لم يتخلف السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي، منذ تولي الحكم، عن الحضور المنتظم لدورات انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما يصحبها من اجتماعات لمجلس الأمن، وجلسات استماع مخصصة بشأن قضايا بعينها، وحول نزاعات بعينها. ومنذ حضوره الأول في الدورة التاسعة والستين لاجتماعات الجمعية العامة، وحتي حضوره الرابع للاجتماع الثاني والسبعين، يمكننا القول إن مصر قد تمكنت من إعادة صناعة علامتها الوطنية أمام العالم، وهو المعني الأهم عبر هذه المشاركات المتعددة، التي شملت ما يقرب من 100 لقاء ثنائي ومتعدد الأطراف مع زعماء دول، ومنظمات مجتمع مدني، وتجمعات رجال أعمال، وشركات تجارية وصناعية مختلفة، وممثلين لأهم المراكز البحثية والفكرية ذات التأثير الواسع في مسار صناعة القرار العالمي بصفة عامة، والأمريكي بصفة خاصة.
ولعل ذلك بالتحديد ما ذكره د. خالد حنفي في تقديمه لملحق "صناعة العلامة الوطنية للدولة" المصاحب لهذا العدد، عندما تحدث عن أن "نجاح صناعة أو إعادة صناعة العلامة الوطنية للدولة يتوقف علي إدراك ووعي القائمين علي ذلك بما يملكه البلد من ميزات نسبية تشكل مجالا لإعطائها هوية تنافسية. فلا يمكن لمصر وقادتها تجاهل ميزات نسبية أساسية عند بناء علامتها الوطنية، مثل الموقع الجغرافي كدولة تربط بين إفريقيا، وآسيا، وأوروبا، والقوة البشرية، والإرث التاريخي، من حيث الآثار والحضارة القديمة، وامتلاك شواطئ للجذب السياحي، فضلا عن التماسك الاجتماعي، والاعتدال الديني. بل يمكن أيضا التفكير في ميزة أخري تتعلق بالصمود المؤسسي للدولة في مواجهة الفوضي الإقليمية في مرحلة ما بعد الفوضي وعدم الاستقرار السياسي".
وهو ما أشار إليه السيد الرئيس في الاجتماع العام للجمعية، عندما تحدث قائلا: "في مصر، نؤمن بشكل قاطع بقيم الأمم المتحدة، ومقاصد ميثاقها. ونحن لدينا ثقة كبيرة بأن تحقيق مثل هذه القيم ليس ممكنا فحسب، بل هو التزام وضرورة.
إن مشاركة مصر، منذ وقت طويل مع الأمم المتحدة، بوصفها عضوا مؤسسا لها، والتي انتخبت لمجلس الأمن لمدة ست مرات، وأكبر مساهم في عملية حفظ السلام في جميع أنحاء العالم، تشهد علي جهودنا المستمرة لكي نسعي إلي تحقيق هذا الهدف، وبناء عالم يستحق تطلعات أطفالنا وأحفادنا للعيش في الحرية، والكرامة، والأمن، والرخاء.
والمسئولية التي نتحملها تقتضي منا أن نكون صريحين في القول إن هذا العالم الذي نسعي إليه، ومن الممكن تحقيقه، لا يزال للأسف بعيدا عن الواقع. ولا يزال يتعذر علينا منع الصراعات المسلحة، ومواجهة الإرهاب، وتحقيق نزع السلاح النووي، ومعالجة الاختلالات الهيكلية الرئيسية في النظام الاقتصادي الدولي، التي وسعت الفجوة بين العالمين المتقدم والنامي.
وبناء علي تجارب المناطق الإفريقية والعربية، يمكنني أن أذكر، بضمير واضح، أن هذه التجارب تلخص الأزمة الراهنة في النظام الدولي، وعدم قدرتها علي تحقيق أهداف هذه المنظمة.
إن المنطقة العربية، وهي الوسط الحضاري والثقافي لمصر، أصبحت اليوم بؤرة لبعض من أكثر الصراعات المدنية وحشية في تاريخ البشرية الحديث، وهي أكثر المناطق عرضة للخطر الذي يفرضه الإرهاب. فواحد من كل ثلاثة لاجئين في العالم اليوم هو عربي. وقد أصبح البحر المتوسط قناة للمهاجرين غير النظاميين من الدول الآسيوية والإفريقية، الذين يهربون من ويلات الحرب الأهلية، فضلا عن اليأس من المشاق الاقتصادية والاجتماعية، كما يتجلي في التقرير الإقليمي العربي بشأن الفقر متعدد الأبعاد الذي أجرته جامعة الدول العربية، بالتعاون مع الأمم المتحدة.
