شهدت الأيام القليلة الماضية صورًا متعددة لتصعيد عسكري بادرت به إسرائيل تجاه سوريا و"حزب الله" اللبناني، كان أبرز عناصره شن الجيش الإسرائيلي غارة جوية استهدفت معسكرًا سورياً بحماه، فضلا عن بدء تدريب عسكري إسرائيلي يحاكي حرب ضد "حزب الله" اللبناني. يأتي ذلك التصعيد ردًا على تطورات الحرب السورية التي رأت تل أبيب أنها لا تصب في مصلحتها.
سياقات التصعيد:
1- صفقة "داعش" و"حزب الله": حيث أثارت الصفقة التي نفذت بين "حزب الله" اللبناني وتنظيم "داعش" الإرهابي يوم 26 أغسطس 2017 الكثير من التساؤلات حول طبيعة العلاقة بين الطرفين، حيث تم نقل قافلة لـ "داعش" مكونة من 17 حافلة تحمل عناصر التنظيم وعائلاتهم من مدينة البوكمال السورية في ريف دير الزور الشرقي لتتمركز بجانب الحدود السورية العراقية الممتدة على ستمئة كم، وذلك مقابل إبلاغ الجيش اللبناني بمصير العسكريين الذين اختطفهم "داعش" منذ 3 سنوات، وقد اعترف "داعش" بقتلهم، وسلم الجيش اللبناني رفاتهم.
وقد أدان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، وبعض الكتل السياسية العراقية الصفقة التي تهدد الأمن القومي العراقي مباشرة، لاسيما أن المسافة من مركز دير الزور إلى الأراضي العراقية هي نحو مئة كيلومتر فقط. يثير ذلك الأمر المخاوف من إمكانية إعادة التنظيم لترتيب أوراقه، والسيطرة على جزء من المدن العراقية مرة أخرى.
وتعد الصفقة مؤشرا مهماً علي أن مصلحة النظام السوري أهم من مصلحة النظام العراقي لدى صانع القرار الإيراني الذي يتغلغل ويتصاعد نفوذه في البلدين، وهو ما يؤرق أمن إسرائيل، كما تدل على وجود علاقات واتصالات سابقة بين "داعش" و"حزب الله" اللبناني وإيران. وتؤكد الصفقة تصاعد دور الفاعلين من غير الدول، لاسيما المسلحين منهم في المنطقة العربية، مقابل تراجع أهمية دور الدولة القومية في إدارة شئونها مما ينذر بتداعيات شتى، منها الترويج لتقسيم بعض الدول العربية، نتيجة لهشاشة وضعف مؤسسات الدولة وعجزها عن إدارة المجتمع. دفعت كثرة الانتقادات ضد الصفقة طيران التحالف الدولي ضد داعش بقيادة واشنطن لقصف قافلة داعش قبل مغادرتها الحدود السورية، ويوجد الآن عناصر "داعش" في المنطقة الصحراوية بين سوريا والعراق.
2- انتصارات متتالية للنظام السوري: أعلن الأمين العام لحزب الله اللبناني الحليف القوي للحكومة السورية، حسن نصرالله، يوم 12 سبتمبر 2017 النصر في الحرب بسوريا،لأن المعارك المتبقية هي "المعارك المتفرقة"، وهذا يتوافق مع ما أعلنته مصادر عسكرية روسية بتحرير85 % من الأراضي السورية من وجود الإرهابيين فيها. حيث استردت القوات الحكومية السورية، مدعومة عسكريا ولوجيستيا من روسيا وإيران وعناصر "حزب الله" اللبناني معظم المحافظات السورية المهمة. كما استطاعت فك الحصار عن محافظة دير الزور الغنية بالنفط، بعد 3 سنوات من سيطرة "داعش" عليها.
3- تجاهل مصالح إسرائيل في تسويات الهدنة: شهدت الأشهر الثلاثة الماضية توقيع عدد من اتفاقيات لتثبيت الهدنة وخفض التوتر في بعض المدن السورية وذلك برعاية روسية وموافقة أمريكية، حيث تم تثبيت الهدنة في غرب سوريا ومدن الغوطة الشرقية وحماه وحمص، وكذلك في جنوب سوريا، شملت محافظات (درعا، والقنيطرة، والسويداء). وقد رأت تل أبيب أن تلك الاتفاقيات، لاسيما في الجنوب، تتجاهل أمنها القومي وترسخ لتوطين عناصر "حزب الله" بجنوب سوريا، وتعمل على تعزيز النفوذ الايراني بسوريا ولبنان، وذلك رغم تأكيد واشنطن وموسكو باستمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل لتجنب تسلل عناصر الجماعات الإرهابية إليها.
