فجأة، راح رجال أعمال، وشخصيات حديثة عهد بالشهرة تهرول نحو الاستثمار في وسائل الإعلام، وتضخ ملايين الدولارات فى أدواته المتعددة. وفيما شاع، خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى، مصطلح "زواج الثروة بالسلطة"، فقد عرفت الأعوام الثلاثة عشر الماضية مصطلحًا آخر، هو "زواج الثروة بالإعلام"، استغلالا لقوته الحاكمة، والغاشمة.
اختارت فئة مثيرة للجدل الاستثمار في الإعلام، وهى على دراية كاملة بأهميته كسلاح، فضلا عن دوره القوى فى حمايتها من الخصوم (الاقتصاديين والسياسيين) فى أثناء حرب الديناصورات التى شاعت بين مجموعات المصالح المحسوبة والمقربة من دوائر الحزب الوطني (المنحل)، كأن الغطاءين السياسي والقانوني، اللذين توفرهما عناصر معينة فى رأس السلطة، آنذاك، غير كافيين لحسم معارك البيزنس والطموح السياسي.
حينها، لم تكن الأهداف المتعددة لهؤلاء قد ظهرت كاملة، ومن ثم بدا للراصد أن هدف من يستثمرون فى الإعلام: تأمين الثروات من المخاطر المحتملة، وتوظيف أدواته القوية فى الحصول على المزيد من المكاسب. لكن فئة قليلة منهم كانت تعرف (بحكم اتفاقات، وتقاطعات مسبقة: إقليمية، ودولية) الدور المحدد لها فى المشهد العام، الذى يجرى الدفع به نحو حالة احتقان غير مسبوقة (عبرت عنها الأحداث السابقة واللاحقة ليناير 2011).
وجد أصحاب الثروة أنفسهم فى مأزق شديد الخطورة، كانت لديهم خشية من أن تسلب القوى السياسية والجماعات التنظيمية الصاعدة ما حققوه من مكاسب سهلة. حينها، كانت الأجواء شديدة الوعورة والاضطراب،ومن ثم راح بعضهم ينضم لمن يستثمرون فى "الإعلام الجديد"، وبدأت الغالبية منهم تخاطر للمرة الأولى، وتلقى بورقتها الأخيرة فى الملعب أملًا فى النجاة.
ثمة من حاول منهم الظهور بشكل متماسك، محاولًا إيجاد مكان وسط في حاضر شديد الاضطراب، عبر تشكيل كيانات نخبوية، علّها توفر الحاضنة السياسية لتحركاتهم، فيما الأدوات الإعلامية المملوكة لهم تروج مرة لـ"كبير الحكماء"، وآخر بحسبانه "عراب دعوة الإصلاح الشامل"، فيما العمل يتم بجد واجتهاد لتنفيذ الدور المطلوب فى ترتيب معالم المستقبل بالشكل الذى يرضى طموحات ومخططات الممولين.
وفيما الأحزاب والقوى السياسية (الليبرالية، والقومية، واليسارية، وحتى المجتمع المدنى) ترفع راية الاستسلام، وتفشل فى ملء الفراغ، الذى خلفه سقوط "الحزب الوطني"، ورجالاته، تعامل أصحاب وسائل إعلام خاصة بنفعية منقطعة النظير مع سطوة تنظيمات الإسلام السياسي (جماعة الإخوان، والقوى، والمدارس السلفية...)، وليس أدل على هذا مما رواه لى شاهد عيان، هو فى واقع الأمر أحد مصادري داخل الجماعة.
سمعت منه، بعدما شاءت المصادفة أن يكون موجودا فى المكتب الخاص لخيرت الشاطر (مرجعية الخطط والسياسات، ومقر ما له خصوصية من لقاءات)، أن أحد أهم رجال الأعمال، الذين برزوا فجأة فى واجهة المشهد (عبر تأسيس فضائيات، وصحف، ومواقع إنترنت) ذهب لمكتب خيرت بعد أسبوع واحد فقط من فوز محمد مرسي بالرئاسة، وقال له نصًا: "أنا وشبكة قنواتي كلها تحت أمركم"!!
لم تكن هذه الخطوة غريبة، فهناك رجل أعمال آخر كان في مقدمة الأعضاء المؤسسين لجمعية "ابدأ" التى حاول من خلالها رجال أعمال إخوان (برئاسة حسن مالك) احتكار القطاعات الاقتصادية والإنتاجية فى مصر، حتى تصبح في قبضة أسرتين فقط (مالك، والشاطر) بعدما كانت فى قبضة 27 أسرة تعمل بالبيزنس في زمن الحزب الوطني.
المهم، راح هؤلاء (ممن تم فرضهم على المشهد الإعلامي) يوظفون الإعلام (الوسيلة الأكثر حضورا، بحكم دخولها كل بيت فى مصر) عبر الفضائيات، والصُحف، ومواقع الإنترنت، والإذاعات، والمجلات، والأفلام (ذات القدرة المثيرة على سلب عقول الرأي العام بالتدريج، والعمل على تشكيله) وفقًا لمخططات ممولي هذه الوسائل.
