أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالا هاتفيا، يوم 29 سبتمبر 2017، برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لزيارة باريس، وبحث معه سيناريوهات مستقبل العراق، بعد إجراء استفتاء كردستان، الذي كشفت نتائجه عن موافقة الإقليم بنسبة 92% على الانفصال عن العراق.
يأتي ذلك في ظل ما يتردد حول وجود وساطة فرنسية بين بغداد وأربيل لاحتواء الأزمة. وقد وافق العبادي على زيارة باريس في الخامس من أكتوبر الجاري، بيد أنه نفى بحث مسألة الاستفتاء خلالها، وأكد أن الزيارة كانت معدة من قبل، مما ألقى الضوء على أبعاد الموقف الفرنسي من الاستفتاء، وانفصال كردستان العراق.
ضبابية الموقف الفرنسي:
*تناقض ماكرون: ثمة تناقض في الموقف الفرنسي من استفتاء كردستان العراق، يتضح جليا في تصريحات الرئيس ماكرون، حيث إنه أكد، خلال اتصاله الهاتفي بالعبادي، أهمية الحفاظ على وحدة العراق وسلامته، وطالب بغداد في الوقت نفسع بالاعتراف بحقوق الشعب الكردي، وتجنب أي تصعيد. وهذا تناقض واضح، حيث إن الحفاظ على وحدة العراق تتطلب منع إقليم كردستان العراق من إجراء استفتاء لتقرير المصير قد يؤدي لتقسيم العراق.
*رفض الاعتراف بالانفصال: قام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، ووزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي بزيارة في 26 أغسطس 2017 لبغداد وأربيل، وأعلنا خلالها رفض باريس لإجراء استفتاء كردستان العراق، أو انفصال الإقليم، وتقسيم العراق، لأن ذلك سيؤثر سلبًا فى العمليات العسكرية ضد تنظيم "داعش" في الأراضي العراقية والسورية. وأوضح لودريان أن العراق حاليا بين مرحلتي الحرب والسلام، والأولوية هي القضاء على الإرهاب. وجدد دعم باريس للدولة العراقية الموحدة.
*دعم غير رسمي للانفصال: هناك دعم من عدة شخصيات فرنسية بارزة لانفصال كردستان العراق، ومنها القنصل الفرنسي الأسبق في إقليم كردستان فريدريكتيسو، الذي كشف عن وجود جهات عدة ببلاده تدعم انفصال كردستان العراق، وإعلانه دولة مستقلة، وكذاك وزير الخارجية الفرنسي الأسبق بيرنار كوشنير، الذي أكد أن فرنسا تدعم استقلال كردستان، وتقدم مساعدات عسكرية لقوات البشمركة الكردية في حربها ضدالإرهاب وتنظيم "داعش".
أضف لذلك الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي (هو كاتب يهودي مؤيد لإسرائيل ولتقسيم الدول العربية، وأشرف على الاستفتاء كمراقب دولي) الذي ادعى أن إقليم كردستان سيكون "ثاني دولة ديمقراطية" في المنطقة بعد إسرائيل، حال تم انفصاله. وأشاد بالاستفتاء، ووصفه بأنه كان جيدا طبقا للمعايير الدولية، كما طالب بدوره واشنطن وباريس بدعم الانفصال، لأن وضع الأكراد مشابه لوضع إسرائيل عام 1948. كما أن هناك العديد من النخب الفكرية والثقافية الفرنسية التي تدعم انفصال كردستان العراق، تفعيلًا لمبادئ الثورة الفرنسية، وحق تقرير المصير، وتقوم تلك النخب بدورها بالضغط على دائرة صنع القرار الفرنسي لاتخاذ قرارات مؤيدة للانفصال.
وهناك احتمالان لتفسير تلك الظاهرة، الأول هو أن تكون تلك النخب معبرة عن تيار فرنسي رسمي مؤيد للانفصال، ولكنه يخشى التعبير عن موقفه صراحة، تجنبًا للصدام مع القوى الإقليمية والدولية الرافضة لتقسيم العراق. أما الاحتمال الآخر، فهو وجود لوبي إسرائيلي يضغط على النخب الفرنسية، بمختلف فئاتها، لإظهار تأييد الانفصال، وللتأثير فى الرأي العام الفرنسي والدولي. ومن المعروف أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي أعلنت صراحة دعمها لانفصال كردستان العراق.
