تعددت ردود الفعل السياسية من قبل الدول العربية إزاء قرار الرئيس الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي القدس، والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإن كانت أغلب الردود قد دارت في سياق من الرفض والشجب والمطالبة بمراجعة الولايات المتحدة لموقفها، إضافة إلى تحديد مسارات للتعامل مع تبعات القرار، ومحاولة مواجهة تبعاته علي مستويات مختلفة.
أبعاد التحرك:
إن قراءة مباشرة لما تم من مجمل الحركة العربية، خاصة مع عقد اجتماع وزراء الخارجية العربية، وما يجري في مسار الاتصالات العربية الراهنة والمنتظرة، تشير إلى ما يأتى:
1. اقتصر التحرك العربى على مستوى وزراء الخارجية تجاه القرار الأمريكى، إذ لم يمتد إلى مستوى الرؤساء والملوك العرب، وإن ظل الباب مفتوحا لإمكانية عقد قمة عربية في الأردن، بحسبانها رئيس القمة العربية الحالية ، لكن هذا الأمر سيتم في حال عدم حدوث نتائج إيجابية على الأرض .
2. اتضاح التنسيق المصري - الأردني – الفلسطيني، وهو ما برز بالفعل في جملة الاتصالات السياسية الأخيرة بين الأطراف المختلفة، إلا أن هذا الأمر لم يتبلور في آلية محددة، خاصة أن الأردن يتولي بالفعل إدارة المقدسات الإسلامية، وفقا لاتفاق ثلاثي مبرم مع إسرائيل وإن كان تردي العلاقات الأردنية - الإسرائيلية في الوقت الراهن بعد حادث السفارة قد يحول دون تدخل أردني على خط الضغط على إسرائيل، في ظل تخوفات أردنية مباشرة، بسبب إعادة الجانب الإسرائيلي الحديث عن الوطن البديل من داخل اليمين الإسرائيلي المتطرف.
3. تشابك مسارات الخيارات العربية في مواجهة إسرائيل ما بين الاكتفاء بالرد العلني الرسمي الرافض ، والتحفظ على موقف الإدارة الأمريكية والمطالبة بمراجعة السياسات العربية حيال هذه الإدارة، بل والمغالاة في الطرح عبر التلويح بالبحث عن شريك بديل للجانب الأمريكي في عملية السلام في الفترة المقبلة، وهو أمر تعوزه الخبرة والحسابات، في ظل تعقد وتشابك المصالح العربية والأمريكية.
4. ارتباط الموقف العربي بالإدارة الأمريكية بمعادلة سياسية قوامها التكلفة والنفقة والعائد ،وهو ما يترجم حديث الصفقات التي تعمل بها الإدارة الأمريكية، في ظل إدارة الرئيس ترامب، والتي يمكن أن تمضي في إطار خطط صفرية إن رغبت، وبضغط من الحكومة الإسرائيلية، وهو ما يعني فعليا أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل البداية وليست النهاية، وان أمتداد ذلك التوجه، كما تخطط الحكومة الإسرائيلية، قد يصل إلى ملفي حق العودة والاستيطان .
5. ثمة توقعات بأن الإدارة الأمريكية يمكن أن تنطلق في الفترة المقبلة من الخطة الراهنة (أ) إلى الخطة (ب) والخاصة بعملية السلام. بمعني أن هذه الإدارة عزفت عن التدخل السياسي والاستراتيجي طوال عام، وكل ما قدمته عبارة عن مشروع للسلام الاقتصادي يعيد تدوير فكرة التعاون الإقليمي التي طرحتها إسرائيل في مطلع التسعينيات، ومن ثم، فإن انتظار ما سوف يأتي به نائب الرئيس مايك بنس، ومستشاري السلام كوشنر أو جرنبلات سيكون خطأ استراتيجيا قد يعيد الأطراف العربية للمربع صفر من جديد، خاصة في ظل تمرير ما تم إقراره حول قضية القدس، بصرف النظر عن طبيعة التنفيذ التي قد تأخذ سنوات كمسار إجرائي.
