أسهم اعتقال السلطات التركية لموظف تركي يعمل في القنصلية الأمريكية في اسطنبول بتهمة التجسس، والسعي إلى الإطاحة بالحكومة التركية، والتعامل مع مجموعة الداعية الإسلامي، فتح الله كولن، الذي تتهمه أنقرة بتدبير الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016 ، في تأجيج التوترات المحتدمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، مما دفع سفارة الأولى في الثامن من أكتوبر الجاري إلى تعليق عملية إصدار تأشيرات لغير المهاجرين، وهو الإجراء الذي أعلنته سفارة الثانية في صباح اليوم التالي.
يأتي هذا التوتر المتزايد للعلاقات الأمريكية– التركية، برغم تأكيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال لقائه نظيره التركي في البيت الأبيض- في منتصف مايو الماضي - إنهاء فترة توتر العلاقات بين البلدين التي سادت خلال حكم سلفه باراك أوباما، إذ قال ترامب إن "العلاقات بين البلدين أضحت أوثق من أي وقت مضي"، فضلا عن تهنئته رجب طيب أردوغان على تمرير التعديلات الدستورية، رغم رفض الولايات المتحدة لها وحلفائها الأوروبيين.
وفي لقاء بين الرئيسين، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي، قال ترامب إن: "أردوغان أصبح صديقا لي، وأعتقد الآن أننا قريبان أكثر من أي وقت مضى". بيد أن هذا لم يمنع من توتر العلاقات بين الحليفين في حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو)، وتهديد الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين منذ عقود.
أسباب التوتر:
ثمة أسباب رئيسية لتوتر العلاقات الأمريكية- التركية منذ إدارة الرئيس السابق أوباما، والتي استمرت خلال الإدارة الحالية رغم إبدائها رغبة في تحسينها بعد سنوات من التدهور، كان آخرها أزمة توقف سفارتي الدولتين عن إصدار التأشيرات، التي بدت كاشفة عن عمق توتر العلاقات. وتتعدد أسباب هذا التوتر فى:
الدعم الأمريكي لأكراد سوريا: كانت تركيا تتوقع مع تغيير الإدارة الأمريكية في العشرين من يناير الماضي أن تتراجع إدارة ترامب عن سياسة الإدارة السابقة لتسليح ودعم ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية المتحالفة، حسب الرؤية التركية، مع حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة والولايات المتحدة على أنه منظمة إرهابية. بالإضافة إلى رفض الأولي مشاركة قوات سوريا الديمقراطية في تحرير مدينة الرقة السورية من قبضة تنظيم داعش. وبالفعل، نجحت تلك القوات في تحرير المدينة في 17 أكتوبر الجاري من قبضة التنظيم، والسيطرة الكاملة على المدينة، بعد أربع عشرة معركة ضد "داعش".
وأثار استمرار دعم إدارة ترامب لأكراد سوريا الذي تسبب في توتر العلاقات خلال إدارة أوباما غضب أنقرة لكونها ترى أن واشنطن لم تراع المخاوف التركية من أن دعم القوات الكردية وتسليحها يهددان أمنها القومي، وقد يؤديان إلى إقامة حكم ذاتي لهم في الشمال السوري، بمحاذاة الحدود التركية. وتقول أنقرة إن الأسلحة التي تدعم بها الولايات المتحدة وحدات حماية الشعب يستخدمها حزب العمال الكردستاني ضدها.
احتجاز تركيا لمواطنين أمريكيين: تشير الولايات المتحدة إلى أن النظام التركي قبض على عشرة أمريكيين، وبعض الأتراك الذين يعملون في الممثليات الدبلوماسية الأمريكية في تركيا، على خلفية اتهامهم بالعلاقة بالداعية التركي، فتح الله كولن، والذي تزعم أنقرة أنه العقل المدبر للانقلاب الفاشل فى منتصف يوليو من العام الماضى، فضلا عن أن السلطات التركية تمنع نظيرتها الأمريكية من التواصل القانوني مع المواطنين الأمريكيين المحتجزين. وقد يستخدم أردوغان المعتقلين الأمريكيين، كورقة لمساومة الولايات المتحدة لتسليمه كولن. لكن واشنطن ترفض تسليمه لأن تركيا لم تقدم لها القرائن على وقوفه خلف الانقلاب الفاشل.
تراجع التزام أردوغان بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان: كانت الولايات المتحدة تنظر إلى حكم حزب العدالة والتنمية في تركيا على أنه الأنموذج الأمثل لحكم التيار الإسلامي في العالم الإسلامي. وفي ظل طرح إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج دبليو بوش" قضية نشر الديمقراطية في العالم الإسلامي والعربي، كانت تروج لهذا النموذج الذي يمزج بين القيم العلمانية والإسلامية في صيغة تتفق مع القيم والمصالح الغربية، ولكن مع تولي أردوغان سدة الحكم في عام 2003، وتمرير التعديلات الدستورية الأخيرة، تحول نظامه باتجاه "السلطوية" و"الاستبدادية"، حسب كثير من التحليلات الأمريكية، ناهيك عن انتهاكات حقوق الانسان، والإعلام بعد الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2015.
