مع إعلان نتائج استفتاء كردستان، يوم الأربعاء 27 سبتمبر 2017، والتي أسفرت عن تأييد 92 بالمئة من أكراد العراق، لقيام دولة مستقلة تنفصل عن حكومة بغداد، تبدو التساؤلات مطروحة حول دوافع وتداعيات ذلك الاستفتاء، وما قد يواجهه من معضلات ديمقراطية، واقتصادية، وأمنية، وجيوسياسية، ودولية.
يأتي ذلك في ضوء السجال الدائر ما بين مؤيديه ومعارضيه، أضف لذلك تصدير الحكومة المركزية فى بغداد الورقة القانونية بـ "عدم التوافق الدستورى"، فضلا عن رفض فواعل الإقليم، سواء إيران أو تركيا، لذلك الاستفتاء، وتأكيدها المخاطر الاقتصادية والأمنية، التي سيطرحها على الإقليم.
دوافع الاستفتاء
لم يكن ذلك الاستفتاء السابقة الأولى فى تاريخ إقليم كردستان. فتاريخيا، تم منح الأكراد وعدا بالحصول على الاستقلال بموجب معاهدة سيفر (Sèvres) عام 1920، ثم سُحب منهم بعد ثلاث سنوات بموجب معاهدة لوزان. وفي عام 1946، أعلنت مجموعة من القوميين الأكراد، بقيادة مصطفى بارزاني، عن تشكيل كيان كردي صغير ومستقل في منطقة صغيرة من إيران، حمل اسم جمهورية مهاباد، ولم يدم طويلاً. وحاليا، يقود مسعود بارزانى، نجل مصطفى، هذا المسعى الجديد لتحقيق الاستقلال، والذى يشمل فقط المناطق ذات الغالبية الكردية في العراق.
ثمة دوافع أساسية لإجراء الاستفتاء على استقلال كردستان العراق، على الرغم من الانقسامات الثقافية، واللغوية، والسياسية العميقة بين منطقة بهدينان، الخاضعة إلى سيطرة بارزاني، والمنطقة المعروفة باسم سوران، وعاصمتها الواقعة في السليمانية، والرافضة لقيادة بارزاني، حتى مع تأييدها للاستقلال. ومن أبرز هذه الدوافع ما يأتي:
(1) محاولة إضفاء الشرعية على السيطرة الكردية في تلك المناطق، خاصة بعد أن فشل المسار التفاوضي الذي نصت عليه المادة 140 من الدستور العراقي، والتي كانت تنص على حل مشكلة تبعية تلك المناطق بإجراء إحصاء واستفتاء لسكانها لتحديد ارتباطها قبل نهاية عام 2007. لذا، تعتقد القيادة الكردية أن التجاذبات السياسية في هذه المرحلة مواتية لإنهاء هذا الملف، ولو بصورة أحادية الجانب.
(2) أن ولاية بارزاني، كرئيس للإقليم، كانت قد انقضت قبل نحو العامين، ولكن القوى السياسية الرئيسية فشلت في التوصل إلى حل سياسي ودستوري للإقليم، خاصة مع معارضة حركة التغيير لبقاء مسعود بارزاني في موقعه، وقيام حكومة الإقليم بطرد رئيس البرلمان الكردستاني المنتمي لحركة التغيير من أربيل. وبفعل الأزمة والإخفاق في بناء مؤسسات مقبولة، تكرس انقسام جغرافية الإقليم إلى مناطق نفوذ للأحزاب الرئيسية، حيث يحظى الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يقوده بارزاني، بنفوذ مهيمن في أربيل ودهوك، بينما يتقاسم النفوذ في السليمانية كل من حركة التغيير، والاتحاد الوطني الكردستاني الذي تمزق لعدة تيارات، منذ مرض زعيمه التاريخي، جلال طالباني.
