أعلنت الحكومة العراقية، مساء يوم 16 أكتوبر 2017، عن استعادة السيطرة على مدينة كركوك، وجميع المنشآت الحيوية بها، فور انسحاب قوات البشمركة الكردية من الحدود الجنوبية للمدينة دون قتال أو اشتباكات مع القوات العراقية، وهذا بعد تصعيد عسكري عراقي مدعوم من قبل إيران وتركيا، استمر 48 ساعة على حدود المدينة، مما أثار مخاوف إقليمية ودولية من حدوث اشتباكات عراقية – كردية، أو حرب أهلية كردية، بعد تردد أنباء حول صدور أوامر من قيادات كردية معارضة لرئيس الإقليم مسعود بارزاني بتسليم كركوك لتجنب التصعيد مع بغداد. ولذا، توالت الدعوات لبغداد وأربيل بتهدئة الوضع الميداني لتجنب المزيد من التوترات العسكرية بالعراق.
واقع كركوك:
مدينة كركوك هي أغنى مدينة عراقية نفطية، وإحدى المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، حيث تدعي كل منهما أن لها الحق في السيطرة عليها. وقد شهدت الفترة التي سبقت اقتحام كركوك تطورات سريعة متلاحقة ومتداخلة في الوضع السياسي والميداني العسكري بمحيط المدينة، وتصعيدا من القوات العراقية، ثم السيطرة الكاملة عليها. ومن مؤشرات ذلك التصعيد:
التصعيد السياسي: بدأ بين بغداد وأربيل إثر إجراء استفتاء بإقليم كردستان للانفصال عن العراق في 25 سبتمبر 2017، وهو ما رفضته بغداد وتعهدت بمنعه لأنه سيؤدي لتقسيم العراق. وقد حاولت دول عربية وأجنبية لعب دور الوساطة في الأزمة، بيد أن بارزاني رفضها. وفور بدء حشد القوات العراقية بمحيط كركوك، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تعيين أول محافظ عربي لكركوك منذ 2003، وهو راكان سعيد الجبوري، حيث كان يعين محافظ كركوك كردي بمعرفة بارزاني. ثم اتهمت بغداد أربيل يوم 15 أكتوبر 2017 باستقدام عناصر من "حزب العمال الكردستاني" التركي (يتخذ من جبال قنديل بكردستان العراق مركزا له، وتقوم عناصره بمهاجمة القوات التركية في محافظات ديار بكر وماردين بجنوب تركيا، انطلاقا من كردستان العراق) إلى كركوك لتقديم الدعم العسكري لها ضد القوات العراقية. وبدأت بغداد إرسال تعزيزات عسكرية لجنوب المدينة المتنازع عليها لانتزاعها من السيطرة الكردية.
التصعيد العسكري: بدأت القوات العراقية (وميليشيات الحشد الشعبي العراقية المدعومة من إيران) بشن هجمات على مواقع قوات البشمركة في محيط كركوك في ليل الـ 15 من أكتوبر 2017، وبدأ الهجوم على محاور "الداقوق، تازه، وطوزخورماتو". ثم صباح يوم 15 أكتوبر 2017 ، تقدمت القوات العراقية، وبدأت في اقتحام المدينة، ثم سيطرت على سنجار شمال الموصل دون اشتباك مع قوات البشمركة، ثم على حقلي نفط (باي حسن وأفانا) بعد انسحاب البشمركة منها دون قتال. وتجاوزت الخسائر النفطية منذ بدء التصعد بكركوك أكثر من 350 ألف برميل يوميا. ثم انسحبت قوات البشمركة الكردية من منطقة خانقين الغنية بالنفط بين العراق وإيران.
وفي يوم 16 أكتوبر 2017 ، أعلنت القوات العراقية السيطرة على مبنى محافظة كركوك، وأنزلت العلم الكردي، ورفعت العلم العراقي عليه، كما أعلنت السيطرة على آبار النفط الرئيسية بالمدينة ومطارها وقاعدة "كيوان" العَسكريّة. وقد حدث هذا بعد انسحاب قوات "البشمركة" الكردية بشكل كامل، حيث لجأت لثكناتها، ولم تشتبك مع القوات العراقية، أو تدافع عن المدينة، في مشهد أعاد للأذهان انسحاب القوات العراقية من المدنية ذاتها عام 2014، مما أدى لسيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي عليها لمدة عامين، ثم نجحت "البشمركة" في تحرير المدنية من "داعش" وسيطرت بدورها على كركوك، وأعلنت ضمها لإقليم كردستان كإحدى المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل.
