يرفع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) شعارات متعددة تدعو للفصل بين الرياضة والسياسة. يوسّع الدائرة أكثر، فيمنع وضع أي شعارات تجارية، أو دينية، أو سياسية. يصدِّق البعض ما يروّجه أشهر اتحاد رياضي عالمي، يتعاملون مع قوانينه، بعدّها "قواعد راسخة"، بينما الواقع يؤكد أنها مجرد "استثناءات". اسألوا كيانات رياضة، ودولا متعددة عن أسباب وأبعاد ودوافع العقوبات السريعة التي يفرضها عليهم الـ"فيفا"، ستعرفون أنها سياسية في الأساس.
الـ"فيفا" أقوى من دول، ومنظمات كبرى في العالم. هذه حقيقة تتراجع أمام جبروته الأمم المتحدة، ومجلس الأمن. يكتسب مكانته الكبيرة، وقراراته الصارمة من انتشاره، فهو يدير 207 اتحادات محلية لكرة القدم، بينما الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أقل من هذا العدد. زادت سطوته بعد اقتطاع الجزء الأكبر من صغار السنّ والشباب (من بين الجماهير المحبة لكرة القدم) التي راحت تنتظم منذ سنوات، تحت مظلة "روابط الألتراس"، مجهول القيادة.
لم يعد هناك شك في الدور المثير للجدل الذى تلعبه روابط الألتراس، على الأقل خلال السنوات العشر الأخيرة. لا فرق بين العالم الثالث، أو حتى الدول المتقدمة، يرفعون شعارات الـ"فيفا" نفسه، ينكرون أية علاقة لهم بالأنشطة السياسية، لكن توجهاتهم وتحركاتهم تتناقض مع الشعارات المرفوعة.
يلعب مشجعو الأندية "الكتالونية" في إسبانيا الدور نفسه حاليًا. الجماهير الغفيرة التابعة لـ 9 أندية (برشلونة، جيرونا، إسبانيول، أوسبيتاليت، بادالونا، ساباديل، ماتارو، ياجوستيرا، خيمناستيك طركونة) تحرّك الأحداث في جوٍّ من الاحتقان، تصنع حالة من التوازن، وتجعل السلطة المركزية في إسبانيا عاجزة، ليس فقط أمام نتائج استفتاء الإقليم، الراغب في الانفصال، لكن أمام مواجهة سطوة جموع المشجعين.
حالة برشلونة معبّرة بقوة. النادي العريق (عدد أعضائه 180 ألفًا) الذي يحظى بقاعدة جماهيرية كبيرة في إقليم كتالونيا، وفى عموم إسبانيا، يرجح كفة الاستقلال. جماهير النادي ومحبوه يدعمون رأيه المؤيد والداعم (بشكل غير رسميّ) لخيار تقرير المصير في كتالونيا. رأى النادي وجمهوره يعزز موقف 90% من سكان الإقليم (7.5 مليون نسمة).
لن نخوض في واقعية المطالب الداعية لانفصال كتالونيا عن إسبانيا. تفاصيل تاريخية، وأخرى ومعقدة تعتري هذا الملف، تمتدّ منذ القرن الخامس عشر الميلادي. البعض الآخر يؤرخ للأزمة بزواج فرديناند (ملك أراجون) وإيزابيلا (ملكة قشتالة) قبل توحيد مملكتيهما. ظلّت هناك نزعة متأججة داخل الإقليم تطالب بحماية الهوية الكتالونية، تحوّلت إلى قضية مصير بسلسلة قرارات اتّخذها الراحل، فرانشيسكو فرانكو، عندما ألغى اللغة والعلَم الكتالونيين. يعنينا فقط لجوء أهالي الإقليم لمدرجات كرة القدم، لحسم خيارهم المتمسك بالانفصال.
استغلّ أهالي الإقليم فرق كرة القدم، وظّفوا المدرجات في رفع علم كتالونيا، أطلقوا العنان لشعاراتهم السياسية دونما نتوقف أمام مباراة أخيرة بين برشلونة ونظيره "لاس بالماس". عشية إعلان نتائج الاستفتاء الخاص بانفصال الإقليم، هتفت الجماهير (الممنوعة من دخول المدرجات): "استقلال.. استقلال.. استقلال"، ولم لا وشعار برشلونة الشهير يشير صراحة إلى أنه "أكثر من مجرد ناد؟".
