نجحت الجهود المصرية الحثيثة في رأب صدع الخلافات العالقة أمام إنهاء الانقسام الفلسطيني، الممتد منذ عام 2007، عبر توقيع حركتي "فتح" و"حماس" اتفاق المصالحة، في شهر أكتوبر الجاري بالقاهرة، وسط أجواء إيجابية تشي، "نظرياً" على الأقل، بدنو تحقيق الوحدة الوطنية.
ومن شأن نجاح تلك الخطوة أن يتم طيّ صفحة الفرقة بين جانبي الوطن المحتل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعزيز المساعي العربية - الأمريكية الأخيرة بربط استكمال مسار المصالحة مع تحقيق التسوية السلمية، عبر الذهاب الفلسطيني، صفاً وكلمة واحدة، إلى طاولة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي لإنجاز عملية السلام، والتي طالما اصطدمت بشروط إسرائيلية تشكل قيداً مفروضاً على جهود العملية السياسية.
ومع ذلك، ينتظر "فتح" و"حماس" الكثير من التحديات أمام تحويل اتفاق المصالحة من نطاقه "الجزئي" الراهن إلى حيزه "الشمولي" المنشود، بمشاركة الفصائل الفلسطينية، لدى الانتقال من قضايا عمل حكومة الوفاق الوطني في قطاع غزة، والمعابر، وموظفي غزة، إلى بحث الملفات الشائكة والمؤجلة، وهي تفعيل منظمة التحرير، والنظام السياسي، وإجراء الانتخابات، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، عدا الأمن، مما يجعل المهام شاقة أمام الطرفين، عند توافر الإرادة الجدّية لتذليلها، وعدم توظيف الاتفاق "كطوق نجاة" مؤقت.
حيثيات الاتفاق
وقعّت حركتا "فتح" و"حماس" في 12 أكتوبر 2017 في القاهرة اتفاقاً للمصالحة، برعاية مصرية، يقضي بتمكين حكومة الوفاق الوطني من أداء عملها، وممارسة مهامها في قطاع غزة، أسوة بالضفة الغربية، بحلول الأول من ديسمبر المقبل.
ويتضمن الاتفاق، الذي يستند إلى مضمون اتفاقية الوفاق الوطني الموقعة بالقاهرة عام 2011، تشكيل لجنة إدارية قانونية لحل قضية موظفي قطاع غزة، المقدرين بنحو 40 ألف موظف، في إطار استيعابهم ضمن مراتب السلطة الفلسطينية، وتسليم إدارة ملفي المعابر والحدود في غزة لحرس الرئاسة، بحلول الأول من نوفمبر المقبل، بشأن معبري بيت حانون/إيرز، وكرم أبو سالم، مقابل التنسيق مع مصر فيما يخص معبر رفح الحدودي، ونشر قرابة 3 آلاف عنصر من أفراد الشرطة التابعة للسلطة في قطاع غزة.
وإذا كان سلاح المقاومة الفلسطينية لم يتم بحثه في جلسات حوار "فتح" و"حماس"، فإن مصادر الأخيرة تحدثت عن إمكانية تشكيل لجان من الأطراف المعنية، بما فيها "حماس" والحكومة، للتنسيق في مسألة ضبطه، وصدّ أيّ تجاوزات، أو خلافات، أو تصدّع في المنظومة الأمنية، والاهتمام ببحث آليات التنسيق مع الأجهزة المعنية لمنع التضادّ، كون كتائب "عز الدين القسام"، الذراع العسكرية لحركة "حماس" موجودة "تحت الأرض"، مقابل عناصر موجودة "فوق الأرض"، ومناطق الحدود، وذلك للحيلولة دون حدوث أي تداخل بين أفراد الأمن والمقاومة، التي لها تمثيل من كل الفصائل.
