سيتوقف التاريخ العسكري كثيرا أمام حرب أكتوبر 1973، حيث أجمع الخبراء والمحللون العسكريون علي أن ما قامت به القوات المسلحة المصرية في يوم السادس من أكتوبر يعد نجاحا غير مسبوق في العلم العسكري الحديث. فقد قام الجيش المصري، تحت سمع وبصر القوات المسلحة الإسرائيلية وأجهزة مخابراتها، بحشد المقاتلين المصريين علي الضفة الغربية للقناة، تمهيدا لاقتحامها.
ويشير الواقع إلي أن كل التقديرات العسكرية الغربية كانت تشكك في إمكانية تحقيق المفاجأة بجميع أبعادها، الاستراتيجية، والتعبوية، والتكتيكية، في ظل امتلاك إسرائيل تقنيات حديثة، تشمل الأقمار الصناعية، ووسائل الإنذار المبكر. ولكن الجيش المصري قام بالهجوم علي طول خط المواجهة بالكامل، ليصعب علي الإسرائيليين تحديد اتجاه الهجوم الرئيسي.
وقد كانت المقارنات العددية والنوعية للتسليح بين القوات المسلحة المصرية والإسرائيلية، قبل أكتوبر 73، تميل لمصلحة إسرائيل بشكل واضح، وبفارق كبير، رغم أن الحرب الهجومية تتطلب أن تكون المقارنة في مصلحة الطرف المهاجم ثلاثة أضعاف علي الأقل، وذلك لأن الموقف في بداية الحرب كان يستلزم تحول القوات المهاجمة من أوضاعها إلي وضع الهجوم، ثم اقتحام قناة السويس، ثم اقتحام الساتر الترابي، ثم اقتحام خط بارليف الحصين، وذلك في مدي نيران العدو غير المباشرة وأيضا المباشرة، نظرا لقرب المسافة بين القوتين. ورغم هذا الوضع المبدئي الصعب والمعقد، نجحت القوات المسلحة المصرية، وحققت النصر. ويتم تدريس هذه الحالة في الأكاديميات العسكرية الغربية علي أنها "الحالة المثلي لقوات مسلحة تحقق النصر بأقل قدر من الإمكانيات علي قوات أعلي منها في الإمكانيات".
وتوصلت الأكاديميات العسكرية إلي أن السبب الرئيسي لهذه الحالة الفريدة في التاريخ المعاصر، هو المقاتل المصري، الذي نجح في حل كثير من المشاكل العملياتية في مراحل الحرب المختلفة (التخطيط والتنفيذ) علي المستويات المختلفة الاستراتيجية، والتعبوية، والتكتيكية.
أهمية الفرد المقاتل:
علي مر التاريخ، الإنسان هو الذي يكسب الحرب، وليس السلاح. فمهما تتطور الأسلحة والمعدات، فإنها تظل معتمدة علي الأفراد الذين يستخدمونها. فمثلا، تتسم الأسلحة الحديثة بالتعقيد من الناحية التكنولوجية، وتتطلب صيانتها كفاءة فنية عالية. وتستطيع أي دولة شراء السلاح، لكنها قد تواجه صعوبات في صيانته للوصول إلي نسبة صلاحية عالية تمكنها من خوض عمليات عسكرية كبيرة، والاستمرار في أعمال القتال لفترات طويلة.
ولا يتوقف تأثير العامل البشري علي الجانب العملياتي، فالمقاتل هو أيضا المفكر العسكري الذي يخطط ويبدع، ويثري بفكره وخبراته العلم العسكري، ليضيف إليه نظريات جديدة لحل المشكلات والصعوبات العملياتية، وهذا ما حدث، ليس فقط خلال حرب أكتوبر، ولكن منذ إعادة القوات المسلحة بعد حرب 1967، وخلال حرب الاستنزاف، حيث تم إيجاد حلول غير نمطية لأعقد المشكلات التي كانت تواجه تنفيذ المهام، والتغلب علي جميع المعوقات التي كانت تواجه القوات المسلحة، خاصة في الساعات الأولي من القتال، منذ الضربة الجوية الأولي، وحتي اقتحام القناة، والساتر الترابي، وخط بارليف، ثم إنشاء رءوس الكباري علي الضفة الشرقية للقناة للانطلاق شرقا.
والفرد المقاتل هو الذي يضع الخطط الاستراتيجية لمواجهة العدائيات المختلفة، ويحول هذه الخطط إلي برامج تدريب محترفة للتمكن من تنفيذها، وهو أيضا الذي يقوم بعمل تقديرات صحيحة محدثة باستمرار في المواقف المختلفة للاستفادة من القوة البشرية والسلاح الذي يمتلكه، وهو ما نفذته القوات المسلحة المصرية باحتراف خلال فترة الاعداد لحرب 1973 وفي أثنائها.
