أثار قرار إمارة قطر عودة العلاقات مع إيران جدلا خليجيا حول مستقبل التدخلات الإيرانية، على ضوء فتح قطر أبوابها للوجود الإيراني على أرضيها، وهو قد ما ينقل الأزمة القطرية إلى نقطة أكثر سخونة.
المتأمل في العلاقات الإيرانية- القطرية يرى أن ما يجرى الآن يختبئ تحت السطح منذ فترة طويلة، حيث إن العلاقات بين إيران والإخوان- أصحاب القرار الحقيقي في قطر- عميقة ومتجذرة، وتعود إلى مؤسس الجماعة الإرهابية حسن البنا، الذي ارتبط بعلاقة وطيدة بالمرجع الشيعي تقي الدين القمي، الذي أقام زمناً في مقر الإخوان بالقاهرة. وقد كان الخميني أيضا متأثراً بفكر سيد قطب، وأمر أتباعه بشراء كتبه. وقبل الثورة، شكل الإخوان وفدا تقابل مع الخميني في باريس قبل الثورة ، ثم زاره بعد نجاحها وفد منهم مكون من عبد الرحمن خليفة، مراقب الإخوان المسلمين في الأردن، وجابر رزق، ممثلا عن الإخوان المسلمين في مصر، وسعيد حوى، ممثلا عن الإخوان في سوريا، وغالب همت من الإخوان في سوريا، وعبد الله سليمان العقيل، ممثلا عن الإخوان في السعودية.
وحينما استضاف الرئيس الراحل أنور السادات شاه إيران، بدأ الإخوان في انتقاده، واستحكم الخلاف بينهم، والذي انتهى بحادث المنصة، واستشهاد الرئيس السادات. وبحسب شهادة ثروت الخرباوى، القيادي الإخواني المنشق، تحولت مجلة «الدعوة»، لسان حال الإخوان، إلى منبر من منابر الدفاع عن الثورة الإيرانية. وفى سبيل هذا الدفاع، غضت الجماعة الطرف عن الاعتقالات وأحكام الإعدام التي صدرت في حق العشرات من أهل السنة بإيران.
لم يتألم الإخوان من أجل إخوانهم من السنة، ولم يرمش لهم جفن للقمع الذي حدث لهم، بل إن مجلات الإخوان ونشراتهم ودعاتهم سكتوا عن هذا الأمر، وأسهموا في إلقائه داخل جب سحيق من النسيان، وكأن الأمر لا يعنيهم.
وعند وفاة الخميني عام 1989، أصدر المرشد العام للإخوان، حامد أبو النصر، نعياً قال فيه إن «الإخوان المسلمون يحتسبون عند الله فقيد الإسلام الإمام الخميني القائد الذي فجّر الثورة الإسلامية ضد الطغاة" .
لم تتوقف العلاقة بوفاة الخميني، ولكنها تحولت إلى مزيد من الرسوخ في عهد خليفته، على خامنئي، الذي أمر بتدريس كتب سيد قطب في مدارس الإعداد العقائدي للحرس الثوري الإيراني.
وذهب الباحث السوري طارق عزيزة إلى ما هو أبعد من ذلك في دراسته عن الحركات الإسلامية بين الدين والسياسة، وقدم أدلة عديدة على أن جماعة الإخوان شكلت الرحم الدافئ، الذي فرخ كل الحركات الإرهابية في العالم. وأوضح أن جماعات الإسلام السياسي لدى الشيعة والسنة على السواء، رغم كل ما بين الفريقين من خلافات عقائدية، وما يقومان به من تسفيه وتكفير متبادل كثيراً ما بلغ حد الاقتتال الطائفي، فإنهما على قلب رجل واحد، عندما يتعلق الموضوع بتسييس الدين، وتديين السياسة، ولديهما المنطق نفسه في رفض الدولة المدنية الحديثة.