وقد يؤدي ذلك إلى دمج الأجهزة الأمنية والشرطية في غزة والضفة الغربية ضمن ثلاثة أجهزة، بما يضمن وحدتها وتبعيتها لوزارة الداخلية، وذلك بحسب ما ورد في اتفاق عام 2011. بينما جرى تأجيل بحث الملفات الحيوية الأخرى، التي تعدّ موضع الخلاف الثنائي الدائم، إلى وقت زمني آخر، لدى اجتماع الفصائل الفلسطينية، الموقعة على اتفاق 2011، في القاهرة يوم 21 نوفمبر المقبل، لإجراء حوار شامل لبحث تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتحديد موعد للانتخابات العامة، ومنظمة التحرير، والمجلس الوطني، فيما قد يؤدي ذلك إلى لقاء آخر بين "فتح" و"حماس" في الأول من شهر ديسمبر المقبل لتقييم خطوات تنفيذ المصالحة.
محدّدات المصالحة
لعبت مصر دوراً حيوّياً في مقاربة طرفي النزاع لخطوات المصالحة نظير مكانتها الاستراتيجية الوازنة بالمنطقة، وعلاقتها التاريخية بالقضية الفلسطينية، وثقة "الكل" الفلسطيني بقيادتها المعتبرة، مما أسهم في توفير "الحاضنة" المواتية لفرص إنهاء الانقسام، في ظل مفاعيل مأزق الحركتين الحرج، الذي قارب حدوده غير المردودة، وتبعات المشهد الإقليمي العربي المضطرب، والأفق المسدود للعملية السياسية، مقابل تصاعد العدوان الإسرائيلي ضدّ الشعب الفلسطيني.
ومع ذلك؛ لا تزال الشكوك تكتنف عملية تنفيذ "فتح" و"حماس" لاتفاق المصالحة، إزاء افتقاد الثقة المتبادلة بينهما، وعند الانشغال بالتفاصيل الغائبة عن جلسات الحوار، والمؤجل بحثها لفترات زمنية لاحقة، مما قد يؤدي إلى عرقلة نفاذه.
ويقف تباين البرنامج السياسي حجر عثرة عند الإيغال بعيداً في تطبيقات لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير، التي تستهدف دخول حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" تحت مظلتها، في ظل غياب الأرضية السياسية المشتركة بين "فتح" و"حماس"، بدون أن تسهم وثيقة "المبادئ والسياسات العامة" الرسمية "لحماس"، التي صدرت في الأول من مايو الماضي بالدوحة، في تقريب حدود المسافة البعيدة بينهما، برغم غلبة اللغة السياسية الأقل تشدداً على خطابها العقيدي الأيديولوجي، وهو الأمر الذي عكس نفسه في إعلانها أخيرا عن "احترام الاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير مع سلطات الاحتلال، إذا التزمت الأخيرة بها، ولكن بدون الاعتراف بالكيان الإسرائيلي".
وقد يبرز الشدّ هنا عند مشاورات الحكومة القادمة، أو إجراء الانتخابات، فيما تطل قضية التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية والاحتلال برأسها الثقيل على أفق أي تحرك لتحقيق المصالحة، عدا تباين منظور الحركتين حيال تفسير بنود اتفاق المصالحة، والمغزى المستفاد من مضمونه.
فيما ستجد مطالبة "حماس" بإبقاء سلاح المقاومة دونما مساس ساحة خصبة للجدل البيني المتواتر دونما حسم. وسيقدر لهذا الخلط في الرؤى التغلغل في مفاصل عمل الحكومة، ومسارها القادم عند الاحتكام إلى سياسة خارجية متباينة، ستجد حضورها في موقف الطرفين المتغاير من أحداث ومتغيرات المنطقة، وفي خلافاتهما الداخلية.
في المقابل، ليس مستبعداً أن يشكل مأزق الحركتين دافعاً أساسياً للمضي بتنفيذ الاتفاق "تكتيكياً" إلى حين تغير الظروف المصاحبة له، وذلك عبر استخدامه من قبل السلطة الفلسطينية كورقة مناورة للرد على التعنت الإسرائيلي، في ظل الجهود الأمريكية الحالية لاستئناف مفاوضات السلام، ورسالة ضغط بوجود خيارات أخرى، إذا لم تتم الاستجابة لمطالب وقف الاستيطان، والالتزام "بحل الدولتين"، والاحتكام لمرجعية عام 1967، فضلاً عن محاولة توظيفه كبديل عن تفاهمات "حماس"، والقيادي المفصول عن "فتح"، النائب محمد دحلان، التي لم تجدّ استحساناً كبيراً لدى السلطة، التي ينتابها القلق من التداعيات على الوضع في الساحة الداخلية، في ظل ما يتردد مما يسمى "مشروع دولة غزة"، وهو الأمر الذي نفته "حماس"، مقابل استهداف الأخيرة فك الحصار الخانق، وتخفيف وطأة الأوضاع المعيشية المتدهورة في القطاع، وتحسين علاقتها مع مصر، والانفتاح على العالم الخارجي.