استعادة كركوك:
هناك سببان لحسم القوات العراقية معركة كركوك والسيطرة عليها بشكل مباشر، ودون قتال، رغم تعهد رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني بالدفاع المستميت عنها، وهما:
اتفاق كردي- شيعي: كشفت مصادر برلمانية شيعية عراقية عن عقد اتفاق بين القيادي الكردي بافل الطالباني (النجل الأكبر للرئيس العراقي الراحل الكردي جلال الطالباني، وهو من المعارضين لبارزاني، ولانفصال كردستان عن العراق، حيث يرى ضرورة الحوار لحل جميع المشكلات بين بغداد وأربيل)، وقائد منظمة بدر التابعة للحشد الشعبي هادي العامري(شيعي)، وقائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الذي تردد أنه يقود بنفسه المعارك العراقية ضد كركوك. ويتضمن الاتفاق بين تلك الأطراف (عودة القوات العراقية إلى كركوك، وانسحاب قوات البشمركة الكردية، وسيطرة الحكومة المركزية ببغداد على قاعدة كيوان، والمطار، وآبار النفط، وإعادة حركة الملاحة الجوية إلى مطار السليمانية، ودفع رواتب موظفي السليمانية وكركوك ورواتب قوات البشمركة وفقاً لقائمة يعدها بافل الطالباني)، وذلك مقابل إنشاء إقليم جديد بالعراق يضم "السليمانية، وكركوك، وحلبجة"، وتأسيس حكومة جديدة في الإقليم الجديد، يحكمها على الأرجح بافل طالباني. جدير بالذكر أن مدينة السليمانية إحدى مدن كردستان الثلاث، ومعقل عائلة الطالباني، وفي خصومة مستمرة مع مدينة أربيل وبارزاني، ولذا رفضت السليمانية الانفصال، ولها قوات من البشمركة تابعة لطالباني، ويطلق عليها اسم "القوة 70"، وهي أولى القوات الكردية التي انسحبت من كركوك، وهذه القوات تأتمر حاليًا بأمر أرملة طالباني السيدة هيرو إبراهيم وأبنائها.
- تحالف عراقي- تركي- إيراني: فور الإعلان عن موافقة إقليم كردستان على الانفصال، تعهدت العواصم الثلاث، أنقرة وطهران وبغداد، بمنع إنشاء دولة كردية، ملوحة باستخدام الخيار العسكري إذا تطلب الأمر ذلك. وهذا ما حدث، فطهران استخدمت ميليشيات الحشد الشعبي لدعم قوات الجيش العراقي في اقتحام كركوك. وفور دخول المدينة، بدأت تلك الميليشيات في ارتكاب جرائم بحق المواطنين الأكراد. وأنقرة تؤكد باستمرار أن كركوك تركمانية، وأنها ستتدخل في أي وقت لحماية التركمان من الاضطهاد الكردي الذي يتعرضون له، كما أعلنت أنقرة تعبئة عامة لقواتها في معسكر "بعشيقة" العسكري بمدينة الموصل القريبة من كركوك. وهذه القوات يمكنها في أي وقت مهاجمة "البشمركة". ولذا، فضلت الأخيرة أن تنسحب دون قتال، لأنها تعلم جاهزية القوات التي كانت ستقاتلها، ليست فقط القوات العراقية، بل ميليشيات إيرانية تمكنت من هزيمة "داعش"، وقوات تركية تقوم بعمليات مستمرة داخل العراق، وتعلم طبيعة الوضع الميداني به، مما يسهل على القوتين الانتصار على البشمركة في أي معركة، ولذا فضلت القوات الكردية الانسحاب دون قتال. وبهذا، لن يتمكن بارزاني من إعلان الدولة الكردية دون كركوك التي يرى أنها مدينة كردية انتزعت من الإقليم لمصلحة بغداد، ويطلق عليها الأكراد اسم "قدس الأكراد" نظرًا للمكانة التاريخية المؤثرة لتلك المدينة.