(3) تدهورت الأوضاع في الإقليم خلال السنوات الأخيرة بسبب تراجع أسعار النفط، وقطع الحكومة الاتحادية في بغداد لميزانية الإقليم بسبب الخلافات بين الجانبين على إدارة موارد النفط، بالإضافة إلى عجز حكومة الإقليم عن دفع رواتب قطاعات واسعة من الموظفين الحكوميين الذين يمثلون 12 % من سكان الإقليم ، فضلا عن تزايد معدلات البطالة لتصل إلى نسب عالية (من 6.5 % إلى 14 % في عامي 2013و2016).
وأصبحت هناك علاقة طردية ما بين الضغوط الاقتصادية الناجمة عن تدفق الكثير من المهاجرين من مدن عراقية أخرى ومن سوريا إلى كردستان، من جهة، وتراكم الديون على الإقليم، فى ظل تزايد الإنفاقات غير الاستثمارية المبالغ بها في السنوات السابقة وتوقف الإنتاج في بعض الحقول، وتراجع التوقعات حول حجم الاحتياطيات النفطية للإقليم، من جهة أخرى.
دواعى الرفض:
سيطرت حالة من الرفض للمطالب الكردية بإجراء الإستفتاء لإقرار الاستقلال، سواء على مستوى الحكومة المركزية في بغداء، أو القوى الإقليمية والدولية، وتم التعبير عنها، كالآتى :
الموقف العراقي: ترفض الحكومة المركزية إجراء الاستفتاء حفاظا على وحدة الصف العراقى، حتى إنه تم اتخاذ العديد من الإجراءات التصعيدية لتعطيل ذلك الاستفتاء، وفى مقدمتها: استصدر الائتلاف الشيعي والقوى السنية الرئيسية بيانات رافضة للاستفتاء، وكذلك استصدار قرار من المحكمة الاتحادية يقضي بتعطيل إجراءات الاستفتاء حتى تنظر المحكمة في الطعون المقدمة حول إجرائه.
يأتي ذلك على الرغم من توجهات الرئيس العراقي محمد فؤاد معصوم المخالفة لرئيس الوزراء العبادى، حيث يتنازعه التزامان، الأول التزامه كرئيس للعراق وما يفرضه عليه ذلك من أن يرفض ما يخالف الدستور العراقي، وأن يتضامن مع حكومته، والآخر ما يتمثل فى التزامه بقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، مما يفرض عليه التعاطف مع الاستفتاء على الإقليم، الأمر الذى جعله يتقدم بمبادرة لحل النزاع، تقضي بإجراء مفاوضات غير مشروطة بين بغداد وأربيل، لا تتعدى ثلاث سنوات، ولكن تم رفض المبادرة من كل من بغداد وأربيل.
بالمقابل، صوت البرلمان العراقي بالإجماع على قرار تضمن 14 فقرة، ردا على استفتاء الإقليم، أهمها إلزام الحكومة الاتحادية بإرسال قوات عسكرية للمناطق المتنازع عليها، ومن ضمنها محافظة كركوك للحفاظ على الأمن.
الموقف الإيراني: فى إطار تحركات طهران نحو رفض استفتاء إقليم كردستان، اشتركت طهران مع وزيرى خارجية العراق وتركيا، وأصدروا بيانًا مشتركًا، بعد اجتماعهم في أنقرة في 21 سبتمبر 2017، حيث يشير إلى أن البلدان الثلاثة ستتخذ إجراءات مضادة منسقة، في حالة إجراء الاستفتاء في كردستان.
الموقف التركي: حيث ترفض أنقرة الاستفتاء نتيجة لتزايد مخاوفها من أن يؤدي إنشاء دولة مستقلة في شمال العراق إلى تشجيع حركات وميول مشابهة بين الأقليات الكردية القاطنة فيها. ومن ثم، اتخذت عددا من الإجراءات التصعيدية، فى مقدمتها التقويض الاقتصادى بالتهديد بكونها المنفذ الوحيد لتصدير نفط كردستان، والشريك التجاري الأكبر للإقليم. يعني ذلك أن قطع العلاقات الاقتصادية، وإيقاف تصدير نفط الإقليم يمثل خنق كردستان اقتصاديا.
