ألقى وصول المرشح القطري للجولة الأخيرة فى الانتخابات أمام المرشحة الفرنسية والشبهات التي حامت حول الدور القطري في تفتيت كتلة الأصوات العربية، كل ذلك في ظل الصورة الذهنية غير الإيجابية عن قطر دوليا، الضوء على بعدين مهمين فى العلاقات الدولية. يتناول الأول ما تحدث عنه تفصيلا أستاذ العلوم السياسية جوزيف ناى من تغير طبيعة القوة فى العالم، والآخر هو سلوك الدول الصغيرة small state ، والعلاقة بين حجم الدولة وسياستها الخارجية فى النظام الدولى. ويقدم البعدان معا تفسيرا لمسار التحرك الخارجي لدولة قطر.
جادل "ناى" بأن مفهوم القوة تتغير طبيعته، ولم يعد حجم السكان والمواد الخام هما من محددات القوة الرئيسية في عصر المعلوماتية، والتكنولوجيا، والتقدم الاقتصادى. ففي القرن الثامن عشر، كان حجم السكان، وجباية الضرائب، وتجنيدهم كمشاة هي الأساس فى تحديد قوة الدولة. ثم فى عصر الثورة الصناعية، كانت قوة أي دولة تتحدد بازدياد قدرتها على إنتاج الفحم وامتلاك أدوات الإنتاج. وقد شهد العالم العصر النووي، وامتلاك القدرات النووية. وفى عصرنا اليوم، أضحت عوامل التكنولوجيا، والتعليم، والنمو الاقتصادي هي الأكثر أهمية، وشرعت مصادر القوة تبتعد بوجه عام عن التركيز على القوة العسكرية التي تميزت بها عصور وأزمنة سابقة.
لا يعني ما سبق التخلي عن مصادر القوة التقليدية– الصلبة- فتلجأ إليها الدول عادة لدى ممارسة سياسة خارجية تتسم بالإكراه، والقسر، والترهيب. ولكن هناك أيضا مصادر للقوة الناعمة باتت تكتسب تأثيرًا فى تفاعلات السياسة الدولية، والتي أضحت لها مكانة دولية فى عالم الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا، وتقليل ممارسة السياسة الدولية فى بعدها العسكري والمسلح، بل اتباع سياسات الجذب والإغراء، عوضا عن القسر والإكراه.
وفى سياق الحديث عن تحول مصادر القوة من صلبة أو مادية إلى ناعمة وغير مادية، يتجلى توظيف قطر للتحول فى طبيعة القوة فى النظام الدولى. فـقطر – الدولة الصغيرة small state بمعايير القوة في العلاقات الدولية، والتى ترى المدرسة الواقعية وجوبية الارتباط بين حجم الدولة وسلوكها الخارجي- تحاول أن تتجاوز مصادر ضعف القوة لديها، والمتمثلة فى حجم السكان، والموقع الجغرافي، والقوة العسكرية، ومؤشرات قوة الدولة بالمعنى التقليدى، إلى التركيز على جوانب القوة الناعمة لممارسة سياسة خارجية تتجاوز حجمها كدولة صغيرة، كأن تتبنى سياسة دولية محايدة، لكن الطموح القطري ممزوج بأمل ممارسة تأثير ما فى السياسة الدولية.
وانطلاقا من جوهر القوة الناعمة، وما يمكن أن تقدمه الدولة من نموذج جذاب للأفكار والثقافة، وغيره، يثور التساؤل حول ما هي جاذبية الأفكار والتاريخ، والموارد التي تمتلكها قطر، وتمكنها من أن يصبح لديها نموذج؟ وفى ظل غياب ما يمكن أن تقدمه قطر من جاذبية النموذج، فإنها تستخدم بشكل مباشر المال الناتج من عوائد النفط لشراء مصادر وآليات القوة الناعمة، لتنافس، وتؤثر، وترسخ مكانتها في السياسة الدولية، عبر العضوية في المؤسسات الدولية، وتخصيص موارد مالية ضخمة لشراء مبان معروفة عالميًا، أو تأسيس مراكز الأبحاث الأجنبية على أراضيها، أو تمويل برامج بحثية معينة، فضلا عن الدور المعروف للأداة الإعلامية "قناة الجزيرة"، وكل ذلك بهدف دعم حضورها دوليا، والتأثير فى السياسة الإقليمية وفق أجندتها الخاصة، اعتمادا على أن العبرة ليست فيما تمتلكه الدولة من موارد، بل في قدرتها على تحويل هذه القوة المقيسة بالموارد إلى قوة مؤثرة فى تغيير سلوك الآخرين.
ويقينا، لا يمكننا وسم سلوك السياسة الخارجية القطرية بأنه نجاح فى التوظيف لموارد القوة الناعمة، بقدر ما أنه استخدام واضح للمال السياسى دولياً. ويؤكد ذلك الطرح العديد من المؤشرات، منها ما يثار من معلومات حول حق استضافة كأس العالم عام 2022، والحديث عن الإغراءات القطرية خلال انتخابات منظمة اليونسكو، والوعد بحل أزمة التمويل المنظمة، فى ظل انسحاب الولايات المتحدة من تمويلها، وتقديم عروض قطرية سخية للدول الأعضاء من أجل دعم المرشح القطري، بحسب صحيفة اللوموند الفرنسية.
وأخيرا، وفى ظل ما تعانيه المنظمة من مشكلة في التمويل، واحتياج لتمويل برامجها فى العالم، نوجه التساؤل: هل يمكن أن يستمر نموذج قطر، كإحدى الدول الصغرى الساعية لدور يتجاوز قدراتها الحقيقية، واستخدام المال السياسى، بجانب دورها التقليدى كدولة وكيل فى المنطقة؟