وبما أن إفريقيا هي الموطن الجغرافي لمصر، فإنها تقع في قلب السياسة الخارجية المصرية، لأن جذورها التاريخية تكمن في إفريقيا، وهي تنبع من إفريقيا، ومنها نستمد هويتنا، وإحساسنا العميق بالانتماء. وقد أصبحت هذه القارة أيضا خاضعة للتهديدات الأمنية نفسها التي تواجه المنطقة العربية، وتشكل مثالا رئيسيا للأزمة في النظام الاقتصادي الدولي الحالي، الذي يعزز الفقر والتفاوت الاقتصادي. ويتحمل هذا النظام العالمي مسئولية رئيسية في الأزمات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية التي تهدد السلام والاستقرار الدوليين، مما يجعل أي مناقشة بشأن أهداف التنمية المستدامة غير مجدية".
وإذا كان ما سبق يصوغ بدقة شديدة إدراكا واضحا بمعني المشاركة المصرية في هذه الاجتماعات، والتي شملت الدور المصري البارز والنشط في الأمم المتحدة، منذ تأسيسها، فإنه يحمل أيضا تفهما لرمزية المكانة المصرية بالنظر لخصوصية الموقع الذي تتمتع به مصر في محيط أمنها القومي، العربي والإفريقي، وفي جنوب المتوسط، بحسبانها قلب العالم القديم والحديث، والدور الذي يتحتم علي مصر أن تلعبه تحملا لمسئولياتها، حفاظا علي أمنها القومي، والأمن القومي العربي، ومن ثم الحفاظ علي الأمن والاستقرار في هذه المنطقة بالغة التعقيد والتشابك في العالم. وهو الأمر الذي يوضح رمزية المكانة المصرية، التي تفرض عليها مجابهة أهم التحديات التي تتحمل السبب فيها سياسات خاطئة في إدارة العلاقات الدولية علي الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، تلك التي أدت بالمنطقة العربية والإفريقية إلي مجابهة تحديات ضخمة تتعلق بمحاولات تقويض الدول، كنتيجة مباشرة لسياسات غير عادلة في إدارة العلاقات الدولية علي جميع الأصعدة السابقة بين الدول في الشمال (الأكثر نموا)، والدول في الجنوب (النامية والأقل نموا).
ولعل ذلك هو التحدي الأعظم الذي تضطلع مصر بعرضه، وفرض أولويات، وأدوات، واستراتيجيات التحرك من أجل مواجهته علي جميع الدول الكبري، والولايات المتحدة الأمريكية، بحسبانها الدولة العظمي في هذا المجتمع الدولي المنعقد تحت عباءة المنظمة الأممية الأكبر (الأمم المتحدة)، تلك المنظمة التي من المفترض أن تلعب دورا مختلفا من أجل صياغة السلم والأمن الدوليين، وتحقيق التعاون والرفاهية لكل شعوب العالم.
هذا التحدي كان حاضرا في كل اللقاءات الثنائية والجماعية التي حرص السيد الرئيس علي عقدها منذ المشاركة الأولي وحتي اليوم، والتي شهدت عاما بعد الآخر مرحلة إعادة بناء العلامة الوطنية للدولة المصرية، بدءا من اكتساب مصر لشرعية الوجود، وتحقيق الشرعية الكاملة لنظام الحكم، بعد ثورة 30 يونيو، وصولا في المشاركة الأخيرة إلي صياغة متكاملة لرؤية مصرية خالصة لها مبادئ أساسية تحكمها، وفقا للقيم الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، والتي ينبغي أن تكون هي المرجعية في إدارة العلاقات بين الدول بما تفرضه من قرارات، ينبغي أن يخضع الجميع لأحكامها.
وفي كل هذه المناسبات واللقاءات، حرص السيد الرئيس علي الإشارة إلي أن مصر تخوض حربا ضد الإرهاب والتطرف علي مدي السنوات الماضية، وأن تلك الحرب لا يمكن مقارنتها بالحرب النظامية، ولكن يجب أن يتعامل معها المجتمع الدولي بمنهج شامل، يتضمن أربع ركائز، تشمل مواجهة جميع التنظيمات الإرهابية دون تمييز، والتعامل مع مختلف أبعاد الإرهاب كالتمويل، والتسليح، والدعم السياسي والأيديولوجي، والعمل علي الحد من قدرة التنظيمات الإرهابية علي تجنيد المقاتلين، والحفاظ علي مؤسسات الدولة الوطنية في المنطقة.
