شهدت الأيام القليلة الماضية تطورات متلاحقة ستحدد مستقبل التعامل الإقليمي والدولي مع تداعيات إجراء إقليم كردستان العراق استفتاء على الانفصال عن العراق. فهناك رفض إقليمي ودولي بالاعتراف بنتائج الاستفتاء التي تجاوزت 90% لمصلحة الانفصال عن العراق، وإعلان دولة منفصلة.
وتختلف المحددات الإقليمية والدولية حول رفض الاستفتاء، مما يضاعف الضغط على إقليم كردستان الذي أبدى بعض المرونة فيما يتعلق ببدء حوار لحل الأزمة.
تقارب إقليمي:
حددت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لطهران يوم 4 أكتوبر 2017 خيارات التعامل الإقليمي مع تداعيات استفتاء كردستان العراق، حيث أصبح هناك اتفاق تركي-إيراني-عراقي على رفض أى محاولات كردية للانفصال، ومحاصرة كردستان العراق عبر إغلاق جميع المعابر البرية معه، وهو ما سيعمل على فرض حصار اقتصادي على الإقليم، وتزامن مع ذلك تصعيد عسكري، حيث بدأت مناورات إيرانية- عراقية على الحدود المشتركة بينهما.
*اتفاق على محاصرة كردستان: اتفقت طهران وأنقرة على اتخاذ كل ما يلزم لمنع الاعتراف بدولة كردية، وأكد الرئيسان أردوغان وروحاني أن تركيا وإيران لن تَقبلا مُطلقًا بتفتيت المنطقة، وأعلنا تمسّكهما بوحدة الأراضي العراقيّة والسوريّة، حيث تتخوف الدولتان من تصاعد المطالب الانفصالية بين أكراد إيران، البالغ عددهم 7 ملايين نسمة، ويتركزون بغرب البلاد، وأكراد تركيا البالغ عددهم 15 مليون نسمة، ويتركزون جنوب البلاد.
وقد طالبت أنقرة بتجميد نتائج استفتاء كردستان، وهو ما رفضه رئيس الإقليم مسعود بارزاني. ووصف أردوغان الاستفتاء بأنه مشروع عدائي خارجي تقف وراءه إسرائيل، وتعهد بغلق جميع المعابر البرية بين بلاده وكردستان، وطلب من بغداد فتح ممر حدودي جديد بين الدولتين، بينما هدد رئيس هيئة الأركان الإيرانية باتخاذ إجراء عسكري ضد كردستان، وهو ما وصفته قوات البشمركة "بالتدخل السافر في شئون كردستان العراق لأن قضية الاستفتاء أمر كردي داخلي".
وقد حضر اللقاءات رئيس أركان الجيش التركي الجنرال خلوصي آكار، ورئيس الأركان الإيراني محمد باقري، والأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، مما ينذر بتحرك عسكري تركي- إيراني ضد كردستان، سيتم بالاتفاق مع الحكومة العراقية المركزية في بغداد، وبموافقة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، القريب من طهران، ليكتسب ذلك التحرك- إن تم- قدرًا من الشرعية الدولية، ولا يكون عملا خارج القانون، أو انتهاكا لسيادة العراق.
تقارب تركي- إيراني: توصف العلاقات التركية- الإيرانية دوما بأنها متذبذبة، حيث تكثر فيها نقاط الخلاف على الاتفاق. بيد أن رفض الدولتين الصارم لاستفتاء كردستان، أو إعلان الدولة الكردية، عزز من علاقاتهما، ودشن مرحلة جديدة من التوافق التركي- الايراني، حيث تلاقت مصالح الدولتين في عدد من الملفات، منها الملف الكردي، حيث اتفقت الدولتان على مواصلة التنسيق والتعاون العسكري والأمني ضد أى حركات انفصالية كردية، ومنها كردستان العراق، وحزب العمال الكردستاني التركي، وحزب بيجاك الإيراني الكردي.
كما تلاقت مصالح الدولتين في دعم الدولتين لقطر، خلال أزمتها مع الدول الخليجية، الاتفاق الواضح على تقاسم النفوذ في الملف السوري عبر تثبت مناطق "خفض التوتر" تمهيدا للتسوية النهائية للأزمة بما يحافظ على مصالح أنقرة وطهران، فضلا عن التعاون الاقتصادي بينهما الذي تعهدت طهران بمضاعفة قيمته الحالية (تبلغ 10 مليارات دولار) لثلاثة أضعاف خلال عامين، مع التزام الدولتين بالتعامل البيني بالعملات المحلية (الليرة التركية، والريال الايراني)، مما سيعزز اقتصادى البلدين.