العداء التركي للولايات المتحدة: يتهم أردوغان الولايات المتحدة بالتورط في الانقلاب العسكري الفاشل ضد حكمه، رغم النفي الأمريكي المتكرر لتلك المزاعم. وتأتي تلك الاتهامات مع ارتفع نسبة عداء المواطنين الأتراك للولايات المتحدة، حيث تظهر نتائج استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث، وظهرت نتائجه في أغسطس الماضي أن 72٪ من الأتراك ينظرون لواشنطن على أنها تمثل تهديداً أمنياً لدولتهم أكبر من الذي تمثله كل من روسيا والصين.
التعامل العنيف للحرس الشخصي لأردوغان مع المتظاهرين السلميين خارج مقر السفير التركي بواشنطن خلال زيارة الرئيس التركي للولايات المتحدة في منتصف مايو الماضي، مما دفع عضوين بمجلس الشيوخ الأمريكي، باتريك ليهي، وكريس فان هولن، إلى تجميد عملية بيع أسلحة أمريكية تقدر قيمتها 1.2 مليون دولار إلى الحرس الشخصي للرئيس التركي. وقد أثار توجيه القضاء الأمريكي اتهامات لثلاثة من الحرس الشخصي بالاعتداء على المحتجين الأكراد المشاركين في تظاهرة سلمية ضد الرئيس التركي غضب الأخير، حيث وصفها بـ"الفضيحة". وفي السابق، اتهم أردوغان الشرطة الأمريكية بالسماح لأعضاء حزب العمل الكردستاني الذي يصفهم بـ"الإرهابيين" بالتظاهر على مسافة 50 متراً منه، بعد لقائه الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض.
السياسات التركية المخالفة لرؤية أعضاء حلف شمال الأطلنطي (حلف الناتو): برغم أن الجيش التركي يعد الأكبر من حيث قواته البرية في الحلف بعد الولايات المتحدة، فإن أنقرة بدأت في الآونة الأخيرة في التغريد خارج الإجماع الأوروبي-الأمريكي، بتوطيد علاقاتها مع روسيا وإيران، ودعم التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي لا يلقي قبولاً من القوي الغربية، بالإضافة إلى شراء نظام دفاع جوي روسي "إس 400"، يتنافى مع البنية التحتية الدفاعية للحلف. ناهيك عن سياسات أردوغان المناهضة لقيم الحلف التي تقوم على الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، والدفاع المشترك، الأمر الذي يثير كثيرا من الشكوك حول التزام أنقرة بالحلف.
انتهاك العقوبات الأمريكية على إيران: انتهكت تركيا العقوبات التي يفرضها المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة على طهران بسبب برنامجها النووي بتصدير كميات كبيرة من الذهب إلى إيران، مقابل النفط والغاز الطبيعي، حيث يوجه الإدعاء الفيدرالي الأمريكي إلى مسئولين سابقين مقربين من الرئيس رجب طيب أردوغان تهمة التآمر مع رضا زراب، تاجر الذهب التركي الإيراني الذي قبضت عليه السلطات الأمريكية، في 22 مايو 2016، للتهرب من العقوبات المفروضة على إيران.
مستقبل العلاقات:
تمر العلاقات الأمريكية – التركية بأزمة لم يسبق لها مثيل منذ أزمة قبرص عام 1974. فمع تزايد المخاوف الأمنية من التطورات التركية، دعت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحية لها بعنوان "بعض الأسئلة العاجلة حول تركيا"، في 13 أكتوبر الجاري، إلى إزالة الأسلحة النووية الأمريكية من تركيا، حيث تضم قاعدة إنجرليك التركية نحو 50 سلاحاً نووياً تكتيكياً، وتدعو الصحيفة إلى الإسراع في اتخاذ هذا القرار قبل انهيار العلاقات الأمريكية – التركية.
ومن المتوقع أن تشهد العلاقات بين البلدين مزيدا من التوتر خلال الأشهر القادمة، لسببين رئيسيين، الأول: تباين المصالح الأمنية للدولتين في الوقت الراهن، واختلاف الأولويات الأمريكية والتركية في منطقة الشرق الأوسط، بل وتعارضها في كثير من الأحايين. أما السبب الثاني فينصرف إلى تطهير الرئيس التركي جيش بلاده بعد الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو 2016 من الموالين للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي، في إطار جهوده للسيطرة على مؤسسات الدولة، وتعيين كوادر قيادية جديدة في المؤسسة العسكرية تدين بالولاء لأردوغان وليس المؤسسة.
بيد أن هذا التوتر في العلاقات قد لا يستمر طويلاً، نظراً لحاجة تركيا والولايات المتحدة إلى بعضهما بعضا، حيث لا ترغب واشنطن في التضحية بأنقرة كحليف مؤثر في المنطقة، وهو ما تكشفه الزيارات المتكررة لمسئولين بالإدارة الحالية لتركيا، وعلى رأسهم نائب الرئيس ووزير الدفاع، ولقاء الرئيسيين التركي والأمريكي مرتين خلال تسعة أشهر. وفي الوقت ذاته، فلا تفضل أنقرة الابتعاد على القوى الغربية وواشنطن، لأن تحالفها مع روسيا وإيران مؤقتاً تفرضه التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط، ولا يتوقع أن يستمر ذلك التوتر، في ظل اختلاف رؤية أنقرة لدورها الإقليمي مع طهران، وعدم تضحية تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وعضوية حلف الناتو، مقابل علاقات آنية مع روسيا.