4- فشل زيارة نتنياهو لموسكو: حيث فشل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوقف التغلغل الإيراني في سوريا، وذلك خلال زيارته الأخيرة لموسكو في أغسطس 2017. وكان رد بوتين عليه أن موسكو تعد إيران دولة حليفة استراتيجيّة لروسيا في الشرق الأوسط، وستستمر في تعزيز الدّور الإيراني في سوريا، وتثبيت سُلطة الرئيس بشار الأسد، وهذا بالطبع لتحقيق المصالح الروسية في المنطقة التي تتوافق حاليا مع مصالح حلفائها في إيران وسوريا.
وكان رد نتنياهو على ذلك أنه هدد موسكو علانيّةً بقَصف قصر الرئيس الأسد في دِمشق، والتجمّعات العسكريّة الإيرانيّة، ومواقع "حزب الله" اللبناني في سوريا، الأمر الذي يمثل إحراجا لموسكو بحسبانه تلك الدول حلفاءها ويتوجب عليها حمايتهم.
أشكال التصعيد:
أتخذ التصعيد العسكري الإسرائيلي ضد سوريا وحزب الله اللبناني عدة صور، منها
1- الغارة الإسرائيلية على حماه: حيث شن الجيش الإسرائيلي فجر يوم 7 سبتمبر 2017 غارة جوية على مدينة حماة السورية انطلاقا من الأجواء اللبنانية، ادعت تل أبيب أنها استهدفت مراكز أبحاث سورية وإيرانية لتطوير الصواريخ وتطوير أسلحة غير تقليدية ربما تكون كيميائية. وقد أدّت الغارة لخسائر مادية بالغة ولسقوط سَبعة شهداء. وقد شنت تل أبيب قبل ذلك مئة غارة على سوريا منذ عام 2011 وحتى اليوم، واستهدفت كذلك منشآت عسكرية.
وقد أدانت دمشق وبيروت الهجوم، ولم يعلق عليه "حزب الله" اللبناني، رغم أن مصادر عسكرية إٍسرائيلية روجت إلى أن الحزب قد نقل صواريخ متطورة من لبنان للمركز المستهدف بحماه. وقد تقدم لبنان بشكوى عاجلة ضد إسرائيل إلى مجلس الأمن بشأن "الخرق الجوي الإسرائيلي الأخير للسيادة اللبنانية". والهجوم جاء للرد على موسكو التي رفضت وقف التغلغل الإيراني بسوريا، حيث إن الهجوم يثبت ضعف أنظمة الدفاع الجوي الروسي العاملة بسوريا، والتي لم تتمكن من ردع الطائرات المعادية.
2- بدء أكبر مناورة بشمال إسرائيل: حيث بدأت يوم 5 سبتمبر 2017 أكبر مناورة عسكرية منذ 20 عاماً باسم "نورداغان" تنفذها القيادة الشمالية بالجيش الإسرائيلي، تحاكي حرباً على لبنان كله، وليس فقط على "حزب الله"، ويستمر التدريب نحو أسبوعين. وبدأ بافتراض أن الحكومة الأمنية المصغرة قررت شن حرب على حزب الله بهدف حسمه وليس ردعه فقط، ويشارك فيه عشرات آلاف الجنود العاملة والاحتياط، وعشرات الطائرات الحربية، وطائرات بلا طيار(الدرون)، وقوات برية ولوجيستية، ووحدات هندسية، وسلاح الطيران، والبحرية، وقيادة هيئة الأركان.
وقد أعلنت تل أبيب أن التدريب ليس له علاقة بتطورات الوضع في سوريا، بيد أنه لا يمكن تفسيره، لاسيما في توقيته، غير أنه للرد علي تصاعد قوة حزب الله العسكرية بعد تحقيقه انتصارات عدة في سوريا.