والمقاتل المصري هو القائد العسكري الذي قاد جنوده نحو النصر، وأصدر قرارات حاسمة علي أرض المعركة، طبقا للمتغيرات المختلفة، مستفيدا من نقاط ضعف العدو. وهو القائد الميداني الذي تقدم جنوده علي خط النار، واستشهد علي الخطوط الأولي في سبيل تحقيق النصر. فكان القائد المصري القدوة والمثل لجنوده، ورمزا للتضحية والفداء. والمقاتل المصري هو الجندي الشجاع القادم من أعماق الريف، ومن ذوي المؤهلات المتوسطة والعليا، الذين كانوا إضافة مهمة لقواتنا المسلحة. وقد انصهرت كل انتماءاتهم داخل الجيش المصري، وتدربوا معا ست سنوات استعدادا للحرب، فأذهلوا العالم بقدراتهم، ليس فقط العسكرية، ولكن بشخصيتهم التي تفيض بالإيمان، والعزة، والكرامة.
أثبت المقاتل المصري أن الفرد هو الأساس للوصول إلي أعلي مستويات الكفاءة القتالية، والذي تحرص عليه دول العالم التي تمتلك قوات مسلحة محترفة.
العلاقة بين الفرد والكفاءة القتالية:
الكفاءة القتالية هي الاستغلال الأمثل للقدرة القتالية للأفراد والمعدات، والأسلحة المتاحة بالقوات المسلحة، بما يضمن تحقيق المهام القتالية المكلفة بها بنجاح تام خلال فترة زمنية محددة، وتحت مختلف الظروف. وهي تعتمد علي عنصرين أساسيين، هما: الفرد المقاتل ذو الكفاءة التدريبية العالية، والروح المعنوية المرتفعة. والعنصر الآخر هو الأسلحة، والمعدات، والمركبات ذات الكفاءة الفنية العالية.
ويعد الفرد المقاتل أساس تحقيق النجاح لكلا العنصرين، فهو المسئول عن الصلاحية الفنية للأسلحة والمعدات، وتوفير الاحتياجات الإدارية المختلفة، وهو أيضا الذي يتلقي التدريب للوصول إلي أعلي درجات الكفاءة والاستعداد القتالي في كل الأوقات، ويتحمل مشاق التدريب المتواصل بجميع صوره ومستوياته، بدءا من الفرد المقاتل، وصولا إلي المناورات علي مستوي القوات المسلحة بالكامل، وهو الذي يقوم بالتقييم المستمر لنتائج التدريب في كل مراحله للتعرف علي نقاط القوة، والنقاط المطلوب التركيز عليها.
وقد أصبح الوصول بمستوي الفرد المقاتل إلي درجة الاحتراف ضرورة استراتيجية ملحة تتطلبها ظروف المعارك والحروب الحديثة. والمقاتل المحترف هو الذي يستطيع أن يقدر موقفه بسرعة، ويصل إلي قرار صحيح، ويصر علي تنفيذه ليدمر الهدف المناسب الذي يؤثر في كفاءة العدو، وبالتالي يمنعه من تحقيق مهمته.
وللوصول إلي مستوي الاحتراف، يتم تدريب المقاتلين علي المصاعب المنتظرة في المواقف المختلفة، والتي قد تصادفهم في أثناء المعركة، حتي يتسني لهم التصرف تلقائيا بكفاءة، ودقة، ومهارة. وعندما يصل الفرد إلي مستوي المهارة في تنفيذ المهام القتالية تلقائيا وبنجاح، فإنه يكون قد وصل إلي درجة الاحتراف، وهو ما يعد صفة أساسية للمقاتل المصري بشهادة قادة إسرائيل في حرب أكتوبر .1973
المقاتل المصري في مواجهة الإرهاب:
تقوم القوات المسلحة المصرية، بالتعاون مع الشرطة، ببطولات عظيمة لمكافحة الإرهاب، وتطهير سيناء من العناصر التكفيرية والإجرامية. ويقف أبطال ومقاتلو القوات المسلحة سدا منيعا صامدا لدحر الإرهاب، محققين العديد من الإنجازات والنجاحات المتلاحقة، خلال العمليات الأمنية الشاملة بمناطق مكافحة النشاط الإرهابي بسيناء، والتي تتميز بالطبيعة الجبلية، والتضاريس الوعرة التي تتخذها العناصر التكفيرية ملجأ حصينا.
