خلال مشوار البحث عن مستقبل مشرق، تتحقق من خلاله أحلام العدالة والتنمية، مرت مصر بما يمكن وصفه بـ"لحظات ضعف مؤقتة". خلال السنوات التي سبقت، ولحقت يناير 2011 خلالها، تأكد للمعظم (إلا من انخرط في المؤامرة، عمدا وجهلا) أن هناك من يتربص بمصر وشعبها.
بادر هؤلاء الذين يعملون من خلف ستار (في الخارج والداخل) بتوجيه قوى، وتيارات، وجماعات مصالح (متعددة المشارب والأهواء) لبث الخوف والهلع في قلب المجتمع، أملًا في إرباكه، وإفقاده الثقة في المستقبل، والأهم منع مؤسسات الدولة الوطنية من تصحيح المسار، وفق نهج جديد، حدده المصريون بأنفسهم.
نجحت المؤسسة العسكرية (مدعومة بأداء جماعي متناغم لأجهزة المعلومات) في ضبط الأوضاع الأمنية، وإعادة الهدوء النسبي إلى الشارع المصري. غير أن المتربصين بالوطن سلكوا طريقًا آخر، اعتمد بالأساس على توظيف كل ما هو مطروح من أسلحة (مشروعه وغير مشروعة) في عملية الاستهداف.
ومن بين أسلحة "القوة الناعمة"، لجأ هؤلاء لسلاح الإعلام (ذى التأثير الرهيب) في زعزعة المجتمع. تعددت الوسائل (صحافة، وفضائيات، وإذاعة، ومواقع إنترنت...)، فضلا عن كتائب إلكترونية (تنظيمية ومرتزقة) تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي. بات الجميع خارج حدود السيطرة (كغالبية ما يطلق عليه الإعلام البديل).
اعتمد المخطط على إغراق المجتمع في التشويه، والتشكيك، والتسفيه، فضلا عن تحول هذه المنابر إلى نوافذ للتنظير، والتقعير، وإطلاق الأحكام المسبقة، حتى برامج رياضية واجتماعية تحولت بقدرة قادر إلى قنابل موقوتة. وزايدت الوسائل المحسوبة على جماعات الإسلام السياسي (من القاهرة، إلى لندن، بل وعموم الدول التي تنتشر فيها هذه التنظيمات) في قصف العقول بما يخدم مصالحها.
وسط كل هذه الملابسات (سيئة النيات والخطط)، تمددت حالة إفقاد المجتمع الثقة في كل شيء، وأي شيء. لم يسلم نزيه أو شريف يتحمل مسئولياته الوطنية من ألسنة الفتنة، التي راحت تستيقظ من سباتها العميق كطائر العنقاء الأسطوري. تناسى هؤلاء أن الإعلام فى صورته المبسطة هدفه التعريف بقضايا العصر، وبمشكلاته، وكيفية معالجتها في ضوء النظريات والمبادئ المعتمدة لدى كل دولة، والأساليب المشروعة التي تنظم عمل وسائل الإعلام في أجواء ديمقراطية.
كان من الطبيعي، في ظل هذه الأجواء (شبه التآمرية)، أن تبدأ حالة انعدام الثقة الواضحة في عدد كبير من وسائل الإعلام، لأن القائمين عليها لم يتحملوا مسئولياتهم في تزويد الرأي العام بأكبر قدر من المعلومات الصحيحة، والحقائق الواضحة، ابتعدوا عن رسالتهم الإعلامية، القائمة على التنوير والتثقيف، وتوجه الطاقات لخدمة المصلحة العامة.
التخطيط الإعلامي، في أبسط تعريفاته، يركز على حشد الطاقات المهنية، ويضع في حسبانه منذ البداية وحدة العمل الإعلامي بكل صوره وأشكاله، حتى تكون الرسالة الموجهة للمتلقي في خدمة الاستراتيجية العليا للوطن.
وتنقلنا هذه الخطوة لسؤال يطرح نفسه بقوة ونحن نناقش ظاهرة الانفلات الإعلامي في مصر، مفاده: ما الرسالة الإعلامية؟ المؤكد، أن الإجابة ستكون كاشفة، وموضحة لأسباب هذه الظاهرة، التي تعيشها مصر منذ سنوات، قبل أن تستفحل بشدة عقب 25 يناير 2011، حيث تخلت معظم وسائل الإعلام عن رسالتها الحقيقية لأسباب متعددة، بدت على تنوعها، واختلاف مصادرها، خصمًا من رصيد الرسالة التنويرية للإعلام في المجتمع.
في جميع الأنشطة المتعلقة بعمليات الاتصال مع الجمهور، نستخدم مفهوم "الرسالة الإعلامية"، وهى تعنى كل ما يتم تقديمه من مضامين (معلومات، وحقائق، وأفكار، وآراء جديدة)، سواء كانت مقروءة، أو مسموعة، أو مرئية.