إشكاليات مطروحة:
تواجه التحركات العربية إزاء قرار الإدارة الأمريكية حول قضية القدس عدة إشكاليات أساسية، خاصة في ضوء اجتماع مجلس الوزراء الخارجية العرب الأخير، وما تتطلبه المرحلة المقبلة من إعادة ترتيب الحسابات العربية - العربية . ومن أبرز تلك الإشكاليات:
أولا: قبل الحديث عن القبول والرفض والتعامل المستقبلي مع الإدارة الأمريكية، وما أصدرته حول القدس، وما قد تصدره من قرارات تمس مستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي قد تدفع في اتجاه حث الأطراف العربية كل في إطاره بدفع ثمن السلام في سياق الصفقة الأشمل لرئيس أمريكي يفكر بعقلية رجل الأعمال- فإن ثمة تساؤلا مطروحا حول: هل يمكن تجميد أو سحب المبادرة العربية، أو عقد قمة عربية لمراجعة المواقف المعلنة إزاء إسرائيل والولايات المتحدة أم ماذا؟.
ثانيا: كيف يمكن رصد وتحليل واستشراف العلاقات العربية - الأمريكية، خاصة أنها تدور في أطر ضيقة من التحالفات الأمنية والاستراتيجية والمصلحية، ولا أحد يمكن أن ينافس الحضور الأمريكي في الإقليم، بصرف النظر عن الوجود الروسي أو الفرنسي. ويبقي طرح وجود بديل للولايات المتحدة نظريا، في ظل فشل باريس (1)، وتجمد فكرة مؤتمر موسكو لسلام الشرق الأوسط.
ثالثا: أن الرهانات العربية - العربية لا تتوقف عن إمكانية التعامل مع مشهد فلسطيني - إسرائيلي مفتوح على سيناريوهات عدة تبدأ بالمواجهة العسكرية في قطاع غزة (برزت بوادرها مؤخرا بضرب القطاع) ، وتمر برفض ما قد يتم التوافق بشأنه فلسطينيا في إطار المصالحة الفلسطينية، وهو أمر قد يعيد النظر فلسطينيا في إطار إعادة إحياء مؤسسات النظام الفلسطيني برمته، مما قد يحتاج إلى بعض الوقت، وقد تؤَجل الانتخابات التشريعية والرئاسية، وكذلك حسم مسألة الإطار الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية .
رابعا: ستدور سيناريوهات التعامل العربي في دوائر محددة في الفترة المقبلة قد تركز على التلويح بالخيارات النظرية والعملية دون حسم، خاصة أن الواقع العربي بكل تبايناته وتداعياته سيظل حاكما لمسارات التحرك العربي والإسلامي، في ضوء توقع بأن ما دار في اجتماع الجامعة العربية سيتكرر مع بعض الاختلافات الشكلية في قمة المؤتمر الإسلامي خلال الأيام المقبلة.
ومن ثم، فإن ما تحتاج إليه الدول العربية بالأساس الاتفاق على صيغة جديدة للتعامل مع الإدارة الأمريكية وفقا لحسابات سياسية جديدة يمكن أن نبني عليها استراتيجيات للتحرك تجاه إدارة ترامب التي قد تذهب إلى ممارسة ضغوطات حقيقية على الدول العربية لإتمام تسوية ناقصة، وجائرة لا تقتصر على طرف محدد مع إسقاط كل الضوابط الحاكمة لمسار وتوجه الصراع العربي – الإسرائيلي، وهو ما قد يمثل تحديا حقيقيا كبيرا .
خامسا: إن المخاوف العربية لا تتوقف مع إدارة أمريكية لم تتورع عن الالتزام بحدود المصالح وما جنته من صفقات، متجاوزة كل ما حصلت عليه إدارات أمريكية بارزة، وهو ما يعني أن هذه الإدارة ورئيسها ( ترامب) الذي يتسم بالسيكوباتية، من الصعوبة بمكان التعامل معه أو انتظار ما يمكن أن يمنحه من مشروع سلام أو تسوية، بل إنه من الخطورة بمكان التماهي معه في طرحه غير الناضج. وبالتالي، فإن الدول العربية مطالبة بموقف حازم يتجاوز السياسات العربية العقيمة التي تجاوزها الزمن، مع تغيرات حقيقية تجري في المنطقة بأكملها وتوشك ملامحها في التشكل من الآن فصاعدا .
إن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني تتطلب اتخاذ مواقف عربية جادة في مواجهة ما يخطط لتصفية القضية الفلسطينية من مرتكزاتها الحقيقية، والتعامل معها على أنها ستبقي القضية المحورية، وسيظل الإقليم بأكمله إقليما مضطربا ما لم تقم الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وفقا لقرارات الشرعية الدولية.