بعيدًا عن التعرض للزوبعة التي أُثيرت ـ بفعل فاعل ـ عن قرارالكونجرس الأمريكي بقطع مايسمَّى بالمعونة الأمريكية؛ وبعيدًا عن الرد على هذه "الهوجة" بأن نقول للكونجرس : ماتقدرش ! ( بطريقة المشهد الكوميدي في مسرحية الهمجي للفنان محمد صبحي ) ؛ وبعيدًا عن الإشارة إلى أن هذه المعونة الاقتصادية لاتستهدف معالجة جذورالفقرومحو الأمية من جذورها؛ أو إحداث تنمية حقيقية للمجتمع المصري، ولكنها للأسف استهدفت القضاء على القطاع العام الذي يُعد العمود الفِقري للدولة؛ والعمل على تشجيع القطاع الخاص الجشع بطبيعة تركيبته المالية، وبعيدًا عن الالتزام بالشروط المجحفة لصندوق النقد الدولي؛ بضرورة التزام مصر بالاقتصاد الحرمع تعويم الجنيه المصري ـ المأسوف على شبابه ـ دون وجود سند قوي حقيقي للبنية الاقتصادية الوطنية؛ حتى تملك القدرة على المنافسة لتحقيق التنمية المرجوَّة لمستقبل مصر الاقتصادي .
بعيدًا عن كل هذا.. وحتى لاأجد نفسي محاطة بجدل عقيم و"سفسطة" فجة من جيش المنتفعين من هذه الأوضاع الاقتصادية، يحضرني أن أذكركم وأذكِّر نفسي بشخصية محورية خطيرة في مسرحية " تاجر البندقية " لعميدالأدب الإنجليزي الكاتب الروائي " وليم شكسبير"؛ وهي شخصية المُرابي اليهودي " شايلوك" الذي كان يورِّط المحتاجين إلى قروض لتعديل مسار تجارتهم أو زراعتهم أو صناعتهم؛ أو للمساعدة في زواج ابنًا من ابنائهم؛ فكان هذا اليهودي يمنحهم القروض ـ بالفائدة المرتفعة جدًا ـ بما يفوق مافي حوزتهم من ممتلكات : منازل .. مصانع .. مواشي .. غلال .. آلات زراعية؛ لأنه بخبثه الفطري في التركيبة يعلم تمامًا عدم قدرتهم على السداد في المواعيد المحددة؛ فيصبح من حقه استلاب مايملكون مقابل سداد الدين وفوائده الباهظة، ولكنها ضرورة العوز والحاجة ؛ والحاجة هُنا .. أُمْ الاقتراض !
ولا مانع عندي ـ ولا أقصد أية إسقاطات لاسمح الله ـ من أن أستعرض معكم أحداث هذه المسرحية التي تدور أحداثها في مدينة البندقية؛ حيث يقترض تاجر مسيحي المال من المرابي اليهودي " شايلوك" لكي يساعد صديقه الحميم الذي يسعى للزواج من حبيبته ـ ياسلام على الصداقة والشهامة التي نفتقدها ـ ، وهي الوريثة الثرية لعائلة ارستقراطية في المدينة ـ والحبيب .. يامولاي كما خلقتني !! ـ . ولأن التاجرالمسيحي كان يحتقر" شايلوك " وكان دائمًا يتهكم عليه وعلى حدبته وأنفه المعقوف، انتهز المرابي الفرصة وفرض شرطًا انتقاميًا ـ قلت لاأقصد أية إسقاطات على الحاضر ـ مفاده أنه إذا لم يتم سداد المال في الوقت المقرر؛ فإنه سيقتطع رطلاً من جسد المقترض مقابل ماله . وبالفعل حدث ماتوقعه هذا الماكربفعل دراسته الجيدة لحال المقترض المسكين؛ ولم يستطع تسديد المبلغ فحاول " شايلوك " تطبيق عقوبة اقتطاع رطل اللحم المتفق عليه في شروط القرض، ولكن تحدث بعض المواقف والمفارقات قامت بها الحبيبة بشجاعة؛ إنقاذًا للصديق الشهم، وتنتهي المغامرة بنجاة التاجرالصديق من تنفيذ الشرط الجزائي أمام القضاء؛ ويخسر اليهودي المال والسمعة وابنته التي هربت مع حبيب لها إلى خارج البلاد .
ترى .. هل هناك وجه للشبه بين هذه القصة المؤثرة؛ وشرط " قطع" رطل اللحم من جسد المدين؛ وبين التهديد من اللوبي الصهيوني " الشايلوكي " بـ " قطع المعونة" الأمريكية، والتي ترتبط في الأساس بشروط اتفاقية لاناقة للجيل الحاضرفيها ولا جمل؛ تلك الاتفاقية التي أُبرمت في غفلة من الزمن ـ منذ مايقارب الأربعين عامًا ـ بشروط تبادلية للمنافع اللوجستية ؟ ناهيك عن التلويح المستمر بالويل والثبور وعظائم الأمور؛ بمحاربة كل جديد في مشروعات التنمية التي تقوم بها الدولة الآن على قدم وساق؛ من أجل استكمال البنية التحية التي علاها الصدأ منذ مايقرب من ثلاثين عامًا، لكنه اللوبي الذي لايريد لنا الانطلاق نحوالتنمية الحقيقية في شتي مناحي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، وإصلاح منظومة التعليم لتخريج أجيال قادرة على تحمُّل المسئولية الوطنية؛ ومد جسور الثقافة المعرفية بين أفراد المجتمع وبين العالم الخارجي .
إننا بانتظار الحبيب/الوطن .. بقيادته الوطنية؛ وبرجالاته المخلصين ذوي العقول المستنيرة؛ لوضع الخطط والمسارات لزيادة الإنتاجية للوصول إلى الاكتفاء الذاتي زراعيًا وصناعيًا وعلميًا وثقافيًا وتكنولوجيًا؛ لسد الفجوة الرهيبة التي صنعتها بعض سياسات العهود السابقة؛ و.. وقف نزيف شرايين الجسد المصري ليدخل مرحلة التعافي؛ ويتخطى مرحلة العوز والحاجة التي تضطره للمديونية والاستدانة، وحتى ننجو وينجو معنا الوطن من براثن المتربصين بمعاول الشر، لهدم قلاع نهضتنا التي شيدناها بالعرق والدموع والدم .
الوطن في حال حرب ٍ شرسة واضحة للجميع؛ ويحتاج في معركة البناء إلى كل " قرش" في خزانته؛ وليتني أملك الدعوة الجريئة للدولة؛ بإعادة " التأميم " للمصانع والشركات التي ذهبت لأيدي الرأسمالية اللاوطنية؛ التي تسعد بفتح الباب لكل مُرابي يشخب الدماء من عروقنا قبل الأموال، لأنهم شركاء في الحصول على المكاسب، ولا يهمهم مصالح الوطن والبشرعلى أرضه؛ ولا يعنيهم ـ حتى ـ قطع أجزاء من لحم الوطن لسداد الديون التي اقترضها الوطن ساعة الحاجة؛ وتبقى الحاجة .. أُمْ الاقتراض !!