جاء إعلان دونالد ترامب عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترافه رسميا بأنها عاصمة لإسرائيل ليضع نهاية للكثير من الجدل حول موقفه من تلك القضية، مما أثار الغضب بين ربوع الوطن العربي من هذا القرار، وحالة من الاستغراب لدى جميع الشعوب العربية من القرار الأمريكي وكأنها المفاجأة الكبرى. واللافت أن ترامب نفسه أعلن خلال حملته الانتخابية أن نقل السفارة من الأولويات لديه، كما أن كل الظروف مهيأة لاتخاذ مثل ذلك القرار في الوقت الحالي، بعد تمزق وتهلهل الدول العربية والإسلامية بأيدي أبنائها، بعد ابتلاع الطعم تلو الآخر، والنهاية بتحويل الصراع من عربي - إسرائيلي إلى صراع سني-شيعي في المنطقة، وضاعت منا في النهاية القضية الفلسطينية.
إن يوم 2 أغسطس عام 1990 كان بداية انهيار الدول العربية بفخ أمريكي ابتلعه صدام حسين، الرئيس العراقي آنذاك، واتخذ قراره باحتلال دولة الكويت ليكون المسمار الأول الذي يدق في نعش الأمة العربية، ويفتح المجال للولايات المتحدة الأمريكية لتكون هي صاحبة القرار الأول والأخير في منطقة الشرق الأوسط. وللأسف الشديد، فتحت الدول العربية جميع أراضيها لإنشاء قواعد عسكرية أمريكية لحمايتها، وبذلك أصبحت تلك الدول منقوصة السيادة، والكلمة العليا لصاحبة الحماية، وهي الولايات المتحدة.
لقد وضعت أمريكا وإسرائيل والحلفاء التابعون لهما الخطط لإسقاط منطقة الشرق الأوسط. وبدلا من العقيدة القديمة بأن تكون إسرائيل القوة التي تتفوق على الدول العربية مجتمعة، أصبحت العقيدة الجديدة هي تدمير جميع الجيوش العربية الوطنية، لتصبح إسرائيل هي القوة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، دون أي تهديد حقيقي لها من أي دولة أخرى. والبداية جاءت مع الجيش العراقي، فبدأت حرب استنزافية ضده استغرقت 12 عاما. دخلت الولايات المتحدة إلى العراق عام 2003 بقواتها لتحتله ويتخذ بول بريمر، أول حاكم أمريكي للعراق، قراره بحل الجيش العراقي.. كل ذلك تم بترحيب عربي، وأيضا ترحيب من الشعب نفسه تحت مسمى الحرية والديمقراطية التي ستعم على تلك الدولة.
ومع فشل التدخل العسكري الأمريكي في العراق، والانسحاب منها، بعد تدمير الدولة عسكريا، وأمنيا، واجتماعيا، قررت الولايات المتحدة تغيير استراتيجيتها، وأن يتم تدمير الجيوش الوطنية بأيدي أبناء الشعب نفسه، وذلك تحت مسمى الربيع العربي، فبدأت في تدريب عناصر من الخونة على إثارة الفوضى واستهداف الجيوش في كل دولة عربية، تحت مسمى ثورات الربيع العربي، ومحاولة تصدير فكرة أن الجيوش العربية هي وسيلة لقمع الحريات، ونموذج للاستبداد في الدول العربية. فعندما بدأت تلك الثورات، بدأت أيضا جميع المحاولات للاشتباك مع تلك الجيوش، ونجحت الخطة في ليبيا وسوريا واليمن، وفشلت رغم المحاولات المستميتة في مصر، وذلك بفضل وعي الشعب المصري، وأيضا القيادة الحكيمة المصرية فى هذا الظرف.
كما قامت الولايات المتحدة بدعم عناصر وتنظيمات إرهابية وتجييشها في منطقة الشرق الأوسط للدخول في صراع مسلح مع الجيوش الوطنية العربية، أمثال داعش والنصرة وخلافه. وعلى غرار تنظيم القاعدة الذي دعمته من قبل، تلقت تلك التنظيمات دعما ماديا ولوجيستيا كبيرا من كل من قطر وتركيا، ذراعي الخراب في المنطقة وحلفاء الولايات المتحدة واسرائيل، لتشتعل المنطقة ويتم إنهاك الجيوش الوطنية التي تسعى للحفاظ على وحدة الأراضي الوطنية.
لم تتوقف الولايات المتحدة عند ذلك الحد فقط، ولكنها وضعت سيناريوهات جديدة في المنطقة لإلهاء الدول العربية عن القضية الأساسية، بأن استطاعت أن تخلق صراعا جديدا في المنطقة، وهو الصراع المذهبي السني-الشيعي بين الدول الإسلامية بعضها بعضا، وقد تركت لإيران مساحة واسعة لتبسط نفوذها في العراق، ولبنان، وبعض دول الخليج العربي، وأخيرا اليمن، وذلك لتنصب فخا حقيقيا للدول العربية بأن النفوذ الإيراني الشيعي يتمدد على حساب الدور العربي السني، لنبدأ صراعا جديدا لم يكن في الحسبان في يوم من الأيام، ولتتسع الفجوة بين المسلمين بعضهم بعضا، وتبتعد المسافات أكثر وأكثر بيننا وبين والقضية الأساسية.
كل ما سبق نتج عنه كلمة ترامب، عندما أكد أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها تجمع في القدس المسلمين والمسيحيين واليهود، كل يؤدي طقوسه دون أي صراع. بالطبع تلك الجملة تعني الكثير، وفيها إسقاط على أن الدول العربية يتقاتل فيها المسلمين بعضهم بعضا. أما إسرائيل فهي واحة الحرية وهي الوحيدة التي يمكن أن تأمن حياة المسلمين والمسيحيين إلى جانب اليهود.
الحقيقة أننا كعرب مزقنا أنفسنا بأيدينا، وابتلعنا كل شىء لتدمير دولنا وفي النهاية نغضب من القرار الأمريكي المتوقع، إننا كعرب فرطنا في القدس من يوم ما أسهمنا في دخول الولايات المتحدة إلى المنطقة، وشاركنا في ابتلاع طعم الهجوم على الجيوش الوطنية، وسمحنا لشبابنا بالانضمام إلى جماعات وتنظيمات إرهابية.
والسؤال الأخير: ماذا لو كانت جميع الجيوش العربية في قدرتها السابقة؟ هل كان ترامب سيتخذ قراره؟.