عصر الجمعة الأخيرة من شهر يناير 2006، تحدد لنا لقاء مع الأستاذ محمد حسنين هيكل.. انطلقنا من قلب القاهرة إلى منزله الريفي بمنطقة "برقاش" عصرًا.. كنا نعرف أنه يفضِّل (وفقًا لعادة أسبوعية صارمة)، قضاء يومَيْ الخميس والجمعة في أحضان الطبيعة.
ينسلخ من ضوضاء القاهرة إلى تلك المساحات الخضراء.. تتوسطها فيلا صغيرة، ومجموعة من الأشجار النادرة داخل مزرعته البسيطة- الراقية.. ظل يعترف قبل رحيله (17 فبراير 2016) بأن لكل شجرة منها قصة، قد تصل في حميميتها إلى علاقة عاطفية، لا تعترف بقوانين الطبيعة.
آنذاك، وضع النقاط فوق الحروف.. تحول الحوار إلى جدول أعمال وطني ساخن.. إلى قمة عربية طارئة.. تذكرت حينها نظرة المؤرخين له، وكيف أنه "جعل التاريخ ينهض، ويسير، ويتحرك، ويتكلم، ويتألم، وينفعل، ويندهش.. جعل للتاريخ عيونًا، بعدما كان مجرد روايات وقصص سماعية".
وأنت تجلس مع "الأستاذ" يأخذك حديثه (كما نتائج كتاباته، وإطلالاته) لمناطق الانبهار بمن يتحدث.. هو الراوية لا المتقمص.. شاهد عيان، ظل حتى النفس الأخير يتابع، ويرصد، ويدرس.. يلتقط من دهاليز الحقيقة إجابات، عن الشرق موطن السلاطين، والتوريث، وفقه المؤامرات.
فى تجربته المهنية، لم يكن مؤرخًا يُعقِّد الأمور بأكثر مما ينبغي، ولا إعلاميًّا يتعرض للتاريخ فيُسطِّح الوقائع.. مهنيًّا، عشت معه عامين بالتمام والكمال.. شاركت (فيهما) في حديثين صحفيين معه، وأعددت (للنشر الصحفي) الجزء المؤسس من سلسلة حلقاته التليفزيونية (تجربة حياة).
خلالها، سجّل سيرة صحفي "ملك أدوات الكتابة، وفنون السياسة، وذاكرة المؤرخين، وحكمة الفلاسفة".. سيرة صحفي محترف يعفُّ عن الاقتراب مما يسعى إليه الناس، بل من أجله يتقاتلون.. شكّلت لي تلك المدة الزمنية فرصةً.. فتحت لي آفاقًا جديدة.
منحتني هذه الفترة (دون تطفل) مساحة كبرى عند قارئي، افتقد قلم "الأستاذ"، بعدما استأذن في الانصراف عن الكتابة المنظمة، والعمل الصحفي.. لم يكن انصرافا عن الكتابة، لكنه انصراف بها.. بما يحتكره من أدواتها.. بثرائه اللغوي والمعلوماتي.. بتحليلاته التي تجمع بين البساطة والخلاصة.
يصر القراء (ونحن منهم) على أن القرار الذي اتخذه "هيكل" (في ذكرى مولده، 23 سبتمبر 1923) عبر هجر الكتابة (مع تبريره) لا يبرَّر.. قلنا: لا يمكن تخيل "هيكل" برغم رونقه التليفزيوني بعيدًا عن الورقة والقلم.. هو نفسه لم يكن يتخيل، يومًا، الابتعاد عن هذه المساحة.
أتذكر قوله: "لا أعرف أهو تحيز رجل لما ألف وعرف، أو أنه حكم في الموضوع، بصرف النظر عن متغيرات العصور.. أنا على شبه اقتناع بأن الكلمة على الورق باقية، وأن الكلمة المسموعة على الإذاعة والتليفزيون عابرة.. والكلمة المكهربة على الكمبيوتر فوارة، وهي مثل كل فوران متلاشية...".
يفضِّل "هيكل" الفصل بين التاريخ والتجربة الإنسانية.. يرى أن "حسابات السنين" تتراجع أمام "قيمة التأثير".. يشير (من بعيد) لمقعد المؤرخ دون أن يجلس عليه، وهو له أهل.. حين يتصدى لنقد الواقع (في عصور عاشها مراقبًا، ومحللًا، وناقدًا)، يتحول كلامه إلى انفراد (فى الرؤية، والمعالجة، والنتائج).
حتى اللحظات الأخيرة من حياته، كابره العمر (93 عامًا) لكن لم تكابره الذاكرة.. في كل إطلالاته يصر على أنها "ذاكرة الراصد"، لا "ذاكرة المؤرخ".. يجزم بأن وقائع الماضي تفسير للحاضر، ومفتاح للمستقبل.. إنها فلسفته الواقعية في التعاطي مع الواقع والأحداث.
خلال أطروحاته (المتنوعة) راح يزيل مساحيق الوجه الأمريكي.. تبدت الحقيقة المفزعة- المفجعة.. حكاية أمة تحتلّ (بجنودها، وبوارجها، ومجموعات مصالحها) الأراضي والمياه والسماء.. توقف أمام عنصرية الإمبراطورية الكونية، وكم هي شديدة التوحش.