3- إطلاق حملات إعلامية هجومية: تبادل يوم 11 سبتمبر 2017 كل من إسرائيل و"حزب الله" اللبناني إطلاق حملات إعلامية حادة ومضادة موجهة من كل طرف ضد الآخر، حيث بدأ الجيش الإسرائيلي حملة دعائية له لردع "حزب الله" بشعار "إن تجرأتم فاجأناكم"، ورد عليها "حزب الله" بحملة مضادة بشعار "إن فكرتم أبدناكم". تزامن مع ذلك تصريحات من عدة مسئولين إسرائيليين تحمل التهديد "لحزب الله" وتتوعده بحرب شرسة مقبلة ضده، حيث أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيجدور ليبرمان، يوم 12 سبتمبر 2017، أن المواجهة القادمة المحتملة مع الحزب ستنتهي لمصلحة إسرائيل، مُؤكّدًا في الوقت نفسه أن حُكومته لن تَسمح لأحد باختراق الخُطوط الحُمر التي وَضعتها في سوريا حِفاظًا على أمنها ولم يحدد ماهيتها.
أهداف التصعيد:
1- ردع "حزب الله" اللبناني: أكدت عدة مصادر إسرائيلية أن الهدف من التحركات العسكرية الأخيرة والتصعيد الإعلامي هو إبراز قوة الجيش المتعاظمة لردع "حزب الله" اللبناني. ويعد هذا هو الهدف الأول لمناورات "نورداغان"، لأنها تتضمن تدريب علي عمليات هجومية كاملة النطاق ضد حزب الله ومواقعه في لبنان وسوريا، اعتمادا على معلومات استخباراتية جمعتها إسرائيل فى أثناء مراقبة لعمليات"حزب الله" داخل سوريا، لأن احتلال تل أبيب لهضبة "الجولان" يسمح لها بمراقبة كافة الأراضي السورية.
2- تحجيم الدور الإيراني في سوريا: يؤرق تصاعد دور إيران الإقليمي وإدارتها لعدة ملفات لمصلحتها، بل والانتصار في بعضها، جميع الدول الاقليمية ومنها (المملكة العربية السعودية، ومصر، وتركيا)، وليس فقط إسرائيل. فالتغلغل الايراني في سوريا والعراق أصبح أمرا واقعيا، ودعمها للحوثيين في اليمن يهدد الأمن القومي الخليجي مباشرة، وأمن البحر الأحمر الذي يرتبط جغرافيا بأمن إسرائيل. وبذلك، ترسخ طهران الهلال الشيعي الإيراني المُمتد من أفغانستان حتى الضاحية الجنوبية لبيروت على ضِفاف البحر المُتوسّط، مرورا بالعراق وسوريا، عبر جسر بري إيراني شيعي، هو الأول في تاريخ الشرق الأوسط. وهذا ما أعلنت عنه تل أبيب صراحة بأنها لن تقبله، بل وستعتمد على الحل العسكري المنفرد لمواجهته.
3- احتواء الغضب داخل المجتمع الإسرائيلي: يستعد القضاء الإسرائيلي لبدء مقاضاة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وزوجته في قضية عرفت باسم "فضيحة الولائم"، وكذلك تم توجيه الاتهام لعدد من وزرائه بالتورط في قضايا فساد، مما أدي لتدني شعبيته قبل الانتخابات القادمة التي يعتزم الترشح فيها. ولذا، فإن تصعيدًا عسكريًا ضد "حزب الله" اللبناني، وربما إقدامه على شن حرب، يعد حلاً مثاليًا لتشتيت المجتمع الداخلي ورفع شعبيته المتدنية.
ختامًا، نجد أن العوامل السابقة كفيلة لتؤكد قرب انتهاء الحرب السورية لمصلحة الأسد وحلفائه، بعد ست سنوات من استمرارها، وهو ما عبر عنه المبعوث الأممي لسوريا، ستيفان دي ميستورا، مما يؤرق صانع القرار الإسرائيلي الذي يرى في ذلك تعزيزًا للنفوذ الإيراني في سوريا، حتى بلغ الحديث عن إقامة قواعد عسكرية إيرانية بسوريا ستكون على الحدود الإسرائيلية. كما أن "حزب الله" اللبناني كان له دور مؤثر في تحقيق الانتصار بسوريا، مما يضاعف من قوته العسكرية، ويضيف لخبراته الميدانية من خلال المعارك التي يخوضها منذ خمس سنوات. ولذا، ربما تكون الحرب القادمة بين إسرائيل و"حزب الله" اللبناني على الأراضي السورية.