ردود فعل:
المواقف الدولية: حيث أيّدت واشنطن ضمناً تحرك بغداد ضد كركوك، رغم أنها دعت علانية الطرفين للتهدئة، وتجنب التصعيد العسكري، مع تأكيد رفضها أي محاولات لانفصال كردستان عن العراق في الوقت الحالي، لأن ذلك يؤثر فى مكافحة تنظيم "داعش". كما دعت موسكو بغداد وأربيل لحل الخلافات بينهما بالحوار للحفاظ على وحدة العراق، واحترام حقوق الأكراد. وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي طالب جميع الأطراف بكركوك بالتهدئة، وتجنب التصعيد، والاعتماد على الحوار لحل جميع المشكلات المعلقة بين بغداد وأربيل.
الموقف الإيراني: حيث تعهدت طهران بمنع إنشاء الدولة الكردية، بيد أن سرعة تحركها ضد كركوك، وقيادة قاسم سليماني المعركة هدفه الأساسي تخفيف الضغط الأمريكي عن طهران، حيث إن المعركة جاءت بعد 60 ساعة فقط من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مراجعة الاتفاق النووي مع إيران، فضلا عن عزم واشنطن تصنيف الحرس الثوري الإيراني على لائحة داعمي الإرهاب، وهو ما سيضاعف الضغوط السياسية والاقتصادية على إيران. ولذا، فضلت افتعال أزمة عراقية إقليمية لتخفيف الضغط عليها.
الموقف التركي: أنقرة كان لديها دافعان لتأييد التحرك العسكري العراقي ضد كركوك، الأول: هو إنهاء أى وجود لعناصر "حزب العمال الكردستاني" في العراق. أما الآخر، فهو إحباط أى محاولات لبارزاني لإنشاء الدولة الكردية التي ترفضها أنقرة بشدة، لأنها ستشجع أكراد تركيا على المطالبة بالانفصال وتقسيم البلاد.
الموقف العراقي: فقد أصدر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بيانًا أكد فيه أن الجيش العراقي دخل كركوك لحماية وحدة البلاد التي تعرضت لخطر التقسيم نتيجة الإصرار على إجراء استفتاء الانفصال، وقد كان موقف العبادي قويا وثابتا. ويمكن تفسير ذلك بالدعم الإيراني والأمريكي الذي تلقاه. وهدفت واشنطن من دعم البعادي لاستعادة السيطرة على كركوك، ورفع شعبيته السياسية ليفوز بالانتخابات العراقية المقبلة المقرر إجراؤها في عام 2018، وذلك لمنع سلفه نوري المالكي، حليف طهران، من الفوز بالانتخابات، والعودة لرئاسة الوزراء.
الموقف الكردي: كان الانقسام هو المسيطر على المشهد السياسي بين الأطراف الكردية، حيث اتهم بارزاني، والقادة السياسيون بالحزب الديمقراطي الكردستاني، المسيطر على عاصمة إقليم كردستان أربيل، قادة البشمركة، والقادة السياسيين بالاتحاد الوطني الكردتساني في السليمانية (كان يقود الحزب "الطالباني"، ومن بعده نجله "بافل") بالخيانة، والانسحاب، وتسليم كركوك لبغداد، وهو ما نفته السليمانية، وأكد قادتها السياسيون أن هدف بارزاني شخصي، حيث يسعى للبقاء في الحكم، ولتعظيم مجده السياسي، وليس لإقامة دولة كردية، وبرروا الانسحاب العسكري بأنه كان لحقن دماء الأكراد والعراقيين، وتجنب حرب أهلية بين بغداد وأربيل.