تعددت فى الوقت نفسه الأسباب التى دفعتهم إلى ضخ المزيد من الأموال فى صناعة الإعلام، وأدواته. كان الهدف المخطط لهؤلاء، قبل (وبعد) ثورة 30 يونيو 2013، العمل بكل الطرق على إطالة "الفترة الانتقالية" التى تعيشها الدولة المصرية. وعليه، يجب تأكيد أن العقول التى راحت تفكر لخريطة الاستثمار فى الإعلام، وتفعيل خريطة الفوضى الشاملة أيضا، ليست إعلامية فقط، لكنها كانت عقولا أمنية واستخباراتية، إقليمية ودولية، شرعت فى توظيف الإعلام فى الترويج للفتن.
جعلوا من البلطجية مناضلين سياسيين، ومن المرتزقة دعاة حقوق إنسان، ومن عناصر مخربة (أطلقت الرصاص على المدنيين وعناصر أمنية وعسكرية، وأحرقت مبانى حكومية، وممتلكات خاصة) ثوارا. لاحظنا جميعا حجم التحديات فى ضوء حالة السيولة التى لعبها ما يسمى "الإعلام الجديد" (New Media)، الذى أصبحت نصف وسائله متاحًة لجميع شرائح المجتمع وأفراده (دخولا، واستخداما، وتوظيفا...).
وفى ظل ثورة الاتصالات، باتت وسائل الإعلام البديل، فضلا عن مواقع التواصل (فيس بوك، وتويتر، ويوتيوب، ومدونات...) تتحدى إجراءات الرقابة المحلية (على تعددها، وتنوعها)، وسط صفقات سرية وغامضة تمت داخل مصر وخارجها للاستثمار فى الإعلام، لتوصيل رسائل معينة، والترويج لشخصيات بعينها، ولأنظمة عربية، وجهات دولية عبر شعارات زائفة تتحدث عن الإصلاح الشامل، والحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.
ويعتمد الإعلام الجديد (أو الإعلام البديل، والإعلام الاجتماعي، وصحافة المواطن، ومواقع التواصل الاجتماعي) على تداول "الرأي والمعلومة، والخبر، والخبرات والتجارب، والصور، ومشاهد الفيديو الإلكترونية" من قبل أفراد غير خاضعين لأي نظام سياسي، لكن وفق ما يؤمنون به من قيم ورقابة ذاتية نسبية (!!!)، أو وفق التوجيه الذى لا يعبر مباشرة عن مموليه، لكن يتم استخدام وسيط لمد الجسور مع الرأي العام.
وزادت أهمية ما أقوله في ضوء المسوغات الترويجية التى يعلن بها الإعلام الجديد عن نفسه من أنه يمثل "إعلام الشارع" في مواجهة "إعلام السلطة"، وأنه "يكسر احتكار الدولة للإعلام"، مدعوما فى الوقت نفسه بعدة مميزات (سهولة الاستخدام، وانخفاض التكلفة فى النقل، والنشر، والعرض، وتبادل الحوار والتأثير فى نطاق جماهيري واسع...). ومن ثم، أصبح هذا الإعلام (الكوني، والرقمي، والتفاعلي...) الأكثر رواجًا وانتشارًا في المجتمع، خاصة بين الشباب.
وبرزت ظاهرة الانفلات الإعلامى (المخططة) فى كل المحطات الدامية التى شهدتها البلاد (التى تقف خلفها جماعات، وتنظيمات، وشخصيات مستفيدة) لاسيما أحداث الفتنة الطائفية فى أطفيح، وامبابة، ومسرح البالون، وماسبيرو، ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، وحادثة استاد بورسعيد، فضلا عن جملة من الأحداث والتطورات المتلاحقة التى شهدتها البلاد، خاصة فى الانتخابات البرلمانية (الشعب والشورى)، ثم الانتخابات الرئاسية.
تبدى التوظيف الإعلامي فى تغطية الأحداث التى شهدتها ميادين مصر (التحرير، والعباسية، والأربعين، والقائد إبراهيم، وميادين أخرى فى المحافظات). بدا، من خلال هذه الظاهرة أن هناك من يدفع بالبلاد نحو الفوضى، والإيحاء للعالم بأن الأوضاع فى مصر باتت متدهورة فى كل القطاعات، وأن يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم تعد متحكمة فى وتيرة الأحداث.
لم يكن هؤلاء الذين انخرطت وسائل الإعلام المملوكة لهم كائنات فضائية هبطت من السماء على مصر (والمنطقة)، لكن أغلبهم كانوا ممن يتلقون أموالا مشبوهة، بعضها داخل مباشرة (عبر ملف التمويل الأجنبي المتخم بالتفاصيل منذ عام 1994)، فضلا عن تسرب أموال أخرى بأساليب متعددة، تتصدرها توكيلات أجنبية، وتعاملات اقتصادية عابرة للحدود الإقليمية والدولية.
كانت الرسالة التى حاول هؤلاء ترسيخها أن المؤسسات الحكومية، على تنوعها وتعددها، لا تؤدى دورا واضحا فى خدمة المجتمع، لاسيما المؤسسة الأمنية، التى وضعها الإعلام، بشقيه العام والخاص، فى موضع المدافع عن النفس، وهى صورة سلبية، كان لابد أن تنعكس على المجتمع والرأى العام المحتقنين أصلًا.
..وللحديث بقية حول لاعبين إقليميين ودوليين يحركون الأحداث من خلف ستار.