وتعد منطقة جبل الحلال من المناطق الجبلية الوعرة، وأكثرها خطورة. فقد استطاع أبطال ومقاتلو القوات المسلحة تحطيم أسطورته، وفرض السيطرة الكاملة عليه، وتطهيره من الإرهاب في ملحمة بطولية جديدة. حيث توضح الدراسات الطبوغرافية لطبيعة الجبل أنه يمتد لمسافة نحو (60) كم من طريق الحسنة/بغداد، وحتي قرية أم شيحان، وبعمق نحو (20) كم تقريبا. ويتميز من الناحية الغربية له بالأرض ذات الغرود الرملية الكثيفة التي يصعب سير العربات بها. ومن الجنوب، توجد منحدرات حادة يصعب الدخول إليها بواسطة المركبات. ومن الشرق، يمثل امتداده مع جبل ضلفة عائقا للمناورة. ومن الشمال، يوجد عديد من الوديان ممتدة داخل جبل الحلال. ونظرا لهذه الطبيعة الصعبة، فإن الفرد المقاتل كان أساس النجاح في عملية اقتحام جبل الحلال.
تم تنفيذ العملية خلال فبراير 2017 بفرض حصار شامل علي طرق الاقتراب المؤدية للجبل من خلال الكمائن والارتكازات الأمنية، وإحكام السيطرة الكاملة علي مداخل الجبل من جميع الاتجاهات، بغرض منع دخول الإمدادات، ونفاد المخزون الاستراتيجي لدي العناصر التكفيرية، وإجبارهم علي مواجهة القوات أو الاستسلام، ثم دفع مجموعات قتال، كل منها مسئولة عن تمشيط قطاع داخل الجبل وقتال العناصر التكفيرية. استغرقت العملية عدة أيام متواصلة، تمكن خلالها المقاتلون المصريون من إحباط جميع محاولات الهروب، أو الدخول إلي الجبل، وتنفيذ المهام المخطط لها بكل احترافية وكفاءة في القضاء علي جميع البؤر التكفيرية.
وبزيادة الضغط علي التكفيريين ومهاجمتهم بشراسة، كانوا يولون الفرار إلي قمم الجبال، ويتركون أسلحتهم وذخائرهم. وقد قامت القوات بنسف وتدمير العديد من مخازن العبوات الناسفة في مناطق متعددة داخل الجبل، فضلا عن المغارات التي استخدمت في تصنيع وإعداد العبوات الناسفة التي تستخدمها العناصر التكفيرية بشمال ووسط سيناء.
لم تتأثر المجموعات القتالية التي شاركت في عملية "جبل الحلال" بصعوبة التضاريس، والمنحدرات، والصخور الحادة، فضلا عن الأحوال الجوية القاسية، حيث كانت درجة الحرارة تصل إلي صفر مئوي، لأن التدريب المحترف، والعقيدة الراسخة، وتلاحم الضباط والصف والجنود بروح معنوية عالية كانت الأسباب الرئيسية لتحقيق هذا الإنجاز.
أهمية القوة البشرية:
تعد القوة البشرية أحد العناصر الرئيسية المؤثرة في قوة الدولة الشاملة، خاصة القوة العسكرية، والمؤثرة أيضا في باقي قوي الدولة لتحقيق التنمية في جميع المجالات (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية ... إلخ). لذلك، يتم الاهتمام بالعنصر البشري عند دراسة قوي الدولة الشاملة، ويحتل مكانة الصدارة بين العناصر الأخري، نظرا لأهمية هذا العنصر وقت السلم ووقت الحرب. ففي السلم، تعد القوة البشرية عنصرا من عناصر الإنتاج. فالدولة التي تعاني النقص فيه تضطر لاستقدام الأيدي العاملة الأجنبية للإسهام في التنمية. وتظهر أهمية العامل البشري بشكل أكبر في الحرب، فالقوة العسكرية تتكون من عناصر عديدة تتفاعل فيما بينها، وتعطي في ناتجها النهائي التأثير العسكري المطلوب لتحقيق الأهداف المخططة.