ومن مظاهر هذا التقارب زيارة رئيس الأركان الإيراني إلى أنقرة في أغسطس الماضي للمرة الأولى منذ عام 1979، ولقاء الرئيسين حسن روحاني، ورجب طيب أردوغان ثلاث مرات خلال شهر واحد، فقد عقدا اجتماعا في أستانة أوائل سبتمبر2017، ثم عُقد لقاء ثلاثي بين أردوغان، وروحاني، ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، في نيويورك خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2017.
ثم جاءت زيارة أردوغان لطهران التي التقي فيها للمرة الأولى بالمرشد الاعلي للثورة الإسلامية علي خامنئي، وقد جدد الأخير بدوره موقف بلاده الرافض للاستفتاء، لأنه "يهدد مستقبل المنطقة". ولذا، فإن من أهم تداعيات الاستفتاء هو التقارب الذي بلغ حد التعاون العسكري بين دولتين إقليميتين لهما تطلعات توسعية بمد نفوذهما بالمنطقة، هما تركيا وإيران.
رفض دولي:
رفضت جميع الدول الأوروبية، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، ومعظم دول العالم الاعتراف بنتائج الاستفتاء، ودعت للحفاظ على وحدة العراق، ولم تعترف به أو تؤيده سوى إسرائيل. بيد أن كلا منها لها دوافعها التي تحدد موقفها.
الموقف الأمريكي: الرفض الأمريكي لانفصال كردستان العراق هو رفض للتوقيت فقط، وليس لمبدأ الانفصال، لأن ذلك المبدأ أقر في الدستور العراقي الذي وضع عام 2005 بإشراف أمريكي، وواشنطن الآن من أكبر حلفاء الأكراد، وقدمت لهم الدعم اللوجيستي والعسكري للانتصار على "داعش" في سوريا والعراق. وبالفعل، نجحت القوات الكردية في إلحاق هزائم متكررة بالتنظيم والتنظيمات الإرهابية الأخرى، مما رفع من مكانة الاقليم لدى واشنطن، وعزز من التحالف بين الطرفين.
بيد أن واشنطن ترى أن الوقت غير مناسب لتقسيم العراق الآن. والأولوية هي مكافحة الارهاب، والقضاء على وجود تنظيم "داعش" وجيوبه التي لا تزال تهدد أمن واستقرار المنطقة. فبرغم أن التنظيم قد هزم في العراق وسوريا، فإنه لا يزال يتمركز في بعض المدن، مثل الحويجة غرب بغداد، ودير الزور بسوريا.
الموقف الأوروبي: طرحت عدة دول أوروبية وساطتها بين بغداد وأربيل لاحتواء الأزمة المتصاعدة حول انفصال إقليم كردستان، وكان أبرزها الوساطة الفرنسية التي عرضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال استقباله رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بباريس يوم 5 أكتوبر الجاري. بيد أن الاخير لم يقبلها، واشترط إلغاء نتائج الاستفتاء قبل بدء أى حوار مع أربيل.
ويعتمد الموقف الأوروبي على رفض تقسيم العراق، لأنه سيؤدي لتقسيم دول أخرى في الشرق الأوسط، مما يفاقم مشكلات تلك الدول، وينعكس سلبا على دول الاتحاد الأوروبي عبر ارتفاع معدلات العمليات الإرهابية داخل دول الاتحاد المنفذة من قبل لاجئي الشرق الأوسط، وارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية. ولذا، تطرح تلك الدول وساطات لاحتواء الأزمة بين بغداد وأربيل، تقوم على منح كردستان المزيد من الحقوق والصلاحيات، والحفاظ على وحدة العراق.
الموقف الروسي: أصبحت روسيا لاعبًا مؤثرًا في قضايا الشرق الأوسط منذ بداية تدخلها العسكري في الملف السوري منذ عامين، وقد أعلنت موسكو رفضها الاعتراف بنتائج الاستفتاء، أو انفصال كردستان العراق، كما رفضت فرض أى عقوبات اقتصادية على الإقليم الغني بالنفط، لأن ذلك سيؤثر فى أسعار النفط العالمي، الذي تسعى موسكو للتحكم فيه أو إدارته. كما أن موسكو ترتبط بمشروعات لإمداد الغاز الطبيعي والنفط مع كردستان، وعدد من الدول الأوروبية، وحصار كردستان سيؤدي لتوقف تلك المشروعات، ويؤدي للإضرار بالاقتصاد الروسي.