وتتطابق وجهات نظر يوسف القرضاوي، منظر الجماعة الإرهابية، مع المرجع الشيعي الراحل محمد حسين فضل الله في استحالة الفصل بين الدين والسياسة، كما تشكل رؤيتهما للدولة المدنية على أساس أنها دولة تمثل الغرب الكافر المرجع الذي تستقى منه الجماعات الإرهابية وميليشيات الحرس الثوري الإيراني أفكارهم ومعتقداتهم، فضلاً عن قيام تلك التنظيمات ببث هذه الدعاية في أوساط المسلمين الأكثر التزاماً، واستغلال ما للدين من سلطة لدى المؤمنين، بهدف التأثير فى الخيارات السياسية لهم تحت مسوغات وذرائع يغلفها الدعاة بفتاوى يرافقها زخرف الكلام الديني، ويبلغ الأمر مداه مع التكفير الذي يمارس ضد الخصوم السياسيين، وضد فئات إسلامية أخرى منافسة، حتى يكاد البعض يتوهم أن الموقف السياسي بات جزءا من التدين.
وتشير الدراسة إلى الأسس التراثية التي تقوم عليها أيديولوجيات الحركات الإسلامية، وأخطرها الآداب السلطانية، وهى من المبادئ العميقة التي تعود للدولة الفارسية القديمة، وتحتوى على تصور لعلاقة السلطة السياسية بالدين عموماً، والدين الوثني على وجه الخصوص، وهو ما تم تأويله واستبطانه في الخطاب السياسي الإسلامي بأشكال وتجليات مختلفة. كما يعد من الأفكار المفتاحية التي يقوم عليها خطاب الحركات الإسلامية، ومنها الإخوان.
وتدلل الدراسة على ذلك بما قاله أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين "اعلم أن الشريعة أصل، والملك حارس، وما لا أصل له مهدوم، وما لا حارس له فضائع". وفى كتاب الفتاوى، يقول ابن تيمية "إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ". ويقول الماوردى في الأحكام السلطانية "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" .
وبالعودة إلى أصل تلك الأفكار، فهي منقولة عن نص فارسي بعنوان عهد أردشير، وأردشير هو أحد ملوك الفرس، قام في القرن الثالث الميلادي بإخضاع الإمارات الفارسية المتفرقة، ووحدها تحت حكمه، وأسس الدولة الساسانية. وكان هذا الرجل مهتماً بالدين، وأعاد إحياء الديانة الزرادشتية، وكان مما أكده ما تضمنه قوله " اعلموا أن الملك والدين إخوان توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس الملك وعماده ، ثم صار الملك يعد حارس الدين، فلابد للملك من أسه، ولابد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع، وما لا أس له مهدوم".
هذه المزاوجة الفارسية بين الدين والسلطة اندرجت في متن التراث الإسلامي على يد عدد من فقهاء المسلمين الذين عملوا على تبنيها إسلاميا في إطار خدمتهم للدول السلطانية، التي عاشوا في كنفها، فكانوا يكتبون تحت إشرافها، وينظرون لشرعيتها، وبات الخليفة أو الإمام ظل الله في الأرض، وطاعته من طاعة الله.
وقد وجدت الحركات الإسلامية في أدبيات ذلك الزمان ما يدعم مشروعها، وينسجم مع رؤيتها، سواء تأسست نظرية السلطة لديها على الإمامة، كما عند الشيعة، أو الخلافة كما لدى الإخوان. ولذلك، كان الإخوان يحلمون منذ زمن بعيد بثورة على النمط الإيراني. وكانت 25 يناير تسير في الاتجاه نفسه، لولا وعى الشعب المصري. ثم ظهرت القبلات والأحضان بين الرئيس المعزول محمد مرسى، والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لتؤكد متانة وعمق العلاقة.
بعد هذا الاستعراض الطويل لجذور التلاقي الإخواني الإيراني على أرض قطر، يمكننا توقع احتضان إيران للجماعة المنبوذة، وأن حلفاً ما قد يتشكل بين جماعة الإخوان الحاكمة في قطر، وتركيا، وإيران، وذلك لنشر مزيد من القلق والتوتر، والدعوة للثورة في الخليج والبلدان العربية. وقد بدت في الأفق ملامح ذلك التحرك القادم بظهور مطالبات بخروج قطر من منظمة التعاون الخليجي، وهو ما يفرض على دول المواجهة (مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين) التفكير في تأسيس تحالف جديد، يكون عنوانه مواجهة موجات القلق الإخوانية، المدعومة إيرانيا.