وبحسب علم النفس الإعلامي (أحد مجالات علم النفس العام، المعني بدراسة تأثير عمليات الاتصال فى الشخصية)، فإن الرسالة الإعلامية تؤثر في حياتنا، وسلوكنا، وتصرفاتنا؛ لأننا كأفراد نعيش في المجتمع، ونتعايش معه، ونتأثر بكل ما تتم كتابته، وسماعه، ومشاهدته.
إذن، مفهوم الرسالة الإعلامية واضح ومحدد، لكنه في الوقت نفسه معقد ومتشعب بسبب تأثيره فى الجمهور، وارتباطه بالمهام والوظائف التي يؤديها في المجتمع. لذا، تظهر أهمية ما يسمى بـ"نظرية حارس البوابة الإعلامية"، التي تعنى وفق ما نعرفه نحن العاملين في صناعة الإعلام "المطبخ"، الذي يتم فيه تجهيز الرسالة الإعلامية.
هو في الصحافة يعنى "السياسة التحريرية للصحيفة"، أي توجهاتها، وطريقة تعاملها مع الحدث حتى تصل للقارئ. في العمل الإذاعي والتليفزيوني، والسينمائي، يعنى الطريقة التي سيتعامل بها كاتب السيناريو مع الحدث، وكيف سيوصله للجمهور.
غير أن دهشة عارمة ستصيب أي متخصص يحاول أن يتأمل، أو يشتبك بموضوعية مع المشهد الإعلامي المصري (بل والعربي)، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث تتعالى الأصوات الزاعقة في حالة هستيرية من الصراخ، والبكاء، والعويل سابق التجهيز والتوجيه.
غالبية من يتصدرون المشهد الإعلامي يخاطبون الغرائز لا العقول. وحين ينزلق الإعلام بالرأي العام على هذا النحو، من خلال تزويد الناس بالأكاذيب والتضليل، والمتاجرة في الخداع والتزييف والإيهام، لابد أن تظهر عوامل التفرق والتفكك على كل الأصعدة.
سيلفت نظر الراصد لهذه الظاهرة حالة من الاستعداء المعلن، تورطت فيها بفجاجة قنوات فضائية، وصحف، وإذاعات، ومواقع إنترنت موجهة (من الداخل والخارج) انطلاقًا من أنه لا توجد جهة منظمة للعمل الإعلامي، حيث يقول كل شخص ما يريد، دون رقيب، يرددون نغمة واحدة: نحن "إعلام الثورة".
كأن الثورة أعطتهم شيكًا على بياض لاستهداف كل ما هو أخلاقي، وسلوكي، فتحولت منابرهم إلى نوافذ للتشويه والتشكيك، بل والسب والقذف. تحولت استوديوهات الفضائيات (في غالبيتها) إلى منصات للقصف المكثف، عبر من نصبّوا أنفسهم (في فترة رخوة) قادة للمجتمع، وموجهين للرأي العام، وتوجيه الاتهامات شرقا وغربا، دون أن يسألهم أحد: ما الوثائق والمستندات التي تعتمدون عليها في توجيه اتهاماتكم؟.
أغلقوا الأبواب (بأوامر وبدونها) في وجه كل نصيحة، أصبحوا أشد سطوة من أي ميثاق شرف (إعلامي.. صحفي) في زمن يرفع على الأعناق، ويوصف بالبطولة كل من يلقي بـ"الكرسي في الكلوب". لم يجد هؤلاء من يعترض على ما يسمى "إعلام الثورة"، ويوضح لهم أن الإعلام إما أن يكون مهنيا، أو غير مهني.
في كل دول العالم ذات التاريخ الديمقراطي، هناك ضوابط ومواثيق شرف تحكم العمل الإعلامي. أيضا، المؤسسة التي تعمل في هذا القطاع لها ضوابط ومعايير مهنية وأخلاقية. جميعها، تعمل دائما على حماية الجمهور من التضليل وتزييف الحقائق، تعمل على احترام القيم، وإعلاء قيمة المشاركة في العمل الوطني.
وعليه، وجدنا أنفسنا أمام إعلام يرى الحقيقة بـ"عين واحدة"، وفق رؤية وأهداف من يمول، ويوجه فى الوقت نفسه.. ظهر التحيز لوجهة نظر معينة على حساب التوازن.. تم تفضيل السبق الإعلامي على الدقة.. تغلبت الإثارة علي الحقيقة.. تاهت الحقائق وسط الآراء.. تم تفضيل المصلحة الخاصة على العامة.
عكست غالبية وسائل الإعلام حالة من الجدل العقيم تجاه الأحداث الجارية، وتسببت في تأجيج خلافات سياسية، سرعان ما تحولت إلى صراع. لا فرق بين إعلام ليبرالي، وآخر ينطق باسم "متأسلمين"، و"تنظيميين". نكث الجميع عن متطلبات المرحلة الحرجة، بعدما افتقد الخطاب الإعلامي المسئولية، وراح يغذى الفتنة والطائفية، ويحض على كل ما من شأنه زعزعة استقرار المجتمع.
وللحديث بقية عن المستفيدين من الفتنة داخل الحدود وخارجها.