انقسام كردي:
بدأ الانقسام يسيطر على المشهد السياسي الكردي بعد الإعلان عن الاستفتاء، حيث انقسم الشارع الكردي إلى طرفين، الأول رئيس الإقليم مسعود البارزاني، والمؤيدين للاستفتاء. أما الطرف الثاني، فيرفض الاستفتاء، ويطالب بإلغائه لتجنب العقوبات الاقتصادية والعسكرية الصادرة ضد أربيل من أنقرة، وطهران، وبغداد. هذا الطرف يتركز في مدينة السليمانية، معقل الرئيس السابق الزعيم الكردي جلال طالباني، الذي توفي حديثا عن 84 عاما، حيث ينقسم إقليم كردستان لثلاث مدن هي (أربيل العاصمة، والسليمانية، ودهوك).
ودائما كان هناك تنافس سياسي علي قيادة الشعب الكردي بالعراق بين السليمانية وأربيل، بلغ حد الحرب الأهلية بين المدينتين بقيادة الزعيمين طالباني، والبارزاني، استمرت لمدة 4 سنوات، وانتهت بوساطة أمريكية، مما يثير المخاوف من تكرار تلك المواجهات العسكرية بين أربيل والسليمانية، حال تفاقمت الخلافات الكردية.
*رفض السليمانية للاستفتاء: أصدرت أرملة الطالباني السيدة هيرو إبراهيم، أحد أبرز قادة حزب الاتحاد الوطني، بياناً شديد اللهجة ضد البارزاني، دعته فيه للتراجع عن "خطأ الاستفتاء"، لأن الشعب الكردي سيدفع ضريبة التحدي الذي أقدم عليه.
كذلك، أعلن رئيس وزراء كردستان الأسبق القيادي البارز بالاتحاد الوطني الديمقراطي الكردستاني برهم صالح تأسيس تيار سياسي جديد باسم "الديمقراطية والبناء" ضد بارزاني. كما انتقدت حركة "التغيير" المعارضة "تفرد البارزاني بالقرار السياسي"، واتهمته بافتعال الأزمة المالية بالإقليم، والفراغ القانوني، وغياب العدالة الاجتماعية، وتهديد حياة المواطنين بالمزيد من العقوبات، حال استمرار تمسكه بموقفه من الاستفتاء.
هذا الرفض يهدد بتفاقم الانقسام الكردي، كما يضعف موقف البارزاني، خلال تفاوضه مع بغداد، أو مطالبته بالحقوق الكردية، لأنه لم يعد يمثل جميع الشعب الكردي العراقي.
تراجع البارزاني: هذه الانتقادات المتصاعدة ضد البارزاني، واتهامه المستمر بالتفرد بالقرار، دفعاه لإبداء قدر من المرونة والقبول بأكثر من مبادرة للحوار، حيث إنه قبل المبادرة التي طرحها إياد علاوي ( رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نائب الرئيس العراقي حاليا)، وأسامة النجيفي (نائب الرئيس العراقي حاليا)، وتضمنت إيقاف التحريض السياسي والإعلامي بين بغداد وأربيل، وعدّ مدينة كركوك والمناطق المتنازع عليها مناطق عراقية لكل العراقيين، وفتح باب الحوار دون شروط مسبقة.
كما استقبل البارزاني رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري، الذي قام بأول زيارة من مسئول عراقي لأربيل، بعد الاستفتاء الذي أجري في 25 سبتمبر 2017، واجتمع به، واتفق الطرفان على تبني "الحوار" لحل الأزمة. بيد أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي رفض المبادرتين، ورهن بدء أى حوار بين بغداد وأربيل بإعلان البارزاني إلغاء نتائج الاستفتاء أولا، وهو غير ممكن فعليًا، لأن الاستفتاء نفذ بالفعل، وأصبح أمرًا واقعًا.
مما سبق، فإن البارزاني يبدو أنه كان متسرعًا في اتخاذ قرار إجراء الاستفتاء على انفصال كردستان العراق، ولم ينجح في وضع ترتيبات واقعية لردود الفعل الإقليمية والدولية، بل إنه لم يضع سيناريوهات ما بعد الاستفتاء، وكان هدفه الأول إجراءه فقط لاحتواء الانتقادات الكردية ضده، والتي تفاقمت فيما بعد.
ومن بين المواقف التي لم يحسبها البارزاني هو التقارب التركي–الإيراني، فأصبحت الدولتان في جبهة واحدة ضد دولة كردية مستقبلية، وهذا عزز التنسيق والتعاون الثنائي بينهما في مختلف القضايا، مما سيكون له تأثيرات سلبية في تعاملهما مع الملفات العربية التي ستدار وفق مصالح دول غير عربية.
أما الموقف الدولي، فلن يكون حاسمًا إلا حال ضغطت واشنطن على البارزاني والعبادي للقبول ببدء الحوار، واحتواء الأزمة. ويمكن طرح تطبيق النظام الفيدرالي كنظام حكم للدولة العراقية، يمنح الأكراد المزيد من الصلاحيات في الحكم الذاتي، مقابل رفض الانفصال، أو تقسيم العراق.