رؤيته تسلّط الضوء على أكذوبة "الاعتراف بالآخر".. كان مندهشًا من طنطنة مثقفين ومفكرين عرب بذلك.. راح يأخذ بأيديهم إلى الشاهد بل والدليل القاطع.. إلى ملف: الهنود الحمر، ما يعنى أن فلسفة واشنطن تقوم على سياسة الخلاص من الآخر.
محطات كثيرة عالجها في هذا الملف الأمريكي.. كيف نشأت، وسيطرت، واحتكرت على حساب الآخرين؟!.. كان يعيد قراءة الواقع الحالي من منظور تاريخي.. يرى أن محاولات استبدال منظومة القيم العربية، بأجندة أمريكية (براقة الشعارات، والمفاهيم) خطة استراتيجية قديمة، تتأسس على مصالح خاصة.
تفسر تجربة "هيكل" من وجهة نظري ذلك التشابك الاستراتيجى بين القوى الكبرى، بغضّ النظر عن خططها الاستعمارية، وبين "إسرائيل".. إنها عوامل التاريخ التي صنع منها "هيكل" عدسة مكبرة لكشف محطات ملتهبة في حياة الأمة العربية.
يستغرب من أن العرب (وهذه عادتهم من وجهة نظره) غيَّروا أنسابهم لنيل رضا أمريكا.. يستنكر أن تكون كل مصالح الولايات المتحدة بالشرق الأوسط في حوزة العرب، بينما السياسة الأمريكية في معظمها منحازة ضدهم!
ظل يشبه الوضع العربي (خلال السنوات المنقضية من الألفية الجديدة) بـ"الدولة العربية في الأندلس"، حيث التقاتل على الغنائم والانبهار بالأجنبي،
وسط غفلة عن حقائق الواقع، والضياع في قضايا ومتاهات فرعية".. تصدى لعلل ومتناقضات المشهد السياسي العربي.
لخص الحكاية من بداية، حيث نشأة أنظمة وسط صراعات لا تعلمها.. على خريطة لم تقرأها.. مسجلة في وثائق لم تطَّلع عليها".. قبل يناير 2011، انتقد القاهرة الغارقة في اليأس، بعدما فرَّق حكامُها بين التاريخ والجغرافيا.. عندما مشى في جنازتها: التابع، والبائع، والمتواطئ، والحالم بكرسي السلطان.
تحول حديث "هيكل" إلى تحذير من تغييب دور مصر.. لم يكن متشائمًا وهو يتحدث عن غروب تدريجي، يهم بابتلاع شمس القاهرة.. عن مأساة المصريين في قاع الريف والمدينة.. توقف عند مصر المقهورة.. عن بلد شاخت فيه السلطة، فقدمت المظهر على الجوهر.
أطلق العنان لحزنه تجاه مأساة مصر عاصمة "التاريخ، والجغرافيا، والقوة الناعمة".. عن تواضع دورها الإقليمي.. عن محاولات تعويض سياسي تبديها حكومات الحزب الوطني دون جدوى.. أغضب كهنة الحزب عندما وصف آخر انتخابات رئاسية بـ"فرح يُستخدم فيه مأذون مزيف، ومعازيم من على المقاهي".
كاشف "أمانة السياسات" بأن "الدساتير توضع في بداية المراحل، لا في نهايتها".. بأنه "مسموح في النظم الجمهورية بتكوين عائلات سياسية، لا عائلات ملكية".. أعاد تذكيرهم بإعادة النظر في العقد شبه المكتوب في مصر: الناس تتكلم كما تشاء، والسلطة تتصرف كما تريد".
تتقافز عناصر التشويق، وهو يذكِّرنا بمحطة الثورة.. بنشوء وتكوين فكر مَن ثاروا (في يوليو 1952) وعلى مَن ثاروا.. إنها مرحلة النار والنور، عندما اكتوى المجتمع بنار النسيان، وصراع سلطة تنفيذية مع أطماع ملكية.. توقف عند الملك المقامر، والضابط الثائر.. أسقط بالأدلة والوثائق أقنعةً وأساطيرَ.
ظل يرى أن الصحافة المصرية (والإعلام في عمومه) في فترة أزمة.. الأداء المهنى يعاني ضعفًا عامًّا.. الأجيال الصحفية الحالية تواجه أوضاعًا متردية.. حالة الاستقطاب السياسي، تؤثر بدورها على الأداء المهني، لكنه لم يفقد الأمل في المستقبل، والأجيال الشابة.
في كل المحطات (التى نستحضرها في ذكرى مولده) أعاد الأستاذ هيكل الاعتبار لأشخاص ظلمهم التاريخ.. عشنا معه حضور الصور والأحداث والأشخاص، لكن فجأة قطع هذه المتعة، مستأذنًا في وقت طويل للراحة الأبدية، بعد عمر من الإنجاز، وحياة ظل يتفرد بها وحده.. إنها التجربة التى يستحيل على غيره تكرارها.