فضلا عن ذلك، فالتوتر بين أربيل وأنقرة، على خلفية هذه الأزمة، يمثل تراجعا كبيرا عن مسار التحسن في العلاقات بين الجانبين الذي تصاعد في السنوات الأخيرة، لأن أنقرة صارت ترى في كردستان العراق جزءًا من مجالها الحيوي. وقد أوضحت أنقرة لاحقا كيفية الردود التي تنوي القيام بها في مواجهة تنظيم الاستفتاء، وهي ردود اقتصادية وسياسية، ولم تتطرق للرد العسكري.
الموقف الأمريكي: حيث ترفض الولايات المتحدة استفتاء كردستان، وتم استصدار بيان من البيت الأبيض يعدّ الاستفتاء تهديدا للاستقرار وللإنجازات التي تم تحقيقها في الحرب ضد تنظيم "داعش"، خاصة أنه تم إجراؤه في المناطق المتنازع عليها، بالإضافة إلى البيان الصادر عن الخارجية الأميركية في 20 سبتمبر 2017، والذي تبعه بيان صادر عن مجلس الأمن الدولي يعبِّر عن القلق من احتمال إجراء ذلك الاستفتاء، فضلا عن التهديدات الأمريكية المباشرة بقطع المساعدات العسكرية للإقليم، في حالة الاصرار على المضي بفكرة الانفصال.
المواقف الأوروبية: حيث عبرت قوى أوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا، عن مواقف رافضة للاستفتاء، وتم طرح مبادرة في 14 سبتمبر 2017 لتأجيل الاستفتاء، والشروع بمفاوضات مع الحكومة العراقية، تحت إشراف المنظمة الدولية. إلا أن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق على بارزاني، رفض المبادرة على أساس أنها لا تحتوي على ضمانات دولية كافية لإلزام الجانب العراقي بالوصول إلى اتفاق واضح.
معضلات ما بعد الاستفتاء
على الرغم من المواقف الإقليمية والدولية الرافضة لانفصال كردستان العراق، استنادا إلى خطر التقسيم، وفقا لإعادة تنميط الهوية، فإن هناك معضلات أخرى قد تنذر بفشل الدويلة الكردية مع تأييد غالبية أكراد العراق في الاستفتاء لخيار الانفصال، أهمها:
(1) المعضلة الديمقراطية: حيث إن النظام السياسي المستقبلي في كردستان سيكون امتدادا للنظام القائم. فبرغم أنه يبدو نظريا ديمقراطيا، فإنه من الناحية العملية يزداد استبدادا. فـالحزب الديمقراطي الكردستاني يعد نفسه الحاكم الشرعي لإقليم كردستان، وذلك كونه الفائز في الحرب الأهلية مع الاتحاد الوطني الكردستاني بين عامي 1994 و1998.
كذلك، انتهت أغلب التحليلات إلى أن الهدف من مطالبة كردستان بالاستقلال هو ترسيخ السلطة في شخص واحد، وحزب واحد، وجماعة واحدة، مما قد يمهد لسيطرة نظام استبدادي وغير ديمقراطي. وعوضا عن بناء دولة ومؤسسات، عمل الحزب الديمقراطي الكردستاني على تعزيز هيمنته.
