من الاجتماع الوزارى للجامعة العربية بالقاهرة، وما نتج عنه من بيان إدانة يحمل فى سياقه عدداً من المطالب؛ أهمها قيام الجانب الأمريكي بإعادة تفسير مضمون "القرار"، والذى يشتمل على شق آخر يتعلق بالالتزام الأمريكى بعملية السلام نحو مبدأ "حل الدولتين"، لضمان إعادة كرة المفاوضات.