كما أوضح سيادته الخطوات التي تتخذها مصر علي صعيد التنمية الاقتصادية، مؤكدا أن تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي لم يكن ممكنا دون تفهم الشعب المصري لأهمية اتخاذ قرارات صعبة لعلاج المشكلات الاقتصادية المزمنة، منوها إلي أن برنامج الإصلاح الاقتصادي بدأ يؤتي ثماره، وأن الاحتياطي من النقد الاجنبي وصل إلي المعدلات التي كان عليها قبل عام .2011 واستعرض سيادته كذلك الإجراءات التي تم اتخاذها لتوفير بيئة جاذبة للاستثمار، فضلا عن المشروعات القومية التي تنفذها الدولة، لاسيما في مجالات البنية الأساسية، وكذا العاصمة، والمدن الجديدة الجاري إنشاؤها في مختلف أنحاء مصر.
وفيما يتعلق بمسيرة التحول الديمقراطي، وأوضاع حقوق الإنسان في مصر، أشار السيد الرئيس إلي أن مصر أصبح لديها الآن إطار دستوري واضح ينظم العلاقة بين سلطات الدولة، ويعطي صلاحيات واسعة لمجلس النواب المنتخب، مؤكدا أن ما تحقق يمثل خطوات ملموسة علي صعيد التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط. كما أكد سيادته أهمية أن تتفهم الدول الغربية هذه الحقائق، وألا تحكم علي الأمور بمنظور غربي، مشيرا إلي أن مصر حريصة علي احترام وتعزيز حقوق الإنسان، وأنه يجب عدم اختزال مفهوم حقوق الإنسان في الحقوق السياسية أو القانونية فقط، بل يجب التعامل معه بمنظور شامل يتضمن أيضا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل توفير الحق في التعليم، والصحة، والسكن، والعمل.
وعلي الصعيد الإقليمي، تناول السيد الرئيس رؤية مصر القائمة علي أهمية الحفاظ علي الدولة الوطنية، ودعم المؤسسات الوطنية بما يمكنها من الاضطلاع بمسئولياتها في حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب، مشيرا، في هذا الإطار، إلي أهمية الحفاظ علي وحدة الدولة الليبية، ودعم الجيش الوطني الليبي، وصون مقدرات شعبها، فضلا عن ضرورة الحفاظ علي وحدة أراضي الدولة السورية. كما أكد سيادته أهمية تجنب تفتيت الدول في الشرق الأوسط، أخذا في الحسبان ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من المزيد من الصراعات والأزمات.
كما تطرق السيد الرئيس إلي الجهود التي تبذلها مصر لإحياء عملية السلام، مؤكدا دعم مصر لجميع الجهود والمبادرات الدولية الرامية للتوصل إلي تسوية عادلة وشاملة لهذه القضية، وفقا للمرجعيات الدولية المتعارف عليها منذ عام 1967 وحتي الآن، مشيرا إلي أن الوصول إلي حل عادل وشامل لهذه القضية من شأنه أن يوفر واقعا جديدا بالمنطقة ويسهم في تحقيق الاستقرار والتنمية. وأوضح أن الجهود الكبيرة التي بذلتها مصر علي مدار الفترة الماضية مع الإخوة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، من أجل تقريب وجهات النظر ورأب الصدع الفلسطيني، سعيا لتحقيق المصالحة الفلسطينية، وعودة السلطة الفلسطينية إلي قطاع غزة، قد كللت بالنجاح، وأن عملية المصالحة قد بدأت من أجل أن يوجد طرف فلسطيني له الشرعية، يمكن له أن يجلس علي طاولة المفاوضات الثنائية والمتعددة.
من هنا، قدمت مصر رؤيتها لمواجهة هذه التحديات، والتي تقوم علي مبادئ خمسة رئيسية:
11- الحل الوحيد للأزمات التي تعانيها المنطقة العربية هو من خلال التمسك بفكرة الدولة القومية الحديثة، التي تقوم علي مبادئ المواطنة، والمساواة، وحكم القانون، وحقوق الإنسان، وبالتالي التغلب علي أي محاولات لتأسيس الأوطان علي ولاءات مذهبية، أو طائفية، أو عرقية، أو قبلية.
