تقول الحكمة المنطقية : من الصعب إقناع الذباب أن الزهور أجمل من القمامة !
ويبدو أنه من هذا المنطلق، كتب الروائي العالمي ( جابريل جارثيا ماركيز) هذه المقولة. لقد قاوم الإنسان بالمبيدات الحشرية الصراصير، والذباب مئات السنين، وبقيت تتكاثر على مر السنين، وصارت مقاومة للمبيدات الحشرية، إلى أن اكتشفت بعض الشعوب أن النظافة الجماعية هي الحل، وبالفعل اختفى كل من الذباب والصراصير من بلادها. والإرهاب مثل الصراصير والذباب لن يختفى إلا بالنظافة الجماعية، نظافة العقول؛ والتى تتحقق بالتعليم، ثم التعليم، ثم التعليم، التعليم الحقيقى، وليس معاهد تفريخ الجهلة، والغشاشين، وذوي العقول المشوشة، المعدَّة لاستقبال الفكر الإرهابي المتطرف، والغبي، والعميل لأعداء المِلَّة، والوطن .
وبالرغم من أن هذه الأقوال تُعد من البديهيات وألف باء النقاء والصفاء الروحي؛ التي يجب أن تتعارف عليها البشرية في كل بقاع الأرض، فإنه يبدو أننا يجب أن نذكّر بها في كل حين؛ حتى تستقيم الأمور وتُنتزع بذور الشر من داخل النفوس الأمارة بالسوء، لنقضي على الذباب الذي تفشى وانتشر وأصبح كالخيمة التي تحجب الرؤية عن الأزاهير المورقة التي أنبتها الله داخل النفس البشرية. وصحيح أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" (الشمس 7 ـ 8 )؛ إلا أنه يجب الالتزام والعمل على نزع فتيل الفجور من داخل النفوس الخانعة والضعيفة والحاقدة؛ وتثير باستمرار نزعات الخلاف، لا الاختلاف داخل المجتمعات الوديعة الآمنة، لا لشىء إلا لتعكير الصفو والصيد في الماء العكِر! ولكن ماحيلتنا والأشرار موجودون في كل زمانٍ ومكانٍ منذ بدء الخليقة؛ ومنذ دق "قابيل" رأس أخيه "هابيل" بالحَجَر الهائل لينفرد بالغنيمة وحده !
ولكن الظروف تتغير وتتبدل بحسب مقتضيات العصر ومجرياته؛ ونرى تسارع إيقاع الأحداث في منطقتنا العربية على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؛ تأمل فتح نافذة الضوء في نهاية النفق المظلم، ولكنها تجد في طريقها من يقفون لها كحجر عثرة من الطامعين والمتربصين الممنهجين والمدفوعين من القوى العالمية التي تخطط، بإصرار لتمزيق أواصر الشرق الأوسط، قلب العالم، وتحويله إلى كيانات هزيلة تابعة؛ وهو ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد، هذا الأمر الذي يقتضي من كل الشرفاء ضرورة الاصطفاف كالبنيان القوي لمواجهة هذه المخططات الخبيثة، فليس هذا وقت الخلاف أو التسابق على كراسي الحكم وقهر الشعوب؛ فخريطة الوطن العربي تتآكل؛ ويخفي معالمها الدم والطائفية وشريعة الغاب التي ترتدي، كذبًا، ثوب شريعة الله. ومصر قلب تلك الخريطة، وإذا فني الجسم وتمزق، فهل تبقي للقلب وظيفة ؟! من مصر يبدأ إنقاذ الجسم العربي، وما يحدث تم الإعداد له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحلول الإمبراطورية الأمريكية محل إمبراطوريات القارة العجوز، أوروبا. المخطط متقن وهزيمته تكمُن في ضرورة وسرعة الاصطفاف المنشود ونبذ الخلاف، وتطهير النفوس مما علق بها خلال سبعين عامًا من غسيل مخ عبر مراحل نفذتها أمريكا وحلفاؤها باتقان؛ ونحن لا نزال نحمل "ذاكرة السمك" ونأكل الطُّعم في كل الأحوال !
ولكن هل نقوى على إقناع الذباب بأن الزهور أجمل من القمامة ؟ وحينها سنستطيع أن تقنع الخونة والحاقدين بأن تراب الوطن أغلى من الخلاف وإثارة القلاقل والنعرات القبلية والتشرذم؛ والانصياع للعمالة والانبطاح والانحناء لأصحاب المال الوفير ذوي التوجهات اللاوطنية الجبانة؛ والذين يقيمون الصلوات ووجوههم للغرب. وأقول بملء الفم وبكل الاقتناع: نعم نستطيع، والحلول تكمُن في إعادة النظر في المنظومة التعليمية من القاعدة إلى القمة، لتخريج الأجيال التي تؤمن بالعلم الصحيح والفن والشعر والموسيقا والفنون التشكيلية، وكل الجماليات التي حبانا الله بنعمتها، ونلقي خلف ظهورنا بكل ما أُدخل على تراثنا من خرافات ما أنزل الله بها من سطان .
والذباب الذي أعنيه هُنا، هو كل العقول المتحجرة التي تحمل الأفكار المتخلفة؛ يستوي في هذا معتنقو الأفكار العقائدية المتشدِّدة؛ التي لا تعترف بمتغيرات العصر وقفزاته السريعة نحو الرفاهية الملتزمة بكل ماجاءت به الأديان السماوية من سماحة ونقاء وصفاء للروح والقلب والوجدان. والذباب الذي أعنيه أيضًا هو كل أصحاب الأقلام المسمومة من الصحفيين والكتاب والشعراء الذين لا يحترمون شرف الكلمة؛ ولا يفرقون بين المعارضة المهذبة الواعية بمقدرات الوطن؛ والغوغائية غير المنضبطة مع بوصلة الوطن والعرف الساري في مجتمعاتنا العربية؛ والمصرية على وجه الخصوص. فنجد منهم من يملأ أعمدة الصحف السيارة والدورية والموسمية وشاشات التلفاز؛ بالتشدق بعبارات المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية؛ ولا يملك "جواز السفر" الخاص به.. لأنه أسير "الكفيل" الذي يمنحه الدولارات ويحتفظ بجواز السفر في جيبه كنوعٍ من العبودية المقننة . فأين هي الحرية والكرامة والديمقراطية التي يتشدق بها هؤلاء، وهم لا يملكون حريتهم الشخصية. تلك هي "عينة" أو "أنموذج" لأسراب الذباب التي أقصدها وأعنيها بالإشارة، كي نستيقظ من سباتنا العميق .