وقد حضر المأزق الفلسطيني في اتفاقيات المصالحة المتوالية التي لم تفضِ إلى نتائج ملموسة حتى الآن، مثل وثيقة الوفاق الوطني، المعروفة "بوثيقة الأسرى" عام 2006، ومكة عام 2007، والقاهرة 2011، والدوحة 2012، والشاطئ 2014، وما بينها من لقاءات ممتدة تستضيفها الساحة المصرية، في ظل الخلافات البينية، وضعف إرادة التغيير، وتأثير المتغيرات الخارجية في ثنايا الانقسام.
قيود إسرائيلية
يحضر العامل الإسرائيلي في حيثيات تغذية الانقسام وتعميقه، بسبب سيطرته على ثلاثة ملفات على الأقل من تلك المطروحة على طاولة الحوار الفلسطيني، وهي الحكومة، والانتخابات، والأمن، وقدرته على تعطيلها وإفشالها، وبسبب استفادته المثلى من استمرار الانقسام لمتابعة مشروعه الاستيطاني التهويدي في فلسطين المحتلة، والركون إلى واقع القطيعة بين الضفة وغزة للتدليل على ما يدّعيه أمام المجتمع الدولي من مزاعم عدم وجود شريك فلسطيني، وانتفاء ركائز إقامة الدولة الفلسطينية المتصلة على حدود 1967.
وقد دللت شروط الحكومة الإسرائيلية، الأخيرة، على انتفاء الرغبة لديها لتحقيق السلام مع الفلسطينيين، سواء أكانوا منقسمين، أم موحدين، حينما أعلنت عن رفضها التفاوض مع حكومة وحدة وطنية فلسطينية تضم "حماس"، في حال لم تتخل الأخيرة عن سلاحها، وعما سمته "العنف"، وتعلن الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وهو الأمر الذي يصطدم مع المساعي العربية – الأمريكية الراهنة لاستكمال مسار المصالحة بخطوة استئناف المفاوضات الفلسطينية– الإسرائيلية، وصولاً إلى اتفاق التسوية السلمية.
وعمدت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من خلال شروطها التي جوبهت بالرفض الفلسطيني، إلى تجاوز مطلب "الشريك الفلسطيني الموحد"، وهو ما ستحققه خطوات المصالحة، نحو فرض قيود أمام استئناف المفاوضات بين الجانبين، حيث تشكل الوحدة الفلسطينية مصدر قلق إسرائيليا وازنا لما من شأنها كسر الأمر الواقع الحالي الذي يحرص الاحتلال على استمراريته في الأراضي المحتلة.
ويتماهى "الفيتو" الأمريكي مع المحدد الإسرائيلي ضد المصالحة الفلسطينية، إلا إذا جاءت ضمن شروط معينة تساعد على إحياء العملية السلمية، واستئناف المفاوضات، وذلك لدرء تبعات مشاركة "حماس" في الحكومة، وانضوائها في إطار منظمة التحرير، مع استمرار رفض نزع سلاحها، والاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وبوجوده، في ظل المشهد الإقليمي العربي المضطرب، وغير المؤثر في تقديم الدعم والنصرة المطلوبين للفلسطينيين، خارج سياق المواقف التضامنية.
في المحصلة، إن السعي الفلسطيني لإنجاز المصالحة، وإنهاء الانقسام، يمثل سبيلاً جمعيا لتحقيق الوحدة الوطنية، يشكل عنصراً رئيسياً في المكون السياسي الفلسطيني، وأساسا حيويا في مرحلة التحرر الوطني من نير الاحتلال، إلا أن ذلك يتطلب إرادة سياسية فلسطينية جادة، بدعم عربي إسلامي، لتحقيق ما يفوّت على الاحتلال فرصة تعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحته. وما عدا ذلك، فإن المحددات الداخلية والخارجية المتضادة ستغلب على أي أفق للمصالحة.