سيناريوهات محتملة:
فتح تحرك بغداد العسكري ضد كركوك جبهة جديدة للنزاع في العراق، وهو نزاع متعدد الأطراف الإقليمية والدولية أيضًا. وهناك العديد من السيناريوهات المستقبلية التي ستكون مرجحة خلال المرحلة المقبلة:
السيناريو الأول هو التهدئة وبدء الحوار، ويعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا، حيث إنه ليس من مصلحة أى طرف داخلي (الحكومة العراقية، وحكومة أربيل، والقيادة الكردية في السليمانية) أو حتى خارجي، كإيران وتركيا، تصعيد الموقف أكثر من ذلك، لأنهم حققوا الهدف المطلوب، وهو استعادة السيطرة على كركوك. ولذا، يمكن بدء حوار عراقي- كردي لبحث إدارة الوضع بكركوك. ومن المؤشرات على ذلك انسحاب البشمركة، ورفضها مواجهة القوات العراقية، وكذلك قبول بارزاني لمبادرات الوساطة والتهدئة مع بغداد، بعد إعلان نتيجة الاستفتاء، بيد أن بغداد رفضت، وطالبت بإلغاء نتائج الاستفتاء قبل الحوار. وهو مطلب الهدف منه استعادة كبرياء الحكومة المركزية التي شعرت بالإهانة من إجراء الاستفتاء. بيد أن ذلك الشعور قد تغلبت عليه بغداد باستعادة كركوك من سيطرة أربيل، وهي خطوة للرد على خطوة الاستفتاء.
السيناريو الثاني، يتمثل في حدوث مواجهات كردية –عراقية، لكن هذا السيناريو يحتمل حدوثه في حال استمرت قوات "الحشد" في ممارسة الانتهاكات بحق الأكراد في كركوك، مثلما فعلت في المدن السنية التي حررتها من "داعش"، حيث ترددت أنباء حول قتل ونهب ممتلكات في بعض أحياء كركوك على يد قوات "الحشد"، الأمر الذي سيثير غضب الأكراد، حال استمراره، وربما يتم الرد عليه من خلال مواجهات مسلحة ضد القوات العراقية وميليشيات البشمركة. بيد أن تلك المواجهات ستكون محدودة، لأن القوات الكردية، رغم كفاءتها، لن تتمكن من صد هجمات لقوات عراقية تتلقى دعما عسكريا إيرانيا وتركيا، وستتمكن من ذلك في حالة واحدة، هي أن تتلقي بدورها دعما روسيا أو أمريكيا، نظرا للعلاقات الجيدة بين موسكو وأربيل، وبين الأخيرة وواشنطن. بيد أن موسكو وواشنطن تريدان المحافظة على التهدئة، وعدم التصعيد أكثر من ذلك في الملف العراقي، حتى لا يتيح فرصة "لداعش" للانتشار مرة أخرى بالعراق، لاسيما أنه سيطر على قريتين شمال كركوك.
السيناريو الثالث، يتمثل في اندلاع مواجهات كردية – كردية، وهو يعنى تفاقم الخِلافات بين الشّريكين الرئيسيين في حُكم كردستان، الحزب الديمقراطي الكردستاني بأربيل، والاتحاد الوطني الكردستاني بالسليمانية، وهذا يثير المخاوف من تكرار الحرب الأهلية بينهما مرة أخرى، خاصة في ظل غياب شخصية محورية كانت "رمانة الميزان" في الإقليم، وهو الرئيس الراحل جلال الطالباني، الذي انتقل إرثه السياسي لأبنائه، وهم يملكون رؤى مغايرة له، حيث يريد "بافل" إنشاء إقليم يتمتع بحكم ذاتي، على رأسه السليمانية، وهو ما يرفضه بالطبع البارزاني، ولذا يمكن نشوب حرب بينهما، خاصة أن كلا منهما يسيطر على جزء من قوات البشمركة. وحال تم ذلك، فإن البارزاني سيتلقي دعما أمريكيا، بينما سيتلقي بافل الطالباني دعما إيرانيا وتركيا. وسيكون الهدف من الاقتتال الكردي – الكردي، حال تم، القضاء على قوة ونفوذ البارزاني بالإقليم، وربما سيتخذ شكل مواجهات ومناوشات عسكرية محدودة، وليس بالضرورة أن يكون حربًا أهلية كبيرة بين الطرفين.
وختامًا، نؤكد أن النزاع على مدينة كركوك قد أعاد التركيز على أهمية المدن الجيواستراتيجية التي تتمتع بموقع مهم، مثل كركوك التي تربط وسط العراق بشماله، وتتحكم في عدد من المعابر بين العراق، وإيران، وتركيا، وكذلك لديها ثروات مهمة كالنفط. ولذا، فإن مدينة كركوك ستكون ساحة لأحداث كثيرة مقبلة، وستتصدر المشهد السياسي، والنزاع العراقي- الكردي، والنزاع الإقليمي الدولي على العراق.