تبدى التوظيف السياسي لسطوة الأندية الكتالونية (تحديدًا دوري الدرجة الأولى: برشلونة، جيرونا، إسبانيول) بوضوح في قرار "الإضراب الموحد". هذه الخطوة تختصر حالة التداخل بين الرياضة والسياسة، تدقّ جرس إنذار جديدا، ينبّه إلى أن الفصل بينهما مجرد وهم، وأن التداخل حاضر بقوة في تحديد مصائر الجغرافيا، وله دور حاسم في كتابة التاريخ.
ثمّة قاسم مشترك بين "البيان الموحد" لأندية إقليم كتالونيا، يتلخّص في اتهام الشرطة بالمسئولية عما حدث، وتحميلها وزر أي عنف في المستقبل (!!!).. مجموعات الألتراس في كل بلاد العالم، تحمل العداء نفسه للمؤسسات الأمنية.. تجربتنا في مصر شاهد عيان على حالة التداخل المثيرة للريبة، والشك في التوجهات.
لو أن ميادين القاهرة الكبرى، لديها ألسنة، أو تعرف طريق النيابات والمحاكم لرفعت عشرات الدعاوى القضائية ضد عناصر اخترقت روابط المشجعين المصريين.. عشية 25 يناير 2011، تم حشد الجموع.. مجموعات صغيرة السنّ، وشباب بريء، جرى الدفع به في مواجهة مباشرة مع الشرطة.. ملامح التوظيف أظهرتها أحداث مأساوية (مصادمات ميدان التحرير، ووقائع مماثلة على أطرافه، وفي الطرق المؤدية إليه.. حرق مقرّ اتحاد الكرة، واقتحام نادى ضباط الشرطة بالجبلاية.. اقتحام نادى الزمالك.. اشتراك مجموعات في اعتصام الإخوان في رابعة العدوية، وميدان النهضة...).
المثير للدهشة، أن الظاهرة بدأت في مصر الرياضة، عبر تشجيع فرق كرة القدم، لكنها تحولت إلى دور سياسي يخلط بين التنظيمي، والعدائي، جرى استغلاله في مظاهرات واحتجاجات.. تغيرت أناشيد وأغاني الألتراس منذ عام 2007 إلى عام 2011.. جرى "تطعيمها" بشعارات سياسية واجتماعية تحريضية (قولناها زمان للمستبد الحرية جاية لابد... يا حكومة بكرة هتعرفي بإيدين الشعب هتنضفي.. غني الحرية دي أجمل غنوة في الوجود...) كلها تعبّر عن الخطاب التحريضي لجماعة الإخوان، فضلًا عن ائتلافات ومجموعات ظهرت فجأة في مصر.
من يمعن النظر فيما حدث، لابد أن يرى الصورة مقاطع كاملة.. أرادت جماعة الإخوان (وتنظيمات مرتبطة بها، ومتحالفة، ومتعاونة معها) اختبار المشهد العامّ بـ"روابط الألتراس".. استغلال هذه الروابط مغرٍ جدًّا، ربما لأنها تتمتع في مصر بانتشار وتنظيم، يجعلها ثالث قوة جماعية منظمة بعد الإخوان، والتيار السلفي.
لا تتعامل جماعة الإخوان (وفق عادتها، وخططها التنظيمية ذات العنوان الشهير: علانية الدعوة، وسرية التنظيم) بشفافية مع حلفائها، أو من توظفهم لخدمة مصالحها.. دفعت بالألتراس لمربّع العداء مع مؤسسات الدولة.. عندما تطورت الأحداث دراميًّا، سارعت بفك الارتباط معهم.. حاولت الجماعة استنساخ تجربتها الخاصة (ألتراس نهضاوي)، لكنها فشلت، لكون عناصر الجماعة تفتقد مقومات وسمات روابط الألتراس (شكلًا، ومضمونًا).
اختلاق الذرائع التحريضية سهل.. الشعارات البراقة والزائفة جاهزة.. وبين هذا وذاك، تبدو الصورة الآن في إسبانيا، قريبة الشبه بتجربتنا.. الجميع -هنا وهناك- جزء من صناعة ضخمة، ترتبط روحيًّا بإمبراطورية "فيفا"، التي تفرض إرادتها على العالم بشعبية وجماهيرية كرة القدم.. مما يعني أن دائرة الشبهات ستظل مفتوحة لحين الفصل الحقيقي والواقعي على الأرض بين السياسي والرياضي.