ولا يعد عدد السكان فقط مؤشرا كافيا علي بيان مدي تأثيرهم في قوي الدولة في المجالات المختلفة، بل لابد من التحديد الدقيق لنوعية السكان وتجانسهم، ومستواهم الثقافي. فمن حيث النوعية، يجب معرفة الجنس وفئات العمر المختلفة في التكوين السكاني للدولة. وكلما كانت درجة التجانس عالية بين المواطنين، زادت قوة الوحدة الوطنية للدولة، وهذا بالطبع له أثر إيجابي علي قوتها، لأنه سيزيد من درجة التعاون بين السكان وقت السلم ومن صلابة الجبهة الداخلية وقت الحرب. ولمستوي ثقافة السكان مظاهر عديدة، أهمها مدي إدراك التحديات والتهديدات التي تواجه الدولة، والمتغيرات التي تطرأ عليها، لأن ذلك يؤثر في فاعلية السكان، والتي تعد أهم نقاط القوة للدولة. ومن أبرز مظاهر فاعلية السكان إدراكهم لمسئولياتهم الوطنية وتضحياتهم من أجل المبادئ والقيم التي يؤمنون بها، والذي يظهر بوضوح في قبول المجتمع لتقديم أبنائه للانضمام لصفوف القوات المسلحة، وأيضا تضحياتهم التي تصل إلي الاستشهاد.
ورغم التقدم الهائل في نوعيات الأسلحة والتقنيات المستخدمة فيها، لا يزال لعدد أفراد القوات المسلحة دور مهم في تشكيل القوة العسكرية للدولة، فالدولة. ذات العدد الكبير من أفراد القوات المسلحة تكون أقدر من غيرها علي خوض العمليات العسكرية، سواء كانت دفاعية أو هجومية. والدولة، التي تتمتع بعدد كبير من السكان، تكون مقدرتها أكبر من غيرها علي الصمود والقتال لفترات طويلة. لذلك، لا يزال العنصر البشري حاسما في معايير تقييم الجيوش، لما له من تأثير في مجريات الحروب، وتحديد نتائجها النهائية. ويتطلب الأمر معرفة فئات العمر في المجتمع، وإسهام كل فئة في قوة الدولة. ويمثل الشباب العمود الفقري في قوة الدولة، سواء في السلم أو الحرب.
وعلي سبيل المثال، تؤخذ في الحسبان مؤشرات سكانية مهمة عند تقييم القوة العسكرية للدولة، وأهمها إجمالي عدد السكان، والذي يستخدم كنقطة انطلاق لحساب جميع القيم الأخري الخاصة بالسكان. ومنها فيما يخص القوة العسكرية:
- إجمالي القوي العاملة المتاحة.
- عدد السكان المتاح للخدمة العسكرية، وهو رقم مهم يؤثر بقوة في معايير حساب القوة العسكرية.
- عدد السكان اللائق للخدمة العسكرية سنويا.
- عدد السكان اللائق فعليا للخدمة العسكرية في الوقت الحالي.
- عدد السكان الذي يمكن أن يشكل احتياطيا متوافرا للخدمة العسكرية حاليا.
وبينما تعتمد الحرب التقليدية علي المواجهة العسكرية المباشرة لهزيمة القوات المسلحة للدولة المستهدفة، وتدمير قدرتها علي الحرب من أجل فرض الإرادة علي هذه الدولة، تتجنب الحروب غير التقليدية المواجهة العسكرية المباشرة بين الجيوش، وتهدف إلي نقل الصراع إلي ميادين غير عسكرية لتفتيت القوة البشرية، والتي تعد أهم عناصر الكتلة الحيوية، للوصول بالدولة المستهدفة إلي نموذج الدولة الفاشلة، ثم فرض الإرادة عليها بعد ذلك، بدلا من الدخول في صدام مسلح مع القوات المسلحة للدولة المستهدفة (لأن السكان هم الأساس الذي تبني عليه القوات المسلحة، لأنه يمد القوة العسكرية بأهم عناصرها، وهو الفرد المقاتل). وينفذ ذلك بمحاولة اختراق القطاعات المدنية الضعيفة في الدولة لإفشال مهمتها، من خلال التآكل والإنهاك البطئ. ويستغرق هذا الشكل من الحروب وقتا أطول من الحروب التقليدية.
لذلك، يلزم إعداد الشعب علي اختلاف شرائحه لمواجهة هذا الشكل من الحروب بالتوعية العلمية المستمرة لجميع طبقات المجتمع، وللمراحل السنية المختلفة، وتنمية روح الولاء والانتماء للوطن، لأن الإعداد المعنوي للشعب يتفوق في تأثيره الإيجابي علي الإعداد المادي، فهو يعمل علي تحمل الشعب للظروف الصعبة التي يفرزها الشكل الجيد للحرب. فقد تعرضت الدولة المصرية علي مر التاريخ إلي تهديدات كثيرة ومتنوعة، كان أخطرها الاحتلال، فكان وعي السكان بطبيعة التهديد هو الأساس القوي لتشكيل القوة البشرية المصرية الصلبة التي كانت سلاحا تغلب علي إمبراطوريات ودول عظمي، طردها المصريون، وحافظوا علي وحدة الأرض والشعب.