(2) المعضلة الأمنية: حيث إن القوات العسكرية الكردية غير موحدة، ولا تنضوي تحت راية مؤسسة، وتنقسم بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني. فمنذ قيام حكومة إقليم كردستان، يتولى كل من الحزبين قيادة قوات البيشمركة، وقوات أمنية خاصة به. كما يملك الزعيمان السياسيان للحزبين حراسا شخصيين، وقوات خاصة. ومن ثم، فالطبيعة المفككة للقوات الأمنية تشكل تهديدا للتعايش بسلام، خاصة إذا استخدم كل من الحزبين قواته الأمنية المنفصلة في صراع داخلي- كما حصل سابقا- فضلا عن أن غياب الوحدة، ونقص الأسلحة، والتدريب، والتمويل للقوات الكردية، قد يؤدي إلى انهيارها، مما يجعلها عديمة الفائدة.
(3) المعضلة الاقتصادية: حيث يعانى إقليم كردستان العراق أزمة اقتصادية عميقة قد يفاقمها وجود كيان دولة. وعلى الرغم من الترويج لسيناريو بيع النفط الكردستانى، وتأسيس اقتصاد مستقل عن بغداد سيضع كردستان على خريطة الطاقة العالمية، وبالتالي الازدهار الاقتصادي. لكن الشواهد تؤكد فشل سياسة الاستقلال الاقتصادي. فمنذ أن خفضت بغداد حصة حكومة إقليم كردستان في الموازنة الاتحادية في فبراير 2014، واجهت هذه الأخيرة أزمة اقتصادية شديدة، حيث بلغ إجمالى الديون 20 مليار دولار.
بالإضافة لذلك، عجزت السلطات الكردية عن بناء اقتصاد محلي قوي قادر على تأمين أساس متين لبناء دولة مستقلة. كما أنها عملت على تدمير الاقتصاد التقليدي لمصلحة النفط، وشجعت الاستهلاكية داخل المجتمع الكردي، فضلا عن كون اقتصاد حكومة إقليم كردستان يواجه مشكلات هيكلية ترتبط بالفساد، وانعدام الشفافية، واحتكار الأسواق، والتدخل المفرط في الشئون الحكومية من قبل زعماء الأحزاب لمصلحة شركات، أو أشخاص نافذين مرتبطين بالحزب.
(4) المعضلة الجيوسياسية: حيث سيترتب على استقلال دولة كردستان ألا تملك منفذا بحريا، ومن ثم فستكون محاطة بالكامل من دول مجاورة لا تدعمها بالكامل. وبالتالي، فإن الموقع الجغرافي، وانعدام الاكتفاء الذاتي قد يجعلان حكومة إقليم كردستان تخسر سيادتها الوطنية، أو يؤديان إلى رضوخها لإحدى الدول المجاورة، لاسيما تركيا أو إيران. وفى حالة إن تم ذلك، ستعاني دولة كردستان تدخلات متكررة قد تزعزع استقرارها. وبالفعل، قد تصبح دولة كردستان المستقلة مسرحا للصراعات الإقليمية.
في الأخير، ومع تأييد أكراد العراق للانفصال عن بغداد، يصبح أمام إقليم كردستان تحد آخر يتمثل في الاعتراف الدولي باستقلاليتها. فبالنسبة لبعض الاستفتاءات الهادفة للاستقلال، التي انتهت بتصويت الأغلبية، لم تكلل في نهاية المطاف باستقلال الإقليم المعني، نظرا لأن ذلك يتطلب اعتراف باقي دول العالم، وذلك مثل إقليم "سيسكى"، الذى أصبح مستقلا عن جنوب إفريقيا خلال ديسمبر 1981، بعد أن تم إجراء استفتاء في وقت سابق، إذ لم تعترف كل من الأمم المتحدة، وباقي الدول باستقلال هذا الإقليم، ليعود من جديد إلى أحضان جنوب إفريقيا خلال شهر أبريل سنة 1994.
وفى حال استعانة القائمين على استفتاء كردستان بورقة الديمقراطية، كحجة للاستقلال عن بغداد، حتى يعززوا من حظوظهم في الحصول على اعتراف دولي، فإنه لا يزال هناك العديد من التحديات المستقبلية التي تفرض التحقق من إنجازها، لكي يُعد الإقليم دولة مستقلة.