محددات الموقف الفرنسي:
هناك عدد من المحددات التي تشكل الموقف الفرنسي من انفصال كردستان العراق، منها:
*مكافحة الإرهاب: أكد ماكرون، غير مرة، أن الأولوية للسياسة الخارجية الفرنسية تجاه العراق تتمثل بمكافحة تنظيم (داعش)، وتحقيق استقرار العراق. ولذا، على العراق أن يبقى دولة موحدة، وأشاد بجهود كردستان ودورها فى الحرب ضد "داعش"، وجهودها في دعم وإيواء النازحين والمنكوبين. وهذا الإصرار والتأكيد نابعان من خشية ماكرون من تعرض بلاده للمزيد من العمليات الإرهابية المنفذة من قبل اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، حيث شهدت فرنسا خلال العامين الماضيين عشرات العمليات الإرهابية التي أثرت سلبًا فى الوضع الأمني والسياسي بالبلاد.
*تعزيز العلاقات مع العراق: يسعى ماكرون لتعزيز العلاقات بين بغداد وباريس، ولذا يطرح وساطته في الأزمة بين بغداد وأربيل، حيث إن العلاقات الفرنسية- العراقية اتسمت بالتميز. وقد بدأت في الستينيات من القرن العشرين في عهد الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديجول. وفي عام 1974، اتفقت باريس مع بغداد على بناء مفاعل نووي فرنسي بالعراق (مفاعل تموز النووي فجرته إسرائيل عام 1981). وفي الحرب العراقية- الإيرانية، وقفت فرنسا بالكامل مع العراق ودعمته بالأسلحة، إلا أن العلاقات انقطعت في سنة 1990 بعد غزو العراق للكويت. ووقفت فرنسا ضد العراق، وأرسلت قواتها لتحرير الكويت، لكن فرنسا عادت مرة أخرى لدعم بغداد، وعارضت الغزو الأمريكي للعراق في 2003.
ثم بدأت باريس في تعزيز علاقاتها مع النظام العراقي الجديد، وأسقطت 4 مليارات دولار من ديونها المستحقة على العراق. ومنذ عام 2014، تقدم باريس الدعم السياسي، والاقتصادي، والعسكري للعراق لهزيمة "داعش"، عبر المشاركة في العمليات العسكرية للتحالف الدولي ضد ذلك التنظيم عن طريق سلاح الجو بطائرات "الرافال والميراج" الفرنسية. كما نظمت فرنسا مؤتمرى باريس الأول والثاني، اللذين تعهد المشاركون فيهما بدعم أمن واستقرار العراق في حربه ضد "داعش". وقد منحت باريس العراق أخيرا قرضاً بقيمة 430 مليون يورو، بعد تأثر موازنته بشكل كبير، جراء مكافحة الإرهاب، وتراجع أسعار النفط.
*الحفاظ على واردات النفط :من المعروف أن العراق من أكثر الدول المصدرة للنفط إلى فرنسا، كما أن لوبيات (جماعات الضغط) النفط الفرنسية أصبح لها دور فاعل في توجيه السياسة الفرنسية تجاه العراق. ولذا، تسعى باريس إلى عدم إغضاب بغداد بتأكيد الحفاظ على وحدة العراق، وعدم إغضاب أربيل بالدعوة لمنح الأكراد المزيد من حقوقهم، وذلك حتى تضمن الحفاظ على تدفقات النفط من بغداد وأربيل لها، حيث تتمتع باريس بعلاقات جيدة بكردستان، ولها قنصلية فرنسية بأربيل لتشرف على التعاون بين الجانبين، فضلا عن سفارتها ببغداد.
*تعزيز مكانة فرنسا دوليا: تبنى ماكرون، منذ توليه منصبه في مايو 2017، سلوكا خارجيا نشطًا يهدف لتعزيز مكانة فرنسا دوليا، بعد فترة التراجع التي شهدتها خلال حكم سلفه فرانسوا هولاند، حيث إنه طرح عدة مبادرات لتطوير الاتحاد الأوروبي. ونجحت وساطته في إصدار "إعلان باريس" حول الملف الليبي لوضع آليات المصالحة الوطنية بين الأطراف الليبية المتنازعة. ومن هذا المنطلق، يطرح وساطته بين بغداد وأربيل لاحتواء الأزمة التي- حال نجاحها- ستعزز من مكانة باريس إقليميًا ودوليًا.
مما سبق، يتضح أن الموقف الفرنسي من استفتاء كردستان العراق يسعى للحفاظ على المصالح القومية الفرنسية المتمثلة في مكافحة الإرهاب، والحفاظ على واردات النفط، وتعزيز مكانة فرنسا دوليًا، عبر طرح وساطة لاحتواء الأزمة بين بغداد وأربيل، تقوم على منح كردستان المزيد من الحقوق والصلاحيات، وربما إقرار النظام الفيدرالي، كنظام حكم للدولة العراقية، مقابل رفض الانفصال أو إرجائه، حتى يتم القضاء تمامًا على التنظيمات الإرهابية. فهل سينجح ماكرون في وساطته؟ هذا ما ستكشف عنه نتائج زيارة العبادي المقبلة لباريس.