2- حان الوقت لتسوية شاملة ونهائية لأطول أزمة معلقة في المنطقة العربية، وهي القضية الفلسطينية، وهي صورة واضحة لعدم قدرة المجتمع الدولي علي تنفيذ سلسلة طويلة من قرارات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن. إن إغلاق هذه القضية من خلال تسوية عادلة، استنادا إلي القواعد والمبادئ الدولية الراسخة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة علي طول حدود عام 1967 مع القدس الشرقية، بوصفها عاصمة لها، شرط مسبق ضروري للمنطقة بأسرها في مرحلة جديدة من مراحلها نحو الاستقرار والتنمية. وهذا أمر ضروري أيضا لاستعادة مصداقية الأمم المتحدة والنظام الدولي. وما من شك في أن تحقيق السلام سوف يؤدي إلي القضاء علي أحد الأعذار الرئيسية التي كان الإرهاب يتلاعب بها لتسويغ انتشاره في المنطقة. وقد حان الوقت للتغلب علي حاجز الكراهية إلي الأبد.
3- من المستحيل تصور مستقبل للنظام الإقليمي أو الدولي دون مواجهة قاطعة وشاملة مع الإرهاب. وينبغي تناول هذا الأمر علي نحو يقضي علي الإرهاب، ويزيل جذوره وأسبابه، بالإضافة إلي التحدي العلني لأي طرف يدعم الإرهاب، أو يموله، أو يمنحه محافل سياسية، أو وسائل إعلامية، أو ملاذات آمنة.
وفي جميع الأحوال، لا يوجد مجال لأي مناقشة جادة بشأن مصداقية أي نظام دولي يطبق معايير مزدوجة. وهو نظام يدعي أنه يحارب الإرهاب مع التسامح مع مؤيديه، وفي الوقت نفسه يشركهم في المناقشات بشأن كيفية القضاء علي التهديد الذي خلق بمعرفتهم في المقام الأول.
والعالم الإسلامي بحاجة إلي مواجهة واقعه، وإلي العمل معا لتصحيح المفاهيم التي يساء فهمها، والتي أصبحت ذريعة أيديولوجية للإرهاب، وخطابه المدمر. وقد أطلقت مصر مبادرة لتصحيح الخطاب الديني من أجل إحياء القيم المعتدلة والمتسامحة للإسلام.
4- إن القضاء علي الأسباب الجذرية للأزمات الدولية، ومصادر التهديد، وعدم الاستقرار الدولي، يستلزم تفعيل ليس فقط مبدأ المسئوليات المشتركة، ولكن المتباينة بين أعضاء المجتمع الدولي، من أجل تضييق الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان المتقدمة، والبلدان النامية لتحقيق وتفعيل التنمية المستدامة 2030، وفقا لخطط الأمم المتحدة.
5- إن تسوية المنازعات في عالمنا اليوم لا يمكن تحقيقها إلا من خلال احترام مبادئ القانون الدولي، والتفاوض علي أساس المبادئ القانونية، والتاريخية، والأخلاقية، فضلا عن احترام سيادة الدول، ومبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية لديها.
ويبقي تأكيد أن مصر، عبر هذه المشاركات الأربع، وعلي هذه الدرجة من التمثيل في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة علي المستوي الرئاسي، قد نجحت في صياغة وإعادة تصنيع علامتها الوطنية، وفقا لثوابت السياسة الخارجية المصرية، ووفقا للقواعد الأخلاقية والقانونية الحاكمة للقائمين علي ملف إدارة التفاعلات في علاقات مصر الدولية، وضعا في الحسبان، وكما قال السيد الرئيس "أن مصر محاطة بالأزمات الأكثر خطورة في العالم. ومن قدرنا أن نبحر بثقة من خلال هذه الأخطار التي لم يسبق لها مثيل، وذلك بالاعتماد علي استراتيجية إنمائية طموح تقوم علي الإصلاحات الاقتصادية الجذرية والجريئة. وتهدف هذه الإصلاحات إلي تمكين الشباب، الذين يمثلون أغلبية السكان، ليس في مصر فحسب، بل أيضا في معظم مجتمعات البلدان العربية والعالم النامي".
هذه هي مصر، وهذه هي مقومات الدولة المصرية علي البقاء، وتحدي المخاطر من إرهاب، ومعوقات التنمية، والتي اعتمدت فيها علي فاعلية مؤسساتها، وقدرتها المرنة علي مجابهة التحديات، والتي مكنتها من أن تظل محافظة -وستظل- علي مكانتها الريادية في الإقليم العربي بمحيطاته المختلفة، ومن ثم